الأسباب العميقة للأزمة الإسرائيلية إعطاب عناصر قوة المشروع الإسرائيلي |
لا نبالغ اذا ما قلنا ان إسرائيل لم تشهد أزمة، منذ نشأتها، كالتي تعيشها الآن. إنها أكثر الأزمات عمقاً وتشعباً في تاريخها الحديث العهد. أزمة تطال كل مقومات وجودها الأساسية: أزمة قيادة، أزمة وجود ومصير وخوف من المستقبل، أزمة الجيش الذي يشكل أساس وجود الكيان، أزمة عدم القدرة على التقدم ودخول إسرائيل عصر التراجع المتواصل. فمن لا يتقدم يتأخر، فكيف إذا كان قد بدأ يتعرض للهزائم التي لم يكن يعرفها سابقاً، لا جيشها، ولا مجتمعها ولا قادتها. وإذا كان من الطبيعي أن تغيب الأزمات في مراحل الانتصارات، فانه من الطبيعي أيضا أن تتكاثر وتتناسل الأزمات في مراحل الانكسارات. فإسرائيل اليوم باتت في مرحلة الانكفاء، والعجز والفشل، والشعور بمرارة الهزيمة، خصوصاً بعد حرب تموز الأخيرة، أمام مقاومة لا تملك إلا القليل من القدرات، بالمقارنة مع قدرات الجيش الإسرائيلي، ورغم ذلك تنتصر عليه وتصده وتلحق به خسائر جسيمة وتمنعه من احتلال قرى صغيرة على الحدود.
عندما نتحدث عن الأزمة العاصفة باسرائيل يجب النظر إليها بعمق. فهي ليست أزمة عابرة أو طارئة، بل أزمة تشير إلى أي مدى بات المشروع الإسرائيلي يعيش في مأزق استراتيجي وتكتيكي في آن معاً. لقد دخل، من جهة، في مرحلة الانكفاء إلى الداخل، يشهد على ذلك بناء جدران الفصل العنصري والانسحاب من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات فيها، وكذلك اندحاره عن الجنوب اللبناني؛ ومن جهة ثانية هو غير قادر على تحقيق انتصارات في الحرب. وهذا ما يجعل المشروع الصهيوني يفتقد إلى قوة الدفع الاساسية التي كانت تجعله دائماً في مرحلة تقدم وتوسع وازدهار وصعود. ويظهر ذلك أيضا في فقدان الثقة والايمان لدى مجتمع المستوطنين بقدرة الجيش الإسرائيلي على تحقيق النصر وتوفير الأمن والاستقرار لهم.
ويعني ذلك أن المرحلة التي كان فيها الكيان الصهيوني محصناً وآمناً، ويشكل مصدر إغراء لهجرة اليهود إليه، قد انتهت. وهذا ما عكسته المناقشات التي شهدها مؤتمر هرتسيليا السابع، حيث ساد شعور بوجود حالة انهيار استراتيجي، يضاف إليها صورة سوداوية قاتمة للاوضاع في إسرائيل، ف"ميزان المناعة والأمن القومي"، الذي كان عنوان المؤتمر، أظهر أن إسرائيل تعيش أزمة قيادة وحكم وعجز عن اتخاذ القرارات وتنفيذها، وانقسام وتخبط إزاء سبل الخروج من ألأزمة.
ولكن ما هو السبب الأساسي للأزمة وكيف تتبدى؟
أعطاب وتحطم أسطورة القوة الإسرائيلية
من المعروف ان الجيش الإسرائيلي هو الأساس الذي ارتكز إليه في بناء دولة إسرائيل، التي ما كان لها أن تنشأ دون العناصر الأولى التي تكون منها هذا الجيش، وهي العصابات الصهيونية: (الهاغانا وشتيرن) وغيرهما، والتي دخلت فلسطين، في بدايات القرن العشرين، في اطار خطة استعمارية من أجل الاستيلاء عليها وبناء دولة إسرائيل.
لقد أخذ هذا الجيش، الذي تأسست نواته الأولى من هذه العصابات الصهيونية، يتحول شيئاً فشيئاً إلى قوة أسطورية، خصوصاً بعد حربي عامي 48 و67 حيث هُزمت الجيوش العربية في مواجهته، وزاد من تضخيم هذه الاسطورة أن هذا الجيش يمتلك أحدث ترسانة عسكرية في المنطقة، بفعل الدعم الأميركي غير المحدود لإسرائيل، وبالتالي تحولت إسرائيل بفعل قدرات جيشها إلى قوة يخافها العرب وتشكل مصدر التهديد الدائم لهم.
