أبو العربي* |
نبت من الأرض، كما تلك الشجرة التي أصلها ثابت و فرعها في السماء. والملفت أن الولادات المشابهة لا تكون إلاّ في الأمكنة التي تُروى بدماء الشهداء، حيث في كل سنبلة مئة حبة. و الله يضاعف لمن يشاء. ألا ترون أنه عندما يسقط شهيد في أراضين الرباط، يبرعم مكانه مئة مشروع شهيد أو امكان نصر؟ وإلاّ بالله عليكم كيف تفسرون عدم امكانية ملايين أطنان المتفجرات الممهورة بأختام أهمها أمريكي وإسرائيلي من إنهاء هذه الثلة من المقاومين في العراق وفلسطين ولبنان وأفغانستان والصومال...
ترعرع أبو العربي في أزقة "باب التبانة" حيث من شبه المستحيل أن تصل الشمس الى
أرضها. فالأبنية مكتظة لكي "تفبرك" الشغيلة الذين يعملون ليل نهار حتى تتمتع قلة
قليلة بشقائهم.
تتلمذ أبو العربي على يد أخيه الذي يكبره، علي. فقد استشهد علي عندما كان مسجونا في
سجون سلطة ذلك الزمان "والسلطات متشابهة". فقد سجن علي لأنه أعلن الثورة على الظلم
والاستبداد والفقر والاستغلال، ورأى بأن أهل هذه المناطق التي تصدر بناة هذا الوطن
وجميع الأوطان، لها الحق بالحياة الكريمة، ولها الحق بالحرية. لقد نسي علي، رحمه
الله، أنه حتى "الزفت" كانوا محرومين منه في شارعهم، شارع بيت "ابي درويش".
هذه هي الروح التي تلبست "أبو العربي"، منذ نعومة أظفاره. (أؤكد لكم أن أظفاره لم
تكن يوما ناعمة). كان يحب المعرفة والثقافة والعلم. كان مهووسا بها مع معرفته
بصعوبة منالها ولكنه كان مصمما. فراح يصاحب ويتعرف بالشباب الذين يهتمون بالثقافة.
يناقشهم، يتعلم على أيديهم.
كانت روح الثورة والتمرد التي تعلمها من أخيه تعشش في قلبه. ولكنه كان يريد أن تكون
حركته واعية لا عفوية. لذلك اتجه الى العلم.
كان أبو العربي مقداما، لا يخاف. عندما كان لا يزال طفلا، كانت سلطة ذلك الزمان،
و"السلطات متشابهة"، تبعث أزلامها مسلحين بالمسدسات والقنابل أحيانا. كان أبو
العربي يجلس في أحد المحلات، التي تسمى تجاوزا مقهى. فمساحتها لا تزيد على العشرين
مترا ولا يوجد فيها الا الكراسي القش الصغيرة، كان يجلس مع رفاقه. منهم من يكبره
ومنهم من يصغره. ففي باب التبانة كان يولد الفتى كبيرا. لا يمر بمرحلة الطفولة لا
المبكرة ولا المتأخرة. في ذلك المقهى استفزه أحد العملاء المسلحين بسلاح سلطة ذلك
الزمان ، ولن أقول لكم أن السلطات متشابهة، يريد اخافته بسلاحه السلطوي. هجم عليه
أبو العربي، وقد وهب الله تبارك وتعالى هذا الفتى هيبة لم تكن لأحد من أقرانه، وكان
ذلك المشهد المضحك: المسلح يركض في الشوارع هربا من ذلك الفتى الذي لا يحمل الا
الشجاعة.
هكذا كان. انخرط في صفوف المقاومة الفلسطينية قائدا وهو فتى. كان يرى أن المقاومات
يجب أن تكون موحدة أو واحدة. فالعدو موحد وواحد. وقد تعرض للسجن مرات عدة. ورغم كل
المآسي التي كان يعيشها ما ترك العمل الثقافي يوما. الى أن توصل الى ضرورة الخيار
الإسلامي. أسس مع رفاقه "لجان الأحياء والمساجد" وبعدها كان من مؤسسي "حركة التوحيد
الاسلامي" وكان أميرها الشيخ سعيد شعبان رحمه الله.
وكان التاسع من شباط موعده مع الرفيق الأعلى. كان لا يؤمن بضرورة اتخاذ اجراءات
أمنية. اذ كان عليه أن يروي أرض الفيحاء بدمائه الزكية حتى تستمر هذه المدينة
بصناعة الرجال. رجال يحملون هموم هذه الأمة بفلسطينها وعراقها وصومالها ولبنانها
و"باب تبانت"ـها.
أما أولئك الذين قتلوا أبا العربي بدم بارد فقد بدأوا منذ زمن بعيد يجنون ثمار
خيبتهم.
* خليل عكاوي بمناسبة استشهاده.
"أبو نزهة"