من العراق إلى كاركاس
أميركا اللاتينية والعالم العربي في مواجهة الامبريالية

د. غالب نور الدين

 


قد يتساءل البعض كيف يكون للمقاومة العراقية تأثير على ما يجري في أميركا اللاتينية الواقعة في الجزء الآخر من كوكب الأرض؟ وما هي التأثيرات المتبادلة بين قضية أميركا اللاتينية وحركة التحرر العربي؟ وما هي أوجه التلاقي بين الساحتين المتباعدتين جغرافياً؟ وهل يدرك المقاومون العرب أهمية الاستفادة من التحولات في أميركا اللاتينية وإقامة التحالفات مع قواها الثورية الواعدة؟ وهل يشهد العالم بداية انتفاضة عالمية تخوضها شعوب العالم الثالث ضد الهيمنة الامبريالية؟

 

تشافيز في قلوب المقاومين العرب
في احتفال عيد انتصار المقاومة، في الضاحية الجنوبية لبيروت عقب عدوان تموز 2006، ارتفعت صورة الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز بارزة أمام مئات الآلاف من المحتشدين، وفي كلمته، حيّا قائد المقاومة السيد حسن نصرالله تشافيز شاكراً موقفه الشجاع إبان العدوان الإسرائيلي، وأعلنه صديقا كريماً. إبان العدوان تردد في الصحافة وكلام الشارع أن تشافيز هو "أحسن رئيس عربي" كونه وقف ضد العدوان الإسرائيلي وهاجم الولايات المتحدة ناعتا الرئيس جورج بوش "بالمجرم الأكبر الذي يجب محاكمته"، ووصل به الأمر إلى حد التهديد بطرد السفير الإسرائيلي. هذا في حين أن أنظمة عربية عديدة وقفت متفرجة وبعضها حملت المقاومة مسؤولية ما يحصل، ولم تتجرأ تلك التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل على القيام بأي عمل ولو تهديداً. هنا اكتسب تشافيز قيمته عبر موقف مشرف فتح بعدا عالميا يساهم في مسيرة تضامن الشعوب التواقة للتحرر، وقد يكون أيضا حرك شعوب ونخب عديدة في العالم لترفع صوتها.

 

أميركا اللاتينية والعدوان على العراق
عند بداية العدوان الأميركي على العراق، حبست معظم دول العالم الثالث أنفاسها، إذ شعرت أن كل دولة منها يمكن أن تكون عراقاً آخر في أي وقت تريد الولايات المتحدة اجتياحها، رغم كل الشرعيات الدولية والمواثيق وتحت ذرائع مختلفة. فأفغانستان تم اجتياحها تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، والعراق بحجة امتلاك أسلحة الدمار الشامل.
بالنسبة لأميركا اللاتينية فان ذرائع الولايات المتحدة معروفة ومهيأة لاستعمالها في أية لحظة، ومنها مكافحة المخدرات، وحماية أسس الديمقراطية والحرية. من هنا شعرت أميركا اللاتينية بأنها مهددة لان تكون في يوم من الأيام عراقا جديداً. وفي ظل هذا الصمت والوجوم، الذي خيم على العالم الثالث في بداية الحرب على العراق، وقف هوغو تشافيز يندد بالعدوان ويهاجم جورج بوش لحد وصفه بمجرم حرب. هذا الموقف الشجاع اعتبره بعض أدعياء الواقعية في أميركا اللاتينية متهورا، واستغل أعداء تشافيز هذا الأمر لمهاجمته وهو الذي استطاع أن يهزم كل محاولات واشنطن لإسقاطه عبر انقلاب عسكري وتظاهرات، ولكن تشافيز خرج منتصرا عبر الاحتضان الشعبي في الداخل الفنزويلي.
لم تمضِ شهور على سقوط بغداد حتى بدأت بوادر المأزق الأميركي، إذ تصاعدت عمليات المقاومة فأغرقت الاندفاعة الأميركية متخبطة في وحول الرافدين. إن المقاومة أخذت تحول الانتصار الأميركي إلى هزائم متراكمة، بالإضافة إلى انكشاف الكذبة الأميركية وفضائحها في أبو غريب وجرائمها الوحشية. نتيجة ذلك بدأ التحالف الذي أعدته الولايات المتحدة في الاجتياح يتصدع بانسحاب عدة دول منه. وكلما تفاقمت الخسائر الأميركية وتعثرت سياساتها، ظهرت أصوات جديدة منددة في العالم، حتى وصل الأمر إلى ارتفاع هذه الأصوات في قلب الولايات المتحدة نفسها منددة بسياسات المحافظين الجدد وحرب العراق. كل هذا ترافق مع حجم الخسائر الأميركية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. وكلما تعمق المأزق الأميركي ارتاحت شعوب العالم الثالث واندفعت حركات التحرر فيها، وأميركا اللاتينية هي المعلم الأبرز لذلك.
إن التوق الأميركي اللاتيني للتحرر والوحدة والعدل اخذ طريقه بقوة وأصبح تشافيز الشجاع رمزاً لهذه الاندفاعة ذات الجذور التاريخية، من بوليفر وميرندا وسان مارتين، الذين قادوا حركات الاستقلال في القرن التاسع عشر وحلموا بأميركا حرة وموحدة. هذه الحركة الجديدة حملت إلى جانب مهمة التحرر الوطني والوحدة، مضمونا اجتماعيا يعمل لتحقيق عدالة اجتماعية (اشتراكية القرن الواحد والعشرين حسب تشافيز) فالحركة اليسارية في أميركا اللاتينية بدأت تحقق انتصارات باهرة، لتشمل اليوم ثلاثة أرباع القارة واعدة في المستقبل القريب بتحقيق انجازات تاريخية كبرى وذات تأثير عالمي كبير.