ان سيادة هذا الانطباع ولد شعوراً عاماً بانه يستحيل إلحاق الهزيمة بالجيش الإسرائيلي، وبالتالي على العرب أن يستسلموا للأمر الواقع، ويتخلوا عن جزء من حقوقهم في اطار تسوية للصراع.
وبقدر ما تولد هذا المناخ في الواقع العربي، بقدر ما كان يتحول فيه الجيش الإسرائيلي لدى الإسرائيليين إلى مصدر فخر لهم، ويشعرون إنه يوفر لهم الآمان والاستقرار، وإنه هو ضمانة وجود إسرائيل ومستقبلها من جهة، وإنه قوة لا يمكن أن تهزم من جهة ثانية. وزاد من هذا الشعور أن عمق الكيان الصيهوني خلال الحروب العربية الإسرائلية ظل بمنأى عن الحرب، على عكس الدول العربية التي كانت مدنها وعواصمها مسرحا لقصف الطائرات الإسرائيلية، وحتى عمليات الإنزال من قبل الكوماندوس الإسرائيلي.
إلا أن هذا الجيش، الذي حصل على كل هذه الهالة الاسطورية، بدأت قوته الردعية تضعف تدريجياً، وتتآكل معها قوته الهجومية، وبالتالي قدراته على تحقيق النصر، وبرز ذلك في المحطات التالية:
المحطة الأولى: اجتياح عام 82، بعد اجتياح الجيش الإسرائيلي للبنان وتمكنه من دخول العاصمة بيروت، ومن ثم فرض توقيع اتفاق 17 أيار، نهضت مقاومة وطنية، بدأت حرب عصابات ضد قوات الاحتلال، كان من نتائجها أن اجبر الجيش الإسرائيلي على تنفيذ انسحابات متتالية عن الأرض اللبنانية، والتحصن في منطقة الشريط الحدودي، فيما اتفاق 17 أيار سرعان ما سقط وتهاوى بفعل الاندحار الإسرائيلي، والذي توج بعد حرب استنزاف خاضتها المقاومة ضده على مدى 22 عاماً بالحاق أول هزيمة بهذا الجيش عام ألفين باجباره على الرحيل عن معظم الأراضي اللبنانية، التي كان يحتلها، دون قيد أو شرط أو أي ثمن مقابل، أو اتفاق، الأمر الذي شكل أول انتصار للمقاومة ضد الاحتلال على هذا الجيش وتحطيم اسطورته التي استندت إلى مقولة إنه قوة لا تقهر.
المحطة الثانية: وكانت في قطاع غزة، حيث وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية، الشعبية والمسلحة، وفشل الجيش الإسرائيلي في اخمادها، أو القضاء على المقاومة، اضطرت قيادته السياسية إلى أخذ أول قرار في تاريخ نشأة الكيان وهو تفكيك المستوطنات الصهيونية، التي اقيمت في قطاع غزة، لعدم القدرة على الاستمرار في توفير الحماية لها، ما شكل ثاني هزيمة وتراجع لهذا الجيش عن أرض احتلها بالقوة، لكنها أول هزيمة للمشروع الصهيوني على ارض فلسطين التاريخية، التي تشكل محور الصراع الرئيسي.
المحطة الثالثة: حرب تموز 2006. إذا كانت محاولة امتصاص هزيمة لبنان عام ألفين، وهزيمة قطاع غزة عام 2005، بهجوم إعلامي، إسرائيلي وعربي ودولي، عبر تصوير الأمر على إنه لا يعدو كونه مجرد تكتيكٍ إسرائيليٍ، وليس هزيمة، فان حرب تموز كانت أكثر الحروب وضوحاً لناحية الهزيمة التي مني بها الجيش الإسرائيلي. فقد رمى فيها هذا الجيش بكل قوته العسكرية المتنوعة براً وجواً وبحراً، مدعوماً بموقف أميركي أوروبي، وحتى من بعض الدول العربية، من اجل القضاء على المقاومة، وعلى مدى 33 يوماً من المعارك والقصف الوحشي الذي مارسه ضد لبنان فانه فشل في تحقيق أي من أهدافه العسكرية والسياسية. وتمكنت المقاومة من التغلب عليه وتحطيم اسطورته في الميدان، حيث اظهرت للعالم كله انه عاجز عن احتلال قرى حدودية، أو السيطرة على مسرح المعركة، أو اسكات نيران المقاومة ومنع تساقط صواريخها في العمق الصهيوني.
