اللبنانيون بين نعمة "الحوار" ونقمة "الفوضى البنّاءة" |
محمد خليفة
الحوار والتشاور حاجتان أساسيتان لتسوية العلاقات اللبنانية– اللبنانية، حقيقة أقرّت بها مختلف القوى السياسية. انطلق الأول، الحوار، على طاولته، ثمّّ توقّف، بفعل حرب تموز. استلم الراية الثاني، التشاور، ثمّ تعطّّل الآخر بدوره. أصيب دوره بعطب أيضاً، بفعل فاعل، أو مفعول به.
وبعد تعطيل الأول، وعطب (أو إعطاب) الثاني، انتقل الاحتكام إلى طاولة الشارع (أو
الشوارع )، وهنا الطاولة بلا سطح ولا سقف... ولا دستور. ميزة هذه الطاولة أن
أقدامها، عبارة عن الأعلام اللبنانية، وسطحها ورايات الأطياف (الطوائف) اللبنانية
كافة، ومع أنها ترمز إلى وحدة الموقف اللبناني، إلا أنها ترمز أيضاً إلى لبنان
الواحد (دون ناصر أو معين) المدجج بالطائفية... ولو كره الموالون والمعارضون.
بعد اغتيال الرئيس الأسبق رفيق الحريري في شباط العام 2005، أخذت مجموعة من
اللبنانيين، قوى 14 آذار، على عاتقها "تحرير" البلد من الوصاية السورية، مستفيدة من
صحوة ضمير الدول "الصديقة" غير الشقيقة على طريقة "رب شقيقة لم تلدها لك عروبتك".
خرجت جماهير هذه القوى إلى ساحة الشهداء لتحقيق مطلبها. فكان لها ما أرادت. ليس هذا
فحسب، بل أخذت الحماسة هذه المجموعة إلى "تحرير" قصر بعبدا، مقر الرئاسة الأولى، أي
أنها تريد رأس الملك، إقالة رئاسة الجمهورية. أتى الرفض من الصرح البطريركي، بأنها
لا توافق على إسقاط زعيم ماروني في الشارع. انتهى الهجوم الأول... انكفأ جمهور
المعارضة من الشارع.
بعد أحداث حرب تموز على لبنان، والانتصار الذي حققته المقاومة على العدو
الإسرائيلي، أخذت مجموعة أخرى من اللبنانيين (قوى الأول من كانون الأول) على
عاتقها، شن هجوم على قوى السلطة ممثلة برئيس الحكومة، وبعد أخذ ورد، عاد كابوس
"الشوارع اللبنانية" إلى الواجهة. فخرجت قوى المعارضة إلى ساحتين بدل الساحة
الواحدة. الهدف واضح ومعلن، رأس الوزير الأول هو المطلوب (أي إقالة رئيس الحكومة).
أتى الردّ سريعاً، مفتى الجمهورية استعمل حق الفيتو، يرفض سقوط الرمز السني في
الشارع. تبددت آمال المعتصمين بالهجوم على السراي الحكومي. انتهى الهجوم المضاد...
دون انكفاء جمهور المعارضة (الحالية) من الشارع.
وفي موازاة الهجومين الأول والثاني، المعركة الإعلامية المستعرة مستمرة، مستعيرة
شتى أنواع فنون التأثير على أعصاب المواطن التي استقالت من العمل إلاّّّ على
افتتاحيات نشرات الأخبار، والتقارير، والفلاشات خلال "الاستراحة" الإعلانية،
ومقالات الصحف .... لمن بقي له القدرة على التركيز للقراءة.
باختصار، فإن كل ما تشهده الساحة اللبنانية منذ عام ونصف تقريباً، هو ألف باء
"الفوضى البنّاءة" التي نظّرت لها وتعمل عليها الإدارة الأميركية، والتي تريد من
خلالها إعادة ترتيب التوازنات داخل الدول، ومنها لبنان. يعزز هذه المنطق على
المستوى اللبناني، الحديث عن الدعم المستمر للإدارة الأميركية بشخص رئيسها جورج بوش
لثورة الأرز في لبنان. فضلاً عن الدعم الصريح الذي تنقله باستمرار وزيرة الخارجية
الأميركية رايس للرئيس السنيورة وحكومته في لبنان، من خلال مساندتها لحلفائها في
المنطقة ممن تصفهم "المعتدلين العرب".
التظاهرات في لبنان سيف ذو حدّين، ففي الوقت الذي تُرجّح كفّة الديمقراطية وحرية
التعبير على كفّة القمع وكمّ الأفواه. من ناحية أخرى يُظهّر التظاهر والتعبير من
خلال الشارع الانقسام العمودي بين الطوائف بائتلافات وتحالفات أخرى، ولو كانت تحمل
عناوين سياسية، فهذا لا يلغي من الحقائق شيئاً، لاسيما وأن الإدارة الأميركية تدعم
الطوائف في الدول العربية لا الدول تحت عناوين سياسية. وما الحديث عن خطر الهلال
الشيعي، ودعم الشيعة في وجه السنة في العراق، ودعم السنة في وجه الشيعة في لبنان،
إلا دليل قاطع على أن الإرادة الأميركية تقوم بتقطيع أوصال الدول لتنتهي بها إلى
فدراليات طائفية تتناحر فيما بينها.
وإذا كانت القيادات اللبنانية استطاعت عبر طاولة الحوار تجاوز الاستحقاقات الكبرى
التي كادت أن تودي بالبلاد والعباد إلى الهلاك في المرحلة السابقة، وفي مقدمة هذه
الاستحقاقات جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فإن ما عادت وأظهرته التظاهرات
والتظاهرات المضادة، لا يطمئن إلى مستقبل التحركات الشعبية التي سرعان ما تأخذ منحى
طائفياً ومذهبياً. دون أن يعني ذلك الموافقة على المس بالحريات العامة ومنها حرية
التعبير عن الرأي والرأي الآخر.
لقد أثبت اللبنانيون أنهم قادرون على الالتقاء على كثير من القواسم المشتركة على
قدر ما هم مختلفون حول الكثير الكثير من القضايا الأخرى. وليس أقلّ نقاط التوافق،
ضرورة الحفاظ على اتفاق الطائف وتطبيقه. وقد أثبتت التجربة بأنّ باب الحوار
والتشاور هو المدخل الصحيح لحلّ النزاعات والخلافات فيما بينهم.
هذا ما كان سابقاً، فهل تعيد أيام الحوار والتشاور نفسها؟ أم أنّ أيام "الحرب
الأهلية" هي فقط من تعيد نفسها؟ لا قدّر الله.
محمد خليفة