مؤتمر باريس3: مقدمات ونتائج

غالب أبو مصلح

 

تم عقد مؤتمر باريس3، بديلا عن مؤتمر بيروت1 بعد تأجيل إنعقاده لمرات عديدة بسبب الأوضاع السياسية في لبنان، واشتداد المعارضة لنهج الحكم كما للورقة "الإصلاحية" التي تم تقديمها للمؤتمر. إدعت الحكومة اللبنانية أن هذه الورقة صنعت في لبنان، وأنها تمثل الخطة الإنقاذية الوحيدة لإخراج لبنان من أزمته البنيوية الشاملة. كما إدعت أن المساعدات التي أقرت في باريس هي مساعدات غير مشروطة. فما هي حقيقة هذه الإدعاءات؟

تم إقرار مؤتمر بيروت1 في اجتماع في نيويورك في أواخر أيلول 2005 في مقر الأمم المتحدة. حضر المؤتمر أمين عام الأمم المتحدة ووزراء خارجية كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا والسعودية ومصر، والممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى فؤاد السنيورة.

 

قرر المؤتمرون عقد مؤتمر دولي لدعم لبنان في نهاية عام 2005، كما جدد المؤتمر "رفض المجتمع الدولي، تدخل اللاعبين الخارجيين، في الشؤون الداخلية اللبنانية". أي أن المؤتمرين بقيادة الولايات المتحدة يختصرون دول العالم، ويمثلون المجتمع الدولي كله، وهم من داخل لبنان وليسوا من خارجه، أي أنهم أهل البيت. كما وعد المؤتمرون بدعم برنامج الإصلاح اللبناني الذي وضعوه بإسم لبنان، فوعدوا بمساعدات مالية مشروطة بتنفيذ البرنامج "الإصلاحي" ذي البنود السياسية والإدارية والمالية والإقتصادية والإجتماعية. وفي البيان الختامي الذي أصدروه، تم ربط المساعدات الموعودة بتطبيق البرنامج "الإصلاحي" الذي وضع أسسه وتفاصيله خبراء البنك وصندوق النقد الدوليين بإشراف الخزينة الأميركية. وفرض إجماع واشنطن تطبيق البرنامج كحزمة واحدة متكاملة. جاء في البيان: "إن أولويات برنامج الإصلاح اللبناني، ستحضر الأرضية للمساعدة الدولية"، وطالب "بتحرير الإقتصاد لتشجيع الإستثمارات، وخلق الوظائف، وتنسيق الجهود الرامية لإصلاح الأجهزة الأمنية."

 

ولكن أسس البرنامج "الإصلاحي" الشامل سبق وضعه قبل مؤتمر نيويورك في إجتماع في باريس. تم عقد إجتماع باريس بتاريخ 14-6-2005، أي قبل إجتماع نيويورك بثلاثة أشهر. حضر هذا الإجتماع "كبار الموظفين" في كل من فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا والأمم المتحدة والبنك الدولي. وأعلن الناطق بإسم وزارة الخارجية الفرنسية أن المؤتمر الذي لم يحضره أي ممثل عن لبنان، أو الدول العربية، كان "بغرض التشاور واستشراف طلبات محتملة قد تقدمها الحكومة اللبنانية التي ستشكل، بعد إنتهاء الإنتخابات النيابية".

أي أن المؤتمرين "إستشرفوا" نتائج الإنتخابات البرلمانية، و"استشرفوا" طبيعة الحكومة اللبنانية التي سيتم تأليفها، واستشرفوا كذلك طلب الحكومة اللبنانية مساعدات من المؤتمرين. إن ما حصل بعد ذلك كان متطابقا مع قدراتهم "الإستشرافية".