وإذا كانت المحطتان، الأولى والثانية، قد اسقطتا قدرة الجيش الإسرائيلي على مواصلة إسرائيل لسياسة التوسع والاحتفاظ بالارض التي كان يحتلها جيشها والاضطرار إلى التراجع عنها، فان المحطة الأخيرة اسقطت قدرة هذا الجيش على تحقيق النصر في المرحلة الأولى من الحرب بالاعتماد على سلاحي الجو والدبابات. وبالتالي فان نظرية الضربات الخاطفة واستخدام التفوق في الجو فشلت فشلاً مدوياً، الأمر الذي دفع مركز جافي الإسرائيلي للدراسات الاستراتيجية إلى الحديث عن الضمور إو الانحلال في مفهوم إسرائيل لاستخدام القوة عبر التبني المتحمس جداً للنظرية الأميركية المسماة العملية الموجهةـ النتيجة، والتي تستهدف شل قدرة عمل العدو خلافاً لتدمير قواته، وذلك من خلال ضرب مقراته واتصالاته وعناصر اساسية أخرى لديه.
سقوط الدور الوظيفي لإسرائيل
لم يجرِ تحدي إسرائيل في حرب شاملة منذ عام 1973، ولذلك فإن المفهوم المستند إلى التفوق العسكري الإسرائيلي، هو الذي أوجد الظروف لاتفاقيات السلام مع مصر والأردن واتفاق اوسلو، ومكن إسرائيل من اقامة اقتصاد سلام ومجتمع رفاه ووفرة، رغم غياب السلام. وتحولت إسرائيل، بفعل هذا التفوق العسكري، إلى قوة تستند إليها الولايات المتحدة والغرب في تحقيق الهدف المراد من وجودها ألا وهو حماية المصالح الغربية الأميركية في اكثر المناطق حيوية من العالم، حيث النفط والغاز والثروات، والعمل على منع توحد العرب. غير أن هزيمة الجيش الإسرائيلي في حرب تموز أدى إلى إصابة هذه الوظيفة لإسرائيل، كحارسة للمصالح الأميركية، أو عصا غليظة، بعطب حقيقي، فأظهرها عاجزة عن تحقيق الهدف أو القيام بالدور الذي أوكل عليها.
لقد نفذت إسرائيل حربها في عدوان تموز على لبنان، بناءً لطلب وقرار أميركيين لا لبس فيهما. وكان ذلك من اجل تحقيق اهداف أميركية مباشرة، تصب طبعاً في خدمة إسرائيل. وهذه الأهداف تكمن في العمل على توجيه ضربة قاضية للمقاومة، توفر المناخات لقوى 14 شباط الموالية لواشنطن لاستكمال انقلابها والسيطرة على كامل مؤسسات الدولة، بما يحقق أهداف المشروع الأميركي بتحويل لبنان إلى محطة لفرض مشروعها للشرق الأوسط الجديد، الذي بشرت به وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليسا رايس. ولكن إسرائيل لم تتمكن بكل قوتها الضخمة والتدميرية من تحقيق هذه الأهداف. فتعرض جيشها إلى هزيمة قاسية اضطرتها إلى طلب مساعدة إدارة بوش، في مجلس الأمن، لحمايتها عبر اصدار قرار دولي يبرر وقف الحرب ويحد من آثار هذه الهزيمة ونتائجها.
إلا أن فشل الجيش الإسرائيلي في المهمة الموكلة إليه أميركياً طرح الاسئلة حول ماذا كانت إسرائيل قد أصبحت عالة على اميركا والغرب. فهي باتت تحتاج إلى الحماية، بعد أن كانت تقوم بدور حماية المصالح الغربية الأميركية، وبالتالي بات على واشنطن، علاوة على ما لمصر والأردن من دور في حماية إسرائيل، الدفع بجيوشها إلى المنطقة، واستكمال احتلال العراق، لتتولى هي بنفسها حماية مصالحها، وكذلك خلق ميزان قوى جديد يوفر لإسرائيل القدرة على إنهاء المقاومة الفلسطينية واللبنانية، والخروج من مأزقها الاستراتيجي والتكتيكي.