إن هذه الحركة تحدد الأهداف التالية:
1- توحيد أميركا اللاتينية وإقامة جبهة سياسية اقتصادية شاملة.
2- تحقيق العدالة الاجتماعية عبر تطبيق الاشتراكية.
3- رفض النيوليبرالية المتوحشة وإقامة الاقتصاد الاجتماعي.
4- التعاون مع مختلف المحاور الاقتصادية العالمية على أساس المصالح الوطنية والخروج من احتكار الولايات المتحدة وهيمنتها الأحادية على شؤون القارة.
دأبت الولايات المتحدة في الماضي، وعلى مدى قرن ونصف، على الوقوف بالمرصاد حيال محاولات تحقيق هذه المبادئ. فتارة تستعمل الانقلابات العسكرية وتمول الثورات، وأحيانا كثيرة تلجأ إلى التدخل العسكري المباشر، والأمثال على ذلك كثيرة في غواتيمالا والدومينيك والمكسيك وبنما وكوبا وغرنادا، بالإضافة إلى تمويل وتدريب الكونترا في نيكاراغوا والسلفادور، ومساندتها لبريطانيا ضد الأرجنتين في حرب جزر المالوين.
أما اليوم، وبسبب مأزقها في العراق، فإن الولايات المتحدة تجد نفسها عاجزة عن استعمال ذراعها العسكرية والقيام بمغامرات جديدة. فمحنة العراق أخذت تعصف في الداخل الأميركي مما ساهم في تعطيل ولجم المحاولات العسكرية الجديدة. وهذا الأمر ساعد في فتح الباب واسعا أمام سرعة التحولات الكبرى في أميركا اللاتينية. ويرى المراقب أنه في هذه السنوات الثلاث الأخيرة تمكنت قوى التغيير من تحقيق الكثير من الانتصارات:
1- في فنزويلا رسخت قيادة هوغو تشافيز الذي تمكن من إحباط محاولات الإدارة الأميركية للإطاحة به، واندفع باتجاه تحول اشتراكي ينسف ما تبقى من آثار السياسات النيوليبرالية. وقد أسفرت الانتخابات التي جرت في أواخر العام الماضي عن فوزه الساحق بنسبة تتعدى 62%.
2- في البرازيل أعيد انتخاب اليساري لولا دا سيلفا بنسبة عالية.
3- في الأرجنتين وتشيلي انتصر اليسار المعارض للنيوليبرالية.
4- كان لانتصار الرئيس الجديد في بوليفيا، ايفو موراليس، وقع الصاعقة على واشنطن، كونه حليف تشافيز وكاسترو، ومناضل يساري متطرف بنظرها. فقام مباشرة بتأميم الصناعات النفطية والغاز، التي كانت في قبضة الاحتكارات الأميركية الظالمة. ولم تكن بوليفيا تنال سوى النذر اليسير في أبشع عملية استغلال لهذا البلد الفقير.
5- في الإكوادور فاز المرشح ذو التوجهات الاشتراكية كوريا، وفي نيكاراغوا عاد القائد الثوري السانديني مانويل اورتيغا رئيسا في انتخابات الصيف الماضي.
6- انطلق مشروع التعاون الأميركي اللاتيني عبر إقامة اتفاقات محاور اقتصادية وتعاون على مدى القارة الجنوبية (ميكروسور)، مقابل فشل معاهدة التعاون للأميركيتين، التي تهيمن عليها السياسات الأميركية النيوليبرالية. وفي مؤتمر مار دي لابلاتا الذي عقد في اواخر 2005 أعلن تشافيز موت المعاهدة ووجوب القيام بدفنها.
7- تقدمت مسيرة التحرر من احتكار الولايات المتحدة، عبر إقامة علاقات تجارية واقتصادية واسعة مع أوروبا والصين واليابان. كما أن بعض الدول كسرت الاحتكار الأميركي لسوق السلاح بحيث أن تشافيز قام بعقد صفقات شراء لأسلحة روسية وصينية، بالإضافة إلى إقامة تعاون مع إيران في المجالات النفطية وغيرها.
8- عادت كوبا إلى حضن العائلة اللاتينية بعدما تم عزلها بواسطة ضغوط واشنطن لمدة أربعة عقود.

