فلسطين مرحلة تاريخية جديدة

حميدي العبد الله

كاتب وباحث عربي في الشؤون السياسية

Hamidi@hotmail.com

 

 

اجتازت القضية الفلسطينية منذ قيام إسرائيل وحتى الآن أربع مراحل أساسية:

 

المرحلة الأولى

تمتد منذ عام 1948 حتى 1 كانون الثاني 1965. في هذه المرحلة راهن الشعب الفلسطيني على الحركة القومية التحررية العربية التي قادها الرئيس جمال عبد الناصر، حيث اعتقد غالبية الشعب الفلسطيني أن هذه الحركة التي تفجرت بعد نكبة فلسطين سوف تقود إلى تحرير فلسطين وتأمين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ودعم الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية بقوة كبيرة. إن هذه الحركة، استناداً إلى هذا الواقع الراهن، ولكن مع حلول عام 1965، وتحديداً بعد سقوط الجمهورية العربية المتحدة ووقوع الانفصال، بدأت تتبلور قناعة لدى غالبية الشعب الفلسطيني بأن رهاناتها لم تكن في محلها، وأن الحركة التحريرية العربية استنزفت في معارك مع الاستعمار والإمبريالية، وخسرت زخمها الثوري، ولم تعد قادرة على الارتقاء إلى مستوى الطموحات الوطنية الفلسطينية...

 

المرحلة الثانية

في هذا السياق توفرت شروط ولادة الثورة الفلسطينية التي انطلقت رصاصتها الأولى في 1 كانون الثاني 1965، حيث بدأت المرحلة الثانية في النضال الوطني الفلسطيني والتي استمرت حتى عام 1974. في هذه الفترة راهن الشعب على الكفاح الذي اتخذ طابعاً شمولياً بعد هزيمة عام 1967، وشارك الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج في مسيرة الكفاح المسلح. ولكن هذه المسيرة التي بلورت الكيان الوطني الفلسطيني عجزت عن تحقيق انتصارات سياسية كبرى باتجاه تحرير أي جزء من الأرض الفلسطينية. وبدأت مسيرة الكفاح المسلح تدخل مآزق حقيقية في ضوء جنوح قيادات نافذة إلى المراهنة على الخيار السياسي والدبلوماسي. ولقد لعبت الأموال النفطية دوراً كبيراً في إنشاء عدد كبير من الكوادر مما ولد شريحة داخل حركة التحرر الوطني الفلسطينية بدأت تساوم على خط الكفاح المسلح مدعومة بالتحولات التي شهدها الوطن العربي بعد وفاة عبد الناصر، وبعد تحول مصر إلى خيار الارتباط بالغرب وبالتحديد الولايات المتحدة. ومع حلول عام 1974، وبعد أن ثبت أن حرب تشرين لم تقد إلى تحرير كامل الأراضي العربية، وأن هذه الحرب استغلت من قبل الرئيس المصري أنور السادات للسير في طريق التسوية المنفردة، اختلت المعادلات داخل حركة التحرر الفلسطينية لصالح التيار الذي يزدري المقاومة والكفاح المسلح ويراهن فقط على العمل السياسي والنشاط الدبلوماسي لاستعادة بعض الحقوق الفلسطينية.

 

المرحلة الثالثة

ومن هنا بدأت المرحلة الثالثة من مراحل تطور القضية الفلسطينية وتميزت بسمتين أساسيتين: الأولى، الاستعداد للاعتراف بإسرائيل، والثانية عدم الرهان على مسيرة الكفاح المسلح. ورغم أن مسيرة الكفاح المسلح والانتفاضات لم تتوقف طيلة هذه المرحلة التي تمتد منذ عام 1974 حتى فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية الأخيرة، إلا أن الانتفاضة والمقاومة المسلحة عبرت عن قوة إرادة الشعب الفلسطيني وتصميمه على الكفاح أكثر مما عبرت عن قرار تقف وراءه القوى الفاعلة في الحركة الوطنية، بل إن هذه القوى الفاعلة وصلت إلى مرحلة دفعتها إلى نعت بعض نشاط المقاومة بالإرهاب، وحتى الانتفاضة ووجهت بتحفظ كبير من قبل جناح واسع في الحركة الوطنية.