وبرز ذلك بوضوح في المحطات التالية:
1 ـ ضغط استثنائي إسرائيلي عبر اللوبي الصهيوني في واشنطن من أجل قيام إدارة بوش باحتلال العراق، وقد لعب ذلك دوراً مرجحاً في اقدام الرئيس الأميركي جورج بوش على اتخاذ قرار الحرب، الذي عارضه العالم.
2 ـ استعطاف رئيس الوزراء الإسرائيلي، ايهود أولمرت، خلال حرب تموز(حسب جريدة معاريف الإسرائيلية) وزيرة الخارجية الأميركية رايس بأن تبذل الإدارة الأميركية كل ما بوسعها من أجل فرض الصيغة الفرنسية الأميركية لقرار وقف النار في مجلس الأمن، وقالت: أن أولمرت لفت نظر رايس إلى أن الأمر يتعلق، ليس فقط بمحاولة انقاذ الدولة العبرية من هزيمة محققة، بل وأيضا انقاذ مستقبله السياسي والشخصي.
3 ـ تصريح المستشارة الالمانية مركل حول دور القوات الالمانية المشاركة في قوة اليونيفيل لمراقبة تنفيذ القرار 1701 حيث قالت: "مهمتنا حماية إسرائيل".
4 ـ تساءل المعارضة البريطانية، إلى متى نتحمل أعباء حماية إسرائيل.
وإذا كان لم يتولد بعد مناح قوي في اميركا والغرب يقول بان إسرائيل اصبحت عبئاً علينا، ويجب العمل على التخلص من هذا العبء، فان ما حصل أكد للادارات الغربية والأميركية بأن إسرائيل لم تعد قادرة على لعب الدور الذي وجدت من أجله، وهي باتت بحاجة إلى الحماية لتتمكن من البقاء والاستمرار.
انعكاسات إعطاب القوة الإسرائيلية على الداخل الإسرائيلي
كان من الطبيعي أن يؤدي عجز الجيش الإسرائيلي وفشله في تحقيق النصر في الحرب، وتهشم صورته وتحطم اسطورته في ميدان القتال، في بنت جبيل، ومارون الراس، وغيرهما من بلدات الجنوب اللبناني، إلى حصول زلزال داخل إسرائيل على كل المستويات:
المستوى الأول: انقلاب في بنية التفكير الإسرائيلي العام، من شعور بتفوق وقدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها، متى أرادت وشاءت، بواسطة قوتها العسكرية، إلى سيادة قناعة وشعور عام بالعجز وعدم الثقة، بعد الآن في هذه القدرة، خصوصاً وان هزيمة حرب تموز جاءت بعد توالي الهزائم الإسرائيلية في لبنان وقطاع غزة، والتي سبقها اهتزاز في قدرات الجيش الإسرائيلي في حرب 73.
فالمجتمع الإسرائيلي تعود العيش على الانتصارات، وأسطورة الجيش الذي لا يقهر ولا يهزم، ولذلك فإن من الطبيعي أن تترك الهزيمة الأخيرة آثاراً عميقة على بنية التفكير هذه، وتؤدي إلى اسقاط المسلمات والمفاهيم التي بني عليها وشكلت اساس تماسكه ووحدته، وفي هذا الأطار كشفت صحيفة يديعوت احرونوت الإسرائيلية، في 11-1-2007، عن مدى اهتزاز هذه الثقة وعدم الايمان بالمسلمات فقالت: "ان الجمهور في إسرائيل لم يعد يؤمن من جهته بان الجيش الإسرائيلي أقوى جيش في العالم، وأن الإسرائيليين اليوم أقل تفاؤلاً وأكثر خوفاً، ولم يعودوا يؤمنون بالقوة العسكرية كثيراً".
المستوىالثاني: سقوط نظرية الأمن والاستقرار، التي كانت تشكل الاساس الذي يوفر للحركة الصهيونية القدرة الاقناعية لجعل اليهود يهاجرون إلى فلسطين والبقاء فيها.، فإسرائيل انكشفت في هذه الحرب، وكذلك في ظل الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية المستمرة، انها لم تعد مكاناً آمناً، بفعل استمرار العمليات الاستشهادية من جهة، وتعرضها للقصف بصواريخ المقاومة في العمق من جهة ثانية.