إن المؤتمرين في باريس الذين صنعوا ما سمي "ثورة الأرز" استبقوا تأليف الحكومة اللبنانية ليضعوا مواصفاتها المطلوبة ويحددوا توجهاتها وبرنامجها السياسي والإداري والمالي والإقتصادي والإجتماعي. فقد خلصوا إلى إستنتاجات عدة أهمها:

  1. "عبر المجتمعون عن ارتياحهم إلى إجراء الإنتخابات النيابية في موعدها الدستوري."

  2. "أقر المجتمعون مبدأ تقديم مساعدة دولية ودعم إقتصاد لبنان، وأن هذا يحتاج إلى أربعة أمور.

أولا: تشكيل حكومة لبنانية جديدة بمواصفات محددة: نظيفة ونزيهة وشفافة وذات كفاءة.

ثانيا: عدم الإفساح في المجال أمام التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية لأي طرف خارجي، ومنع أي عناصر مخابراتية غير لبنانية من التواجد على الأرض اللبنانية.

ثالثا: أن تقر الحكومة اللبنانية الجديدة في بيانها الوزاري، تأكيدها على الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بمساندة التحقيق الدولي الجاري في جريمة إغتيال الحريري، وتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1559.

رابعا: إتفق المجتمعون على ضرورة وضع خطة إقتصادية دولية شاملة لمساعدة لبنان، تنطلق من تطبيق قرارات مؤتمري باريس1 وباريس2 وإعلان الحكومة اللبنانية في بيانها الوزاري الجديد، إلتزامها بالإصلاح الإداري الشامل، وبإلتزام الخصخصة ومكافحة الفساد، واستئصال الفاسدين في الإدارة اللبنانية"، السفير، 15-6-2005.

 

واضح أن مؤتمر باريس هذا الذي غاب عنه أي ممثل للبنان، قد وضع لبنان تحت الوصاية الأميركية الأوروبية. فالمؤتمر حدد مواصفات أعضاء مجلس الوزراء وأتى فعلا بمعظمهم، بعضهم من خارج مجلس النواب، ومن خارج الحياة السياسية اللبنانية. منهم موظفون سابقون في المؤسسات الدولية التابعة للقطب الأميركي الأوحد. وكذلك حدد المؤتمر أولويات البيان الوزاري الذي ستضعه الحكومة الآتية بعد الإنتخابات، وأشار إلى ضرورة تطهير الإدارات الأمنية خاصة وغير الأمنية من "الفاسدين"، أي من غير الموالين لدول المؤتمرين، مستشرفين ما حدث في أجهزة الأمن والعديد من الوزارات. ووضع المؤتمرون برنامج "الإصلاح" المالي والإقتصادي والإجتماعي الشامل، الذي تقدمت به الحكومة اللبنانية فيما بعد إلى المؤتمرين أنفسهم.

 

فالمؤتمرون لا يتدخلون في الشأن اللبناني الداخلي من الخارج اللبناني، إذ أنهم أصبحوا من أهل الداخل، بل ربما أصبحوا هم الداخل، ومخابراتهم مثل "أف بي أي" FBI و"سي أي إيه" CIA أصبحت أجهزة لبنانية تعمل علنا، جهارا نهارا، في القضايا الأمنية اللبنانية. أما الخارج الذي لا يحق له التدخل في الشأن اللبناني الداخلي، فيقتصر على سوريا وأصدقاء سوريا من اللبنانيين، أي القوى الوطنية اللبنانية التي أصبحت من الخارج ويجب عزلها عن الحياة السياسية اللبنانية.

إن مؤتمر باريس وضع الثوابت السياسية والإقتصادية والإجتماعية لحكومة السنيورة، ووضع لها البرنامج "الإصلاحي" والمالي. وهذه الحكومة ملتزمة بقوة بهذه الثوابت الأميركية ولم تحد عنها حتى اليوم، بالرغم من كل المعارضات الشعبية، بالرغم من عزلتها وشللها، وبالرغم من كل الوساطات والضغوطات الإقليمية التي تقودها المملكة العربية السعودية في الوقت الراهن. حتى أن المجتمعين في قسم من ساحة الشهداء في 14 شباط 2007، أظهروا إلتزامهم الشديد وبلغة لا تدعو إلى الإحترام، لهذه الثوابت الباريسية.

