قراءة في كتاب |
د. جوزف عبدالله
العرب والعولمة
ثمة إجماع في لبنان على أن البلد يعيش في أزمة اقتصادية حادة. وجميع اللبنانيين يتذمرون، مطالبين بتغيير واقع الحال. وثمة الكثير من المباحث التي انكبت على مناقشة هذه الأزمة وضعها المثقفون والمختصون: مقالات صحفية وكتب منشورة ودراسات متخصصة... والسياسيون الفاعلون في معظم الحكومات المتعاقبة منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي يكثرون، مع أقلامهم النيوليبرالية، من التصريحات في وسائل الإعلام، لتبرير برامج تضمنتها ورقات مزعومة "إصلاحية": الخطط "الربيعية"، باريس1، باريس2، وبيروت1 الذي لم يبصر النور، وآخرها باريس3. وعقدت مؤتمرات متعددة للرد على هذه المشاريع، كان آخرها وأبرزها المؤتمر الذي عقده "المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق" في صيف 2006، لمناقشة ورقة بيروت1.
في خضم هذا الأدب الاقتصادي المجادل في طبيعة الاقتصاد اللبناني وسبل تغييره، يأتي
كتاب غالب أبو مصلح، "أزمة الاقتصاد اللبناني: الواقع والحلول"، ليشكل واحدة من
أنضج المحاولات في نقد توجه المشاريع الحكومية الاقتصادية المزعومة "إصلاحية".
إن خبرة المؤلف، لكونه شغل منصب مدير في مصرف لبنان، ومشاركته في العديد من الحلقات
الدراسية التي نظمها هذا المصرف، تعطيه القدرة على الإلمام بالمعطيات الاقتصادية
اللبنانية وبالتوجهات العامة للسياسة الاقتصادية الرسمية. كما أن تكوينه الفكري،
وتجربته السياسية، والتزامه بقضايا الغالبية الشعبية المتضررة من سوء النهج
الاقتصادي الرسمي، المفرط في الليبرالية سابقاً والنيوليبرالي حالياً، من الأمور
التي تجعله ناظراً في شؤون الاقتصاد نظرة مختلفة عن نظرة السياسي أو الخبير المنعزل
عن هموم الناس والمنحصر في مشاغل واهتمامات أصحاب القدرات المالية والمشاريع
الاقتصادية المحلية المرهونة بمصالح الشركات العملاقة. ومن هنا بالتحديد تنبع نقاط
القوة في الكتاب الذي نعرض.
أما نقاط القوة المقصودة فهي أولاً تلك النظرة إلى الاقتصاد الوطني بوصفه "اقتصاداً
سياسياً" وليس مجرد "عملية محاسبة" أو "إدارة أعمال" لشركة ما، أو لمجموعة شركات،
مندرجة في اقتصاد أوسع هو الاقتصاد العالمي الذي تطمح للسيطرة عليه الشركات
العملاقة من خلال إشراف المؤسسات المالية الدولية: صندوق النقد الدولي والبنك
الدولي واتفاقيات منظمة التجارة العالمية.
إن ما يسمى "إجماع واشنطن" سعى، ولا يزال، إلى القضاء على مفهوم "الاقتصاد السياسي"
في مرحلة العولمة الرأسمالية النيوليبرالية. فبدل أن يكون الاقتصاد، بمعناه النظري
والعملي، هو السعي من أجل تنظيم إنتاج وتوزيع الثروة بين المواطنين، بغية المحافظة
على الاستقرار الاجتماعي من خلال عملية "عادلة"، أو بالأحرى مقبولة شعبياً، في
الإنتاج والتوزيع- وهنا يكمن جوهر الاقتصاد السياسي- حوّل "إجماع واشنطن" الاقتصاد
إلى عملية "إدارة أعمال" لصالح الأثرياء (الأقوياء) في العالم، تريد جعل الكون
بمجله مسرحاً للشركات العملاقة منه تستمد المواد الأولية بأرخص الأسعار، وفيه تصرّف
السلع بأغلى الأثمان الممكنة في المنافسة، وتمارس المضاربة بالأسهم والبورصة.
و"إدارة الأعمال" هذه لا تستند إلى مجرد الأواليات الاقتصادية، بل هي تعتمد سياسات
الحصار، والعسكرة (العنف المنظم عالمياً)...
لم يفرد أبو مصلح مجالاً خاصاً لهذا الموقف النظري في كتابه. ولكن هذا الموقف شكل
بوصلة تحرك على هديها المؤلف. فربط، في المقدمة والمدخل المنهجي لكتابه وفي مقدمة
كل فصل تقريباً، أزمة الاقتصاد اللبناني بتاريخ نشوء الكيان وصلاته الطبيعية
العربية وموقعه ووظيفته في العلاقات الدولية. كما اعتمد قراءة الدورة الاقتصادية
اللبنانية على ضوء وظيفتها الداخلية في حياة المواطنين: أثر إدارة إنتاج وتوزيع
الثروة اللبنانية على المواطنين. وبهذا المعنى أعطى أبو مصلح للاقتصاد معناه
الحقيقي كاقتصاد سياسي، لا مجرد "إدارة أعمال".