ومثل هذا التطور يعني أن الواقع قد تغير رأساً على عقب بالنسبة للاسرائيليين الذين أخذوا يبنون لمستقبلهم بطريقة مختلفة ومغايرة، في ظل عدم وجود تسوية في المنطقة تضمن انهاء الصراع، ولهذا حصلت هجرة معاكسة بعشرات الآلاف من قبل الكثيرين، وعلى قاعدة عدم العودة. وقد أفاد أخر استطلاع للرأي بان 43% من الإسرائيليين باتوا يشعرون بأن أمنهم الشخصي بات أضعف مقابل 7% يشعرون بالعكس، بينما أظهر أن من بين كل أربعة إسرائيليين هناك إسرائيلي لا يثق باستمرارية الكيان الصهيوني.
المستوى الثالث: كما المجتمع، ايضا الجيش نفسه، من أعلى القمة إلى القاعدة، لم يعد يملك المعنويات، ولا الايمان، بانه قادر على تحقيق أهدافه، مهما امتلك من القوة. وبالتالي فان العامل الذي كان يجعله متماسكاً، ويحقق انجازات متواصلة توفر الاساس لهذا التماسك، قد سقط. ولذلك فان تكرار الهزائم والاخفاقات انعكس بظهور وتفجر التناقضات والإختلافات داخل القيادة العسكرية خلال الحرب وبعدها. وتمظهرت بتبادل الاتهامات بالمسؤولية عن الفشل الأمر الذي أدى إلى الإطاحة برأس القيادة العسكرية، رئيس الأركان دان حالوتس.
وفي هذا الاطار، قال المعلق العسكري الإسرائيلي المعروف زئيف شيف: "قد يكون حالوتس قرر أن أزمة الثقة، التي نشأت في الجيش الإسرائيلي، ليست فقط تشوش على عمله مع ضباط أخرين، بسبب اختلالات في الحرب، بل أنها ستصعب عليه أيضا ان يعيد بناء الجيش".
أما الجنرال المتقاعد دان شومرون رئيس الاركان السابق فأوضح: "أن الحرب الثانية على لبنان أديرت من قبل الحكومة والجيش بدون أي هدف".
المستوى الرابع: ازدياد الانقسام السياسي وحالة التذرر، حيث الأحزاب السياسية التاريخية تنقسم، ومحاولات تعويمها تبوء بالفشل، يصاحبه ازدياد الشعور العام بحالة الفراغ على مستوى القيادة. فإسرائيل باتت تفتقد إلى قيادات قادرة على اخراجها من مأزقها الذي تغرق فيه ويهدد المشروع الصهيوني ومستقبل الدولة العبرية التي أسسها بن غوريون، وبرز ذلك في نقاشات مؤتمر هرتسيليا الأخير عندما صب جميع المؤتمرين جام غضبهم على الحكومة ورئيسها ووزرائها، كما قالت يديعوت احرونوت، في 22-1-2007، ورموا الجثث السياسية والجهاز السلطوي المحطم، وركلوا رئيس وزراء يخضع لهجمة كبرى من كل حدب وصوب: تحقيق في الشرطة، ولجنة تحقيق حكومية بشأن الحرب، ومراقب الدولة والمحاسب العام، وائتلاف غير فعال، وتراجع في شعبيته، واعضاء كنيست من حزبه يرغبون في استبداله. والهجوم على ايهود اولمرت لم يستثنِ ايضا وزير الدفاع رئيس حزب العمل عمير بيرتس.
وقد عكس أخر استطلاع أجري، حالة الفراغ وفقدان الثقة بالخروج من المأزق، وعدم شعبية القيادات الموجودة على رأس السلطة والأحزاب الكبيرة، فقد تبين من الاستطلاع أن واحداً بالمائة من الإسرائيليين يثق بوزير الدفاع بيرتس و7% يثقون بأولمرت.
ويحصل ذلك في وقت يزداد فيه عدم الرضا عن سلوك الزعامات الإسرائيلية الأمر الذي يؤدي إلى خلق حالة سوداوية وظلامية في نهاية النفق، كما عبر رئيس شركة الأدوية الإسرائيلية تيفع ايلي هورفيتش: "فإني كمتفائل أرى ظلاماً في نهاية النفق".
وما يعكس هذه الصورة التشاؤوية قول أخر المتبقين من الجيل القديم من القادة الصهاينة شمعون بيريز: "ان إسرائيل تمر بمرحلة خطيرة من التدمير الذاتي، وأن التدمير الذاتي وصل لكافة المجالات في إسرائيل، بل أن هناك منافسة شديدة حول من يقدم الصورة الأكثر سواداً" مؤكداً: "ان هذه المرحلة هي أشد المراحل خطورة"، يديعوت أحرونوت، 13-1-2007.