 

باختصار شديد، إن حكومة السنيورة صنعت في الخارج، وخطها السياسي فرض من الخارج، وبرنامجها الإصلاحي صنع في الخارج، وولاؤها الحقيقي للخارج، وعملها وأداؤها لمصلحة هذا الخارج، ويتناقض مع المصالح الوطنية اللبنانية، أي مع مصالح الأكثرية الساحقة من الجماهير اللبنانية.

 

إن استتباع لبنان اقتصاديا للمراكز الرأسمالية الغربية الأكثر تطورا ليس أمرا جديدا. فمنذ وصول الرئيس الحريري إلى السلطة في أواخر سنة 1993، تم تبني السياسات اللبيرالية الجديدة بحماسة تبشيرية. هذا الفكر الليبرالي الجديد يعبر عن مصالح الرأسمالية العالمية في مرحلتها الأكثر إحتكارية وعولمة. يعبر عن مصالح الشركات المعولمة العابرة لحدود الدول والقارات؛ يعبر عن مصالح الطبقات الرأسمالية الحاكمة في بلدان العالم الثالث، التابعة بحكم دورها الإقتصادي، وعلاقاتها الاقتصادية الخارجية، لمراكز النظام الرأسمالي العالمي الأكثر تطورا. وتنفذ هذه الحكومات التابعة إملاءات مراكز النظام العالمي، السياسية والاقتصادية والإجتماعية.

 

يمثل مؤتمر باريس3 دعما للحكومة اللبنانية الحالية وليس دعما للبنان، كما عبر عن ذلك العديد من المؤتمرين. فهل نجح هذا المؤتمر في تحقيق أهدافه؟

على الصعيد السياسي، نجح المؤتمر في أن يكون مظاهرة سياسية خارجية لدعم الحكومة اللبنانية المأزومة والمترنحة في الداخل. حاول المؤتمرون أن يوازنوا النقمة الشعبية والمعارضة الجماهيرية للحكومة في الداخل بتأييد إجماع واشنطن لها. ولم تنجح هذه المظاهرة السياسية في تخويف المعارضة اللبنانية للتراجع عن تحركها الهادف إلى لجم إندفاع حكومة السنيورة وانحيازها الكامل للمخططات الأميركية العدوانية، ولإجراء إنتخابات مبكرة، تنبثق عنها حكومة تمثل عن حق رؤية الجماهير اللبنانية وتطلعاتها. فتحرك المعارضة ما زال مستمرا بقوة لتحقيق أهدافها المعلنة، في الوقت الذي يتعمق فيه مأزق حكومة السنيورة، وتزداد عزلتها في الداخل.

 

أما على الصعيد المالي، أي تقديم هبات وقروض تستطيع إنتشال حكومة السنيورة من مأزقها المالي الإقتصادي الشامل، فإن المؤتمر لم يحقق نجاحا يذكر.

 

كان من المتوقع أن يقدم المؤتمر هبات مالية (وأشدد على كلمة هبات) توازي كلفة الدين العام لمدة سنة واحدة. أي أن يقدم هبات للخزينة اللبنانية تتجاوز ثلاثة مليارات دولار لسنة 2007. ولكن كل ما تم تقديمه من وعود الهبات للسنوات الخمس القادمة كان في حدود 700 مليون دولار ليس أكثر، وبمشروطية تنفيذ البرنامج السياسي والاقتصادي المفروض على لبنان، خصوصاً نزع سلاح المقاومة وسياسات التخصيص الكاملة و"تحرير" سوق العمل، وفتح السوق اللبنانية بالكامل لإستباحتها من الخارج. فهل يستطيع "فرسان" الحكومة الأشاوس مثلا نزع سلاح المقاومة، الأمر الذي فشل العدوان الأميركي بالقبضة الإسرائيلية عن تحقيقه في عدوان تموز؟

أما معظم القروض الموعودة، فأتت مرتبطة بمشاريع معينة تشرف عليها الجهات المقرضة، وبالتالي لا يمكن تحويلها إلى مالية الخزينة. لذلك، فإن مؤتمر باريس3 لم يقدم أي حل لمشكلة المالية العامة، أو بالأحرى لمأزق المالية العامة، بهدف إحتواء تنامي الدين العام ومنع إنفجاره.

