خليل، أو سيرة مُمانِع |
روجيه نبعة
لن ألهو في توقع مستقبله، لو أن الله أطال عمره. بالطبع هذا أمر محال. "فالمستقبل، يا سيدي، عند الله فقط"، هكذا أجاب فيكتور هوغو على وقاحة نابليون الثالث. ولكن، بودي فهم سيرة رجل أظنها رمزية لكونها نموذجية بالنسبة لمناضلي جيله. وبودي كذلك فهم ما بقي لنا من تراثها.
لبناني ولد في فلسطين التي نزح عنها مرغماً وهو في عمر الطفولة، في العام 1948 أو
بعده بقليل، أثناء النكبة الكبرى. إنه طفل وسمه التاريخ منذ الولادة، لأن عائلته
"عكاوي" تعود إلى كونها من مدينة عكا التي أرغمت العائلة على النزوح عنها مع ضياع
فلسطين. كان مأخوذاً بمجالين فصلت بينهما حدود لم تكن موجودة منذ قليل، وهو لم
يعترف بها. مجالان جغرافيان، فلسطين ومن ثم لبنان، بقيا مجالاً واحداً في خياله
الناشئ كرد على هذه التجزئة. وكان هذا الخيال الذي يجمعهما هو العروبة، القومية
العربية، الناصرية. كان خليل كل هذه العناوين.
أبصر النور في حي مهمل، كان ابن الشارع أكثر مما هو ابن عائلة، ابن الشارع أكثر مما
هو طفل المدرسة، ابن الشارع لأن الشارع كان ملاذه، ابن العنف لأن التمرد كان
قرينته. ماذا تتوقع من طفل يطارده البؤس أو الإذلال، يطارده التاريخ... طفل انتزعوا
منه عالمه؟ ماذا تتوقع من مراهق يموت أخوه، علي، في زنازين السلطة بعد أن كان رمز
المقاومة المسلحة؟ ماذا تتوقع من طفل يتعرض منزله للتفتيش المنتظم؟ كانت هزيمة
الناصرية عام 1967 واحدة من الصدمات التي اضمحل فيها التاريخ وأساطيره، ولكنها دفعت
إرادة الثورة عند خليل، بالعكس، إلى المزيد من الرسوخ. ومن ثم تضافرت ثورته القومية
بثورة طبقية. ودون التخلي عن عروبته التي وجدت متنفسها في صفوف حركة فتح، صار
راديكالياً وأصبح ماركسياً: ماركسي داخل فتح. وعندما تراجعت الماركسية بدورها في
الفكر والممارسة، وعندما هاجرت القومية العربية نهائياً إلى تونس، وعندما لم يبقَ
غير الكارثة والهزيمة والإذلال، اعتنق الإسلام الذي مكنه من استئناف ثورته على
الدوام.
عروبي أو ماركسي أو إسلامي، أو قل ما شئت، فما كان يتخلل ويولد كل هذه التسميات، هو
نفس تلك الثورة بنكهة المُمانعة. لن ألهو في توقع مستقبله، ولكني على ثقة بأنه لم
يكن ليخطئ في تحديد عدوه، وهو الذي دفع حياته ثمن الخطأ في التقدير من جانب الذين
اعتبروه عدواً لهم، فاغتالوه. إنه اغتيال يطرح السؤال حول كيفية معرفة من هو العدو،
بل أيضاً من هم الأعداء؟ وفي كل مرة عن أي ضروب من الأعداء نتحدث؟... إنها، مع
الأسف، أسئلة متكررة في تاريخ العرب المعاصرين، ولكن التفكير فيها بحقيقتها لم يحصل
أبداً، ولذا لم تجد حلاً لها أبداً. كان خليل ضحية هذا الغموض.
روجيه نبعة