 

سياسات واشنطن ومأزقها بين العالم العربي وأميركا اللاتينية
إن مأزق الولايات المتحدة في العراق وسائر منطقة الشرق الأوسط، وصولا إلى أفغانستان، يتقاطع مع المأزق في أميركا اللاتينية. فكلتا المنطقتين يراد لها أن يكونا تحت النفوذ الأميركي ومجالا لاحتكاراته. فأميركا اللاتينية تعتبرها واشنطن حديقتها الخلفية. أما منطقتنا العربية فهي بنظرهم حيوية لجهة الاستثمارات النفطية والأهمية الإستراتيجية والاقتصادية، والتي تبغي من خلالها التحكم باقتصاد العالم. وفي كلتا المنطقتين تسعى واشنطن للسيطرة التامة فلا تتورع عن استخدام القوة العسكرية من اجل تحقيق أهدافها. وما اندفاعاتها العسكرية في الماضي والحاضر سوى اكبر دليل على ذلك.
إن الهجمة العسكرية واحتلال العراق بذرائع كاذبة كان يراد منها السيطرة ورسم خريطة شرق أوسط جديد، يؤسس للهيمنة المطلقة للولايات المتحدة على موارد العالم الحيوية، ويرهب الشعوب المظلومة ويحبط أحلامها في الإفلات من قبضة الامبريالية. ولكن حساب الحقل لم يأت مطابقًاً مع حساب البيدر، فالانتصار الذي أرادته أميركا منطلقا للسيطرة عبر العراق، تحول إلى هزيمة، باعتراف معظم المحللين والمفكرين والساسة الأميركيين، وأصبح العراق كابوس الإدارة الأميركية.
في بداية الغزو كانت دوائر واشنطن تتحدث عن عملية عسكرية ترسم معالم شرق أوسط جديد، ديمقراطي ونيوليبرالي، تتغير فيه دول وأنظمة وثقافات، ليصبح الحديث اليوم وبعد ثلاث سنوات يدور حول أسباب الفشل وكيفية الخروج من المستنقع العراقي. هذا التغيير حصل نتيجة الخسائر الاقتصادية والسياسية والعسكرية، والسقوط الأخلاقي بانكشاف الإدارة الأميركية أمام شعوب العالم، كاذبة وبربرية ومعتدية. من هنا تحول المأزق العراقي إلى أولوية داخلية في المجتمع الأميركي تحكمت بنتائج انتخابات الكونجرس عام 2006 وسببت خسارة الجمهوريين، كما أن إدارة بوش خسرت التأييد الشعبي لها وانحدرت إلى اقل من 30%.
من الواضح أن محنة الولايات المتحدة في العراق جلبت نعمة على شعوب أميركا اللاتينية. فعجز واشنطن عن القيام بأية مغامرة عسكرية جديدة بسبب مأزقها العراقي والداخلي، أتاح الفرصة لتعميق التحولات الأساسية في مسيرة أميركا اللاتينية واندفاعاتها نحو التحرر.
إن محاولات واشنطن الإطاحة بالأنظمة المعاندة بالوسائل السياسية والاقتصادية والإعلامية قد باءت بالفشل، وآخرها كان محاولة إسقاط تشافيز عبر انقلاب عسكري وتظاهرات خرج منها الرئيس الفنزويلي أكثر قوة بالتأييد الشعبي الواسع لنهجه، كما أن أنصار واشنطن يتراجعون باستمرار أمام كل استحقاق انتخابي في البلدان اللاتينية، فالضغوط السياسية والاقتصادية لم تعد ذات جدوى في مواجهة المجموعات اليسارية، التي صارت تشكل ثلاثة أرباع القارة الجنوبية. ولم يعد ممكنا لواشنطن استفراد أية دولة وعزلها. كما أن الحملات الإعلامية فشلت في إعادة تلميع صورة الولايات المتحدة وتسويق سياساتها. إن معظم شعوب القارة، تدرك أن سياسات واشنطن وحلفائها قد جلبت الويل لهم بما يعانونه من فقر وظلم اجتماعي، إلى جانب المديونية الهائلة التي يرزحون تحت أعبائها.
إن عملية التحرر في أميركا اللاتينية قد تعمقت لتصبح ثقافة في مختلف جوانبها الفنية والفكرية والدينية. وجميعها تنشد العدالة الاجتماعية ورفع الظلم والهيمنة والقهر. وتقوم الكنيسة الشعبية بدور بارز في الإطار الاجتماعي والديني، وتساهم في بعث فهم جديد للمسيح على أساس انه ليس مجرد ملك مقدس يتعاطف مع الفقراء، بل هو فقير يناضل إلى جانب إخوته المظلومين. والمتجول في أحياء مدن أميركا اللاتينية الفقيرة، يلاحظ أهمية الكنائس الشعبية البسيطة، كظاهرة تبشر بتحولات كبرى تطال جوهر النظرة الدينية ودورها الملتزم في الكفاح ضد الظلم. ولا عجب أن يعلن تشافيز انه بصدد العمل لقيام اشتراكية مسيحية ماركسية– لينينية.