 

إن المؤتمر وضع عبء معالجة الدين العام على عاتق الداخل اللبناني فقط، وبالتحديد على عاتق الطبقات الشعبية وأصحاب الدخل المحدود، عبر برنامج زيادة الضرائب غير المباشرة التي يقع عبؤها على كاهل هذه الفئات. فهل تستطيع هذه الفئات الضعيفة تحمل الأعباء الضريبية الجديدة التي وضعها "إجماع واشنطن" بإسم الحكومة اللبنانية على الشعب اللبناني؟ وحتى في حال تطبيق هذا البرنامج الظالم، هل يستطيع هذا البرنامج إنتشال لبنان من فخ المديونية؟ هل يهدف حكام لبنان الحقيقيون إخراجه من هذا الفخ؟

أولا: إن دفع لبنان إلى فخ المديونية لم يكن نتيجة زلل أو قرار عابر، بل كان نتيجة سياسات واعية نقدية ومالية واقتصادية، استمرت لسنوات وسنوات، وكانت نتائجها واضحة وجلية للعديد من الباحثين والاقتصاديين، منذ سنة 1993، حيث تم التنبيه إلى مخاطر تنامي الدين العام. وكانت حكومات الحريري ترد على هذه التحذيرات شعراً، وبأغانٍ "قعبورية"، مترفعة عن الخوض في نقاش جدي حول مخاطر الدين العام ونموه.

ثانيا، إن تضخيم الإنفاق غير المجدي، وتجاوز الإنفاق العام سقف الإنفاق المحدد في الموازنة العامة، تعبر عن تجاوز لقانون وضعه البرلمان الذي أقر الموازنة بإسم الشعب اللبناني. وهذا لا يحدث عادة حتى في إمارات النفط العربية. فقد تم تجاوز قانون الموازنة العامة، ليس لتلبية إحتياجات شعبية ملحة، وليس لتنفيذ برامج إنمائية منتجة، بل لتمويل الإنفاق الجاري ولأسباب سياسية محضة، وربما لدفع لبنان عمدا إلى فخ المديونية. إن هذا الإنفاق غير المبرر ساهم كثيرا في تنامي الدين العام. فالدين العام، من حيث المبدأ، يبرره الإنفاق على مشاريع عامة إنتاجية، تستطيع توليد موارد للخزينة قادرة على خدمة الدين العام وإطفاءه، وهذا ما لم يحدث إطلاقا في لبنان.