وإذا كان هذا هو رأي القادة والرآي العام الإسرائيلي، تجاه القيادات وحالة الفراغ الخطيرة التي تشهدها إسرائيل، فانه حسب الصحافة الإسرائيلية هناك شبه اجماع لدى الكثير من السياسيين والعسكريين والمحللين وحتى المنجمين بان دولة إسرائيل تدخل هذه الأيام ولأول مرة في تاريخها فيما يمكن ان نسميه دائرة ودوار الفراغ القيادي والعسكري والاستراتيجي، واخذت اسرائيل تنكشف على نحو زلزالي عسكرياً واخلاقياً.
المستوى الخامس:
انعكست حرب
لبنان الأخيرة وكذلك الانفاق العسكري الكبير على الجيش الإسرائيلي بتدهور الوضع
الاجتماعي للاسرائيليين، حيث افادت نتائج بحث خاص اجري حول آثار الحرب على الفقر:
"بان حرب لبنان ستدفع إلى ما دون خط الفقر حوالي 42 آلفاً آخر كل سنة من السنوات
الثلاث المقبلة".
واظهر البحث، الذي عرض في مؤتمر هرتسيليا الأخير إثر انتهاء حرب تموز، "أن عدد
الفقراء سيبلغ نحو 1،65 مليون نسمة، وفي السنتين التاليتين لذلك سينضم إلى دائرة
الفقر نحو 60ـ80 ألف نسمة آخرين، بحيث إنه في غضون أربع سنوات سيكون واحد من ثلاثة
مواطنين في إسرائيل يعيش تحت خط الفقر".
ما يعني أن ما سمي بمنظومة الرفاه، التي قامت عليها دولة اسرائيل وأغرت اليهود
للهجرة اليها، قد دحرت مرة اخرى إلى مكان أدنى في سلم الأولويات، فيما النفقات
الأمنية مرة اخرى بقيت على راسه، وهذا سيؤدي الى انخفاض مخصصات الرفاه الذي تستفيد
منها الطبقات المحددة الدخل.
ويظهر ذلك بان الحرب انتجت ايضا أزمة اجتماعية حيث قال نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية ايلي يشاي: "إنه في ضؤ الحرب في لبنان تخوض إسرائيل اليوم معركة ضد الحرب الاجتماعية".
خلاصة
يشير ما تقدم بوضوح إلى أن عصر ازدهار وتقدم المشروع الإسرائيلي المستند الى تحقيق الانتصارات المتواصل، والتفوق والشعور بالرفاه والأمن، قد انتهى. وبالتالي فان التماسك الاجتماعي، والتماسك السياسي، ووحدة المجتمع، تضعضعت. وقوة الجيش التي تشكل الاساس في كل ذلك قد اصيبت بعطب خطير، فالجيش تكشف إنه لم يعد قادراً على تحقيق النصر. وبالتالي فان التحقيق الإسرائيلي في اسباب الهزيمة في حرب تموز، وما اظهرت الصحافة الإسرائيلية بشأنه، يعكس مدى عمق الأزمة التي لا تكمن في آلية اتخاذ القرارات اثناء الحرب وبالتالي معرفة أسباب التقصير، بل هي كامنة أصلاً في ان عناصر القوة الإسرائيلية اصيبت باعطاب قاتلة. وأهم عطب فيها هو ان الجيش القوي الذي كان يحقق الانتصارات بات مهزوماً. وأن الأسباب التي كانت تجعله ينتصر قد ولت، وأبرزها سقوط الشعور بالتفوق، وتحطم الأسطورة. وكذلك، وهذا هو الأهم، أن المقاومة في لبنان وفلسطين، التي هزمته، باتت متجذرة وتملك من القدرة والايمان والارادة ما يجعلها قادرة على إلحاق الهزائم الجديدة بإسرائيل. وفوق ذلك فان إسرائيل لم تعد بسبب كل ذلك قادرة على استعادة قوتها الردعية، لأن أي حرب قادمة سيكون مسرحها العمق الصهيوني، وبالتالي فان الشعور الإسرائيلي بالخطر، الذي بات يهدد وجود إسرائيل بالذات، له أساسه القوي الذي عبر عنه شمعون بيريز بقوله: "ان اسرائيل تمر بمرحلة التدمير الذاتي".