إستراتيجية بوش

قرع لطبول الحرب أم خطة لتحسين شروط التفاوض

د. جوزف عبدالله

العرب والعولمة

 

 

منذ بضعة أشهر بدأ الرئيس بوش، ومن بقي معه من المحافظين الجدد، الكلام عن إستراتيجية جديدة للعراق. فما الداعي إلى طرح إستراتيجية جديدة للعراق بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات على غزوه وإسقاط نظامه واستبداله بنظام آخر؟ وما هي عناصر هذه الإستراتيجية؟ وما احتمالات نجاحها حيث عجزت الإستراتيجيات السابقة؟

هل زيادة القوات الأميركية في العراق إستراتيجية جديدة فعلاً؟ أم هي تكرار لإستراتيجية سبق تجريبها وتبين فشلها؟ وما معنى لهجة التصعيد والوعيد التي يطرحها الرئيس بوش؟ وهل  ستؤدي إلى توسيع الحرب في المنطقة، أم إلى التفاوض؟

 

عبر الرئيس بوش عما سماه "إستراتيجية جديدة" في خطاب وجهه إلى الشعب الأميركي ليل العاشر من كانون الثاني 2007، وفي خطابه عن حال الاتحاد في الثالث والعشرين من الشهر ذاته، كما عبر تشيني ورايس وغيرهما من الناطقين باسم البيت الأبيض في أكثر من مناسبة عن هذه الإستراتيجية المزعومة. لقد انطوت الدعوات إلى الإستراتيجية الجديدة على جملة من الأمور، نجملها بالآتي:

 

أولاً: اعتراف أميركي بالفشل

خشية من اقتراب الهزيمة

في خطابه الموجّه إلى الشعب الأميركي، ليل العاشر من كانون الثاني 2007، قال بوش: "عندما خاطبتكم قبل ما يربو على عام، كان حوالي 12 مليون عراقي قد صوّتوا لبلد ديمقراطي موحد. وكانت انتخابات عام 2005 إنجازاً مذهلا. واعتقدنا أن تلك الانتخابات ستوحد بين العراقيين، وأننا سنتمكن، مع تدريبنا لقوات الأمن العراقية، من إنجاز مهمتنا بعدد أقل من القوات الأميركية. لكن العكس حصل في عام 2006". وأضاف: "إن الوضع في العراق غير مقبول بالنسبة للشعب الأميركي، وغير مقبول بالنسبة إلي... إن الإخفاق في العراق سيكون كارثة بالنسبة للولايات المتحدة...".

وهذا ما تكرر في خطاب بوش عن حال الاتحاد، حيث قال: "خلال السنوات الست منذ وقوع الهجمات على بلادنا، كنت أتمنى أن أقدم لكم تقريرا عن أن الأخطار قد انتهت. لكنها لم تنته بعد... إن هذه ليست هي المعركة التي دخلناها في العراق، لكنها هي المعركة التي نخوضها الآن. إن كل فرد فينا يود لو أن الحرب كانت قد انتهت وكسبناها". يعني ذلك بوضوح أن إدارة بوش تدرك مأزقها الفعلي وفشلها المتمادي، وهي تخشى من الهزيمة المحققة، خصوصاً وأنها تستشعر بتزايد الخطر على وجودها في حال توسع صفوف المقاومة العراقية. ومن هنا كلام بوش عن "المتطرفين من الشيعة والسنة": "وقد اتضح في الأوقات القريبة أيضا أننا نواجه خطرا متزايدا من المتطرفين الشيعة الذين لا يقلّون عداء لأميركا".

لقد بات الكلام على هزيمة الأميركيين مرافقاً لكل التقديرات الأميركية بالذات، بما في ذلك تقديرات بوش وفريقه المقرب منه. ولعلها المرة الأولى التي تركز فيها الإدارة الأميركية، في ندائها إلى "البلدان الحليفة المجاورة" للعراق، على البوح بشعورها (المشترك بين المحافظين الجدد والديمقراطيين) باقتراب هزيمة الولايات المتحدة في العراق: "على بلدان مثل المملكة العربية السعودية، ومصر، والأردن، ودول الخليج أن تدرك أن هزيمة أميركية في العراق إنما ستوجد ملاذا جديدا للمتطرفين، وستؤدي إلى تهديد استراتيجي لوجودها".