ثالثا: إن السياسات النقدية التي إتبعها مصرف لبنان بتوجيهات من الحكومة، رفع الفوائد الحقيقية إلى معدلات غير منطقية وغير عادلة، وذلك لخدمة القطاع المصرفي، ولو أدى ذلك إلى إقعاد قطاعات اقتصادية أخرى وكبح للتنمية. فالفوائد على سندات الخزينة، لم تكن تتلاءم على الإطلاق مع حاجات الإقتصاد اللبناني. فالنمو الإقتصادي بعد حرب أهلية وإجتياح إسرائيلي خفض الناتج المحلي القائم بأكثر من 75% مما كان عليه في أواسط السبعينات، كان بأمس الحاجة إلى سياسات نقدية تستهدف أولا وقبل كل شيء معدلات الفائدة الحقيقية، وتبقيها في إيجابية في حدود الصفر، لتمكين قطاعات الإقتصاد من النهوض. ولكن السياسة النقدية إستهدفت عوضا عن ذلك إعادة رسملة المصارف عبر تضخيم ربحيتها، وما زالت هذه السياسة متبعة حتى اليوم. فقد تم تحديد معدلات الفوائد بالإتفاق بين مصرف لبنان وجمعية المصارف ذات البنية الإحتكارية. وبذلك تم رفع معدلات الفوائد الحقيقية على سندات الخزينة، والتي تشكل العمود الفقري لبنية الفوائد في السوق، إلى أكثر من 18% لسنوات عديدة. إن رفع الفوائد الحقيقية إلى مثل هذه المعدلات يمنع التوظيف المنتج من قبل القطاع الخاص ويوجه الأموال لتمويل حساب الخزينة، مما يمكنها من الإنفاق دون حدود متخطية قانون الموازنات العامة. كما أن هذه السياسة كانت وما زالت لمصلحة المصارف والأثرياء في لبنان ولبعض الخارج. فقد إرتفعت الأموال الخاصة للمصارف خلال عشر سنوات بما يزيد عن الألف في المئة، في الوقت الذي إنخفضت فيه الأموال الخاصة الموظفة في الصناعة والزراعة، وتوسعت فيه الفروقات الطبقية، وإنهارت معدلات التنمية.

رابعا: إذا أخذنا خطة آفاق 2000، هذه الخطة التي وضعها، كما الخطط اللاحقة، صندوق النقد الدولي مع البنك الدولي، وتم تبنيها بالكامل من قبل وزارة المالية ومجلس الإنماء والإعمار، وقارنا بين معدلات النمو المستهدفة وبين معدلات النمو المحققة، نجد أن وعود التنمية كانت مجرد وعود خادعة، تهدف إلى إسكات الجماهير عن التحولات الحادة في السياسة الضرائبية.

 

معدلات النمو الإقتصادي المستهدفة والمحققة حسب خطة آفاق 2000

الأرقام بالنسبة المئوية

 

السنة

1995

1996

1997

1998

1999

2000

2001

2002

معدل النمو المستهدف

9

9

9

9

8

8

8

8

معدل النمو المحقق

6.5

4

4

3

1

0

1.5

2

 

  فبينما تتوقع الخطة معدل نمو إقتصادي سنوي قدره 8.5% خلال السنوات الثمانية، فإن معدل النمو المحقق كان في حدود 2.25%، وحتى هذا المعدل مبالغ فيه كثيرا، إذ لا يتم إعتماد مؤشرات تقيس الإنتاج الفعلي، بل يتم إعتماد عدد من المؤشرات بعضها يقيس الإستهلاك. وبالتالي، فإن هذه الأرقام هي أقرب إلى قياس الدخل الوطني منها إلى قياس الناتج المحلي القائم GDP.

إذاً، إن الخطط الإقتصادية التي تم وضعها منذ مجيء الرئيس الحريري إلى السلطة أثبتت عدم واقعيتها، وعجزها عن إستشراف مستقبل الإقتصاد اللبناني، في ظل السياسات الليبرالية الجديدة. إن الفشل لم يكن فقط على صعيد توقعات النمو، بل أيضا على صعيد تطور الدين العام، وعلى صعيد المؤشرات الإجتماعية، مثل معدلات البطالة ونسب الفقر. كما أن مؤتمري باريس1 وباريس2، وبالرغم من الموارد المالية التي أمناها إلى الخزينة، وبالرغم من رفع معدلات الضرائب وإرتفاع نسبة إقتطاع الموازنة من الناتج المحلي القائم المواكبة لهذين المؤتمرين، لم يتمكنا من تغيير منحى نمو الدين العام. إنهما لم يمثلا سوى جرعات مخدرة تمكن الطبقة الحاكمة من الإستمرار في الحكم، ومن ممارسة السياسات الكارثية على الشعب اللبناني.