 

المرحلة الرابعة

ولكن مسيرة المفاوضات والرهان على النشاط السياسي والدبلوماسي في ظل مواصلة إسرائيل لتهديد الأراضي الفلسطينية والاعتداء المتواصل على الشعب الفلسطيني، وفشل اتفاقات أوسلو، كل ذلك بدد الرهان على مسيرة المفاوضات والتسوية، وبدأت تتوفر شروط وظروف المرحلة الرابعة التي دخلتها حركة التحرر الوطني الفلسطيني بعد انتفاضة الأقصى، وبعد الأزمة التي لحقت بحركة فتح، والتي دارت في جزء منها حول الموقف من الخيارات الكبرى، وتحديداً الموقف من الانتفاضة والكفاح المسلح، حيث انحاز الجناح الميداني في حركة فتح إلى جانب مسيرة الكفاح المسلح وعدم حصر الرهان على النشاط السياسي والدبلوماسي.

 

سمات المرحلة الرابعة الجديدة

ويمكن القول إن المرحلة الجديدة الرابعة التي دخلتها القضية الفلسطينية تنطوي على سمات تاريخية:

 

السمة الأولى، نجاح انتفاضة الأقصى في تحرير جزء أساسي من الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، أي تحرير قطاع غزة لأول مرة وجلاء قوات الاحتلال وتفكيك المستعمرة في سابقة هي الأولى في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني منذ عام 1948 حتى الآن. وبدهي أن هذه النتيجة التي هي ثمرة نضال الشعب الفلسطيني في مراحله المختلفة، قد أكدت أن الرهان على الخيار السياسي والدبلوماسي هو رهان غير مجدٍ وخاسر كما بينت التجربة بين أعوام 1974 و2000، وأن الانتفاضة والمقاومة، ورغم الكلفة الباهظة التي يدفعها الشعب الفلسطيني، هما الطريق الأقصر كي ينال الشعب الفلسطيني حقوقه، وانعكس ذلك بتحول في مواقف غالبية الشعب الفلسطيني وانحيازها إلى جانب القوى التي تؤمن بخيار المقاومة وحجب هذا التأييد عن القوى التي لا تزال تراهن على خط التسوية والنشاط الدبلوماسي.

 

السمة الثانية، توجت نتائج الانتخابات التي أسفرت عن فوز حماس الكاسح في البلديات وفي المجلس التشريعي انتقال راية المقاومة إلى القوى التي تصر على مواصلة الكفاح حتى ينال الشعب الفلسطيني كامل حقوقه، وإعادة حركة التحرر الوطني إلى جذورها الحقيقية، وخلعت ثوب المساومة والتنازل، وأدارت ظهرها للقوى التي خارت قواها وآثرت المساومة بدلاً من الارتقاء إلى مستوى التصميم الذي أبداه الشعب العربي الفلسطيني.

 

السمة الثالثة، أسقط فوز حماس وانتقال راية المقاومة إلى القوى الأكثر جذرية، الكثير من الخروق، وقلب مسار التطورات، فبعد أن كان الرهان على التسوية وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، حل الآن مسار يشبه ما كان عليه الوضع إبان اندلاع رصاصة الثورة الأولى في عام 1965، ولكن المسيرة الجديدة استندت إلى دروس التجارب السابقة الغنية، كما أنها تأتي في سياق بدء مسيرة تحرير الأراضي الفلسطينية بقوة الفلسطينيين الذاتية وباعتمادهم على أنفسهم، وفي ظروف في غاية الصعوبة. وهذا يعني أن الثورة الفلسطينية في مرحلتها الجديدة ستكون أكثر نضجاً، وأكثر قدرة على انتزاع المكاسب، والأرجح أن الانتكاسات الكبرى أصبحت من الماضي بعد أن تمرس الشعب الفلسطيني وقواه الرئيسية في مدرسة النضال الكبرى.

 

وهكذا تبدأ فلسطين مسيرة التحرير.