إن هذا الاعتراف بالفشل، والخشية من الهزيمة، وغيره الوارد في شتى مداخلات بوش وفريقه، ينطوي على خشية فعلية ترهب رأس الإدارة الأميركية من هزيمة جدية في العراق. لم تعد الهزيمة الأميركية في العراق أمراً غير مطروح على جدول الاحتمالات الفعلية: لقد أكد تقرير بيكر- هاملتون: "الوضع في العراق خطير، وخطير جداً".

 

ثانياً: حشد القوى الخارجية

محاولة استيعاب المعارضة الأميركية

يحاول بوش في توجهه إلى البلدان العربية لدعم إستراتيجيته استنهاض هذه الدول بعد ترددها وقلقها من تقرير بيكر- هاملتون، ومن تطورات الأمور الميدانية في العراق. ولذا نراه يحاول تعظيم خطر وانعكاسات الهزيمة الأميركية على هذه الدول بالذات.

كما يحاول بوش استنهاض الشعب الأميركي وقواه السياسية (خاصة الحزب الديمقراطي) للوقوف إلى جانب إستراتيجيته، ولوقف احتمال التراجع العربي. ولأجل ذلك يتوجه إلى الحضور في جلسة خطاب الاتحاد بالقول: "والكثيرون من الموجودين في هذه القاعة يدركون جيدا أن أميركا يجب ألا تفشل في العراق لأنكم تدركون أن تبعات الإخفاق ستكون خطيرة وبعيدة المدى". ويختم: "وفي هذه اللحظة من تاريخنا، أيها السادة والسيدات، ليس هناك ما هو أهم من أن تنجح أميركا في الشرق الأوسط... وأن تنجح في العراق...وأن تجنب الشعب الأميركي هذا الخطر".

يحاول بوش في إستراتيجيته أن يستنهض بعض دول الخليج العربي والأردن ومصر، ويعمل على تسعير الصراع السني الشيعي، وتخويف دول الخليج العربي من "الخطر" الفارسي المزعوم. ويحاول عبر ما سمته رايس "حلف المعتدلين" تقديم إستراتيجيته للمعارضة الأميركية (الحزب الديمقراطي وبعض الجمهوريين) على شيء من القوة الموضوعية، ليخفف من اندفاع الديمقراطيين في محاصرة هذه الإستراتيجية، خصوصاً وأن مشاركة دول الخليج العربي في هذه الإستراتيجية، أي تحميلهم القسط الكبير من التكلفة المالية، تخفف عن الأميركيين عبء تمويل استمرار الحرب، هذا التمويل الذي يشكل واحدة من عنوانين المعارضة الديمقراطية.

 

ثالثاً: إصرار بوش على التصعيد

تشكل خطب بوش ومواقفه خلاصة مرحلة من الصراعات داخل الإدارة الأميركية حول السبيل الذي قد يمكّن الولايات المتحدة من الخروج من مأزق رمتها فيه سياستها المتهورة في أعقاب الصفعة القوية التي تلقتها في 11 أيلول، وخاصة بعد غزو العراق. وكان من المنتظر أن يقدم "فريق دراسة العراق" بقيادة جيمس بيكر "خريطة الطريق" التي سيعتمدها بوش، خاصة بعد نجاح الديمقراطيين في الانتخابات الأميركية النصفية في 7 تشرين الثاني 2006. ولكن خريطة بيكر- هاملتون تعرضت لحصار من جانب بوش الذي لجأ إلى من تبقى معه المحافظين الجدد في أميركان أنتربرايز إنستيتيوت American Enterprise Institute AEI وحصل على توصية بزيادة عدد القوات الأميركية كمدخل لإمكانية تحقيق النصر في العراق. إنه التقرير البديل عن تقرير بيكر- هاملتون، والذي وضعه فريدريك كاغان Kagan Frederick وجاك كين Keane Jack.