 

ولا تختلف ما تسمى "الورقة الإصلاحية" المقدمة لمؤتمر باريس3 عن سابقاتها. فإذا تجاوزنا أدبيات الرئيس فؤاد السنيورة وفصاحته اللغوية، وحذفنا الوعود الفارغة التي تعودنا على سماعها في الماضي، ولم يتحقق شيء منها، تبقى لائحة الضرائب الجديدة التي تبشرنا بها الورقة الإصلاحية.

تعد لائحة الضرائب الجديدة غير المباشرة، على زيادة الإقتطاعات الضريبية بنسبة 9.5% من الناتج المحلي القائم، وذلك بالإضافة إلى مستوى الجبايات الضريبية الحالية. أي أن إقتطاعات الخزينة من الناتج المحلي القائم ربما ستتجاوز 33%، وهذا ما يضمن إقعاد الإقتصاد اللبناني بحد ذاته.

كما أن معدل نصيب الفرد الواحد من الضرائب الجديدة سيصل إلى 504$ في السنة، أي أن العبء الضريبي للعائلة الواحدة المؤلفة من خمسة أفراد سيرتفع بمقدار 2520$ سنويا، وذلك كمعدل عام. وبما أن هذه الضرائب الجديدة، مثل رفع معدل ضريبة القيمة المضافة من 10% إلى 12% ثم إلى 15% هي ضريبة غير مباشرة، وكذلك الضريبة على المشتقات النفطية وعلى الطاقة الكهربائية، فإن وقع هذه الضرائب على الطبقات الشعبية وأصحاب الدخل المحدود سيكون أعلى بكثير من وقعها على الأثرياء والميسورين. إن العائلة التي لا يزيد دخلها عن 500 ألف ليرة شهريا ستتحمل ضرائب إضافية بما لا يقل عن 720 ألف ليرة سنويا. فهل تستطيع هذه العائلات التي تعاني من الفقر والحرمان الحقيقي تحمل هذه الضرائب الجديدة؟

 

إن الطبقة الحاكمة ليست في الأصل ضد تراكم الدين العام الذي يشكل بحد ذاته مضخة كبيرة، تضخ الثروة من جيوب الفقراء دافعي الضرائب غير المباشرة، إلى جيوب المصارف والأثرياء مالكي سندات الدين العام. ولكن جهود هذه الطبقة تهدف إلى إستمرار هذا الضخ للثروة، لإغناء الأغنياء وإفقار الفقراء، دون أن ينفجر الوضع الإقتصادي الإجتماعي في وجه هذه الطبقة الحاكمة ويسقطها. لذلك هي تسعى إلى إحتواء الدين لا إلى إلغائه.

وبجانب السياسة الإفقارية، هناك تحرير سوق العمل، أي تجريد الطبقة العاملة من حقوقها المتراكمة عبر العديد من العقود، في ديمومة العمل وفي الضمانات الإجتماعية. فإبدال العمل الدائم بالعمل التعاقدي والعمل المياوم يؤدي إلى كشف القوى العاملة أمام سلطة رأس المال، كما يؤدي إلى تدني المداخيل الحقيقية لهذه الطبقات، وتجريد هذه الطبقات من شبكات الأمان الضعيفة الموجودة حاليا، ناهيك عن سياسات التخصيص وما يواكبها من خفض فرص العمل وزيادة أسعار السلع والخدمات التي يتم تخصيصها ونهب للملكية العامة لصالح الشركات والمؤسسات الأجنبية وأتباعها المحليين.

 

إن دراسة تأثير هذه السياسات الليبرالية، التي طبقت في العديد من دول العالم الثالث، أكدت أنها كانت كارثية على الأكثرية الساحقة من الجماهير، من المكسيك إلى مصر. فهل ستسمح القوى الشعبية وقوى المعارضة اللبنانية بتمرير هذه السياسات؟ أم أن مرحلة إسقاط الطبقة الحاكمة وعكس سياساتها كافة قد آن أوانه؟

 

عين كسور، 19-2-2007

غالب أبو مصلح