 

نحن وأميركا اللاتينية
إن شعوبنا وشعوب أميركا اللاتينية تواجه عدوا واحدا هو الامبريالية المتوحشة، التي تقودها الإدارة الأميركية عبر سياساتها النيوليبرالية، وجموحها للسيطرة على الموارد ونهب الخيرات، ومنع الأمم العربية واللاتينية من النهوض والتوحد. ولكي تواجه شعوبنا وأممنا هذه الامبريالية العالمية القوية، فان عليها أن تتوحد لتشكل جبهة واسعة تضم كل الشعوب التائقة لكسر نير العبودية، وسلوك طريق النهضة والتقدم والعدالة. فالعالم صار اليوم ساحة صراع متفاعلة، وكل جزء منه يؤثر ويتأثر ببقية الأجزاء. لقد أدركت بعض قيادات أميركا اللاتينية هذا الأمر ونهجت باتجاه الانفتاح على عالمنا العربي ودعم نضالات شعوبه، وتشافيز كان اكبر تعبير عن ذلك. كما أن البرازيل مدت يدها باتجاه العالم العربي، عبر مؤتمر التعاون العربي البرازيلي، الذي أقيم في عاصمة البرازيل عام 2005.
إن آفاق التعاون العربي– اللاتيني واسعة جداً وتطال مختلف المجالات العلمية والصناعية والزراعية والنفطية، إلى جانب آفاق استثمارات واسعة في مجالات التنمية والتجارة لمصلحة الطرفين بفتح أسواق واسعة لا تخضع لإملاءات الامبريالية بل تساعد في كسر قيود التبعية للمراكز الاستعمارية.
من المهم جداً إدراك أهمية الجاليات العربية في مختلف بلدان أميركا اللاتينية، والتي تقدر بقيمة 15 مليون من أصول لبنانية وسورية وفلسطينية. هذه الجاليات متجذرة في نسيج المجتمعات، وقلما توجد منطقة أو مدينة لاتينية ليس فيها جالية عربية فاعلة. هذه الجاليات يمكن أن تلعب دورا بارزا كجسر تعاون وتواصل بين شعوب وأمم المنطقتين.
هل تدرك شعوبنا وقياداتنا أن معارك التحرر من الظلم الامبريالي تتطلب جبهة عالمية واسعة لكل الشعوب المظلومة والتواقة للتحرر والعدل؟
قد يكون المطلوب في هذه المرحلة نداء يقول: "أيها المظلومون في العالم اتحدوا".

 

د. غالب نور الدين