وبينما اقترحت ورقة بيكر- هاملتون على بوش الانفتاح على السوريين والإيرانيين للحصول على مساعدتهما في العمل على استقرار الوضع العراقي، جاءت مواقف بوش وكأنها تحمل تهديداً مباشراً لهما: "كما يتطلب النجاح في العراق... معالجة أمر إيران وسوريا. إن هذين النظامين يسمحان للإرهابيين والمتمردين باستخدام أراضيهما لدخول العراق والخروج منه. وتقدم إيران دعماً مادياً للهجمات على القوات الأميركية. سوف نوقف الهجمات على قواتنا. وسوف نقطع تدفق الدعم من إيران وسوريا، وسوف نبحث عن الشبكات التي تقدم الأسلحة المتقدمة والتدريب إلى أعدائنا في العراق، ونعثر عليها ونحطمها" (خطاب 10-1-2007).

 

رابعاً: إستراتيجية هجومية أم تراجعية؟

هذا الإعلان عن التعبئة العامة من أجل المعركة الفاصلة انتهى بقرار لبوش بإرسال 21500 جندي إلى العراق، وذلك بعدما كانت الأعداد تتراوح بين زيادة من ثلاثين إلى خمسين ألف عسكري. فبين أن تكون اللوحة الإستراتيجية العامة تؤشر على وضع كارثي سيطال مجمل العالم "الديمقراطي" في ما يُسمى "الحرب العالمية على الإرهاب"، وبين التعزيزات المتواضعة جداً، 21500 جندي إلى العراق، يبدو الأمر على تناقض صارخ. فما عسى أن يفعل هؤلاء الجنود (21500)؟ أم أن القدرة الأميركية باتت عاجزة عن تجنيد أكثر من هذا العدد وإرساله إلى العراق؟

إن الإستراتيجية الجديدة تحصر الهدف في بغداد، فكل ما تطمح إليه الإدارة الأميركية هو السيطرة على بغداد. وكأن كل حقل "الحرب العالمية على الإرهاب" باتت محصورة في السيطرة على العاصمة العراقية. إن النقاش حول إرسال المزيد من القوات الأميركية إلى العراق (21500) مظهر أساسي من مظاهر الإستراتيجية التي تتقلص. وكل المقصود من زيادة القوات الأميركية هو السيطرة على بغداد، كما لو أن بغداد أصبحت المركز "العجيب" لبعث قدرة وتأثير الولايات المتحدة. لقد كان العراق بكامله مقدماً في العام 2003، في سياق هجومي، بعكس الأمور اليوم، حيث يسود الدفاع عن الوجود. كان العراق عام 2003 المركز الأساسي لتأمين السيطرة الأميركية على العالم، بينما غدت بغداد اليوم هي الفرصة الأخيرة! بالطبع يأتي هذا البرنامج من بقايا المحافظين الجدد وهم منظرو سياسة بوش، ويعتبرون أنه ما أن يتم ترتيب وضع بغداد حتى تصبح الولايات المتحدة قادرة على أن تسيطر على كل العراق.

يدعو بوش إلى توسيع حقل المواجهة ليشمل مجمل منطقة الشرق الأوسط، تحت شعار قيام "حلف المعتدلين" لمواجهة حلف الإرهاب. صحيح أن الإدارة الأميركية لطالما أدرجت العراق في سياق أوسع منه بكثير. ولكن ذلك كان ينطوي على ضرورة تغيير مجمل الشرق الأوسط "الكبير" أو "الأكبر". فلنتذكر أن ريتشارد بيرل سبق له وقال: "العراق هدف تكتيكي، والسعودية هدف إستراتيجي، ومصر الجائزة الكبرى"، كما سبق لرايس أن دعت إلى تغيير الجغرافية السياسية في مجمل المنطقة: إعادة تفتيت الجغرافية السياسية لسايكس بيكو. والجديد نسبياً هنا هو الدعوة إلى تكتل من بعض القوى التي كان مطلوباً تغيير جغرافيتها السياسية إلى أن تدخل في المواجهة المباشرة كيلا تنعكس عليها الهزيمة الأميركية، إن هي لم تشارك في إنقاذ الأميركيين في العراق.

 

خامساً: مظاهر تصعيد خطيرة

في مقال بعنوان: "الولايات المتحدة تستعد لمهاجمة المواقع النووية الإيرانية انطلاقاً من قواعد في بلغارية ورومانيا"[1]، كتبه في 28-1-2007 غبرييل رونيه Gabriel Ronay رصد لتحركات عسكرية أميركية تؤشر على احتمالات توجيه الولايات المتحدة ضربة لإيران.

يستعد الرئيس بوش لضرب المنشئات النووية الإيرانية قبل نهاية نيسان، وستستخدم في هذا الهجوم القواعد الجديدة لسلاح الجو الأميركي في بلغارية ورومانيا، وذلك استناداً لتقرير رسمي من صوفيا. وتقول وكالة الصحافة البلغارية نوفينيت Novinite: "قد تستخدم القوات المسلحة الأميركية قاعدتيها الجويتين في بلغارية وقاعدة ثالثة على الساحل الروماني على البحر الأسود لتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران في نيسان". إن الانتشار العسكري الأميركي على طول البحر الأسود وتضافره مع الانتشار الحديث في مضيق هرمز لحاملتي الطائرات الأميركيتين، يبدو أنها تشير إلى أن الرئيس بوش نفد صبره...

من الصعب الآن معرفة ما إذا كانت الأخبار المنشورة في بلغارية تكتيكاً تضليلياً أو حدثاً إستراتيجياً. ولكن، في الوقت الذي يتم فيه تعزيز القواعد الأميركية في إيطاليا، وتنشر فيه أنظمة مضادة للصواريخ في جمهورية تشيكيا وفي بولونيا، فإن التطورات في البلقان يبدو أنها تشير إلى مرحلة جديدة في حرب بوش الشاملة على الإرهاب.

وثمة بعض التفاصيل المرعبة تؤكد أخبار صوفيا حول تقدم الإعداد للحرب على طول البحر الأسود. ومن ذلك إقامة محطات جديدة لتزويد القاذفات الأميركية، الشبح، التي ستكون رأس حربة في الضربة ضد إيران. وهذا ما صرح به، استناداً إلى وكالة نوفينيت، سام غاردنر، العقيد المتقاعد في سلاح الجو الأميركي، وضابط المخابرات الأميركية المقيم في بلغاريا: "إن وضع تجهيزات حيوية، في مواقع غير معتادة، لتزود بالوقود قاذفات بي-52، بما في ذلك في بلغارية، يدخل في سياق مثل هذا الهجوم".

ومن المتوقع أن يصل، على دفعات، ثلاثة آلاف من القوات الأميركية إلى القواعد الأميركية في بلغارية. وتبعاً لاتفاق التعاون العسكري الموقع بين الولايات المتحدة وبلغارية في نيسان 2006، فقد تم استئجار قاعدة جوية في بزمر Bezmer، وحقل للطيران في غراف ايغنيتيفو Graf Ignitievo، وحقل للرماية في نوفو سيلو Novo Selo. ومما له دلالته أن مفاوضات العام الماضي حول هذه القواعد قد تعثرت بفعل طلب بلغارية "معرفتها المسبقة بعزم واشنطن على استخدام أراضيها لمهاجمة غيرها من البلدان، وخصوصاً إيران". أما رومانيا، المضيف الثاني على البحر الأسود للقوات الأميركية، فهي تستفيد من مساعدات مالية كبيرة منذ أن تحولت إلى الأميركيين قاعدتها العسكرية كوغالنسيانو Kogalniceanu في كونستانزا Constanza. وهذه القاعدة على دور حيوي في سيناريو الحرب