تكمن نقطة القوة الثانية في الكتاب في تعيينه طبيعة الأزمة الاقتصادية في لبنان.
فهي ليست أزمة عابرة وجانبية، أو ناتجة عن سوء إدارة في هذا الجانب الإنتاجي أو
ذاك، أو هي مجرد تعبير عن خلل في هذه المؤسسة أو تلك... ليكون بالتالي من السهل
علاجها ببعض الإجراءات الموضعية. بل هي، على حد تعبيره، "أزمة بنيوية"، ما يعني "أن
حلها لا بد وأن يبدأ بالإصلاح السياسي كمقدمة ضرورية للإصلاح الاقتصادي
والاجتماعي". ويربط أبو مصلح هذه الأزمة الاقتصادية البنيوية بأزمة النظام السياسي،
ويعين كيفية تجاوز الأزمة الاقتصادية بضرورة تغيير الطبقة السياسية التي ترهن
نشاطها السياسي والاقتصادي، وبالتالي وظيفة النظام السياسي والاقتصادي، بمصالح
الشركات العملاقة، لا بمصالح الشعب اللبناني. ويعتبر أبو مصلح أن جوهر الإصلاح
السياسي يقضي بضرورة التحرر من هذه الطبقة الحاكمة التي فقدت دورها التاريخي. وهذا
التحرر يبدأ بتغيير النظام الانتخابي القائم على العصبيات الطائفية والعائلية
والمناطقية، واستبداله بآخر قائم على اعتبار لبنان دائرة انتخابية واحدة... وهذا ما
عالجه أبو مصلح في الفصل الأول: "لبنان وضرورات التغيير".
نقطة القوة الثالثة في الكتاب تكمن في رسم المسار التاريخي لنشوء الاقتصاد اللبناني
الحديث (الفصل الثاني). فتحت عنوان "السياسات الاقتصادية والاجتماعية منذ بداية
التسعينيات"، يستعرض المؤلف السياسة المالية في لبنان وأثرها على الاقتصاد، وسياسة
الخصخصة، والسياسة النقدية، والبنية الاحتكارية للسوق اللبنانية. وهو لا يكتفي بعرض
واقع الحال العام للاقتصاد اللبناني، بل يقترح في الفصل الثالث، "البدائل
الاقتصادية والاجتماعية". ويصنف هذه البدائل في "أهداف نهائية" وأخرى "وسطية".
ويطرح مسألة البدائل في "الإنماء المتوازن" داخل "نطاق الاقتصاد الكلي". ومن هناك
يطرح قضية الإصلاح الإداري ببعديها السياسي والإداري.
ويمتاز الكتاب في بحثه التفصيلي لأربع قطاعات أساسية في الاقتصاد اللبناني: الصناعة
(الفصل الثالث)، الطاقة (الفصل الرابع)، الزراعة (الفصل الخامس)، الصحة (الفصل
السادس). وفي كل فصل من هذه الفصول يرسم أبو مصالح صورة لواقع الحال: تاريخ القطاع،
واقعه الراهن، أسباب ترديه. ويضع تصوراً للسياسة البديلة. وهو يفعل كل ذلك
بالاستناد إلى الأرقام والوقائع الفعلية، ولا يكتفي بالطرح النظري البعيد عن
الواقع.
ونقطة القوة الخامسة في الكتاب تكمن في الفصلين الأخيرين: الثامن، "العلاقات
اللبنانية السورية"؛ والتاسع، "العلاقات اللبنانية الفلسطينية". وأهمية هذين
الفصلين لا تقتصر على العلاقات السياسية مع سورية والشعب الفلسطيني. بل هي تنبع من
حقيقة أن بوابة لبنان (اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وتاريخياً) إلى الوطن العربي
تمر بالضرورة عبر سورية وفلسطين. ومن هنا تأتي قيمة قراءة الكاتب "للجذور الفكرية
والعقائدية للخلافات اللبنانية السورية" ولطبيعة العلاقات الاقتصادية مع سورية،
وصولاً إلى "الدخول السوري العسكري إلى لبنان" في ظروفه ونتائجه. أما في ما خص
العلاقات اللبنانية الفلسطينية، ففيها شرح لانعكاسات نشوء الكيان الصهيوني على
الواقع اللبناني، سواء لجهة العدوان المستمر وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي، كما
لجهة مستقبل الوجود الفلسطيني في لبنان، أو لجهة التواصل والتكامل الاقتصادي
اللبناني الفلسطيني.
لا شك أن هذا الكتاب يضيف جديداً أصيلاً إلى المكتبة الاقتصادية. ولعله يشكل خير
دليل ومعين في القراءة النقدية لمشاريع وأطروحات باريس3، وما شاكلها. ولهذا ننصح
بقراءته، ونأمل من قرائه المساهمة في نقاشه في جلسات سوف يُعلن عنها لاحقاً.
د. جوزف عبدالله
العرب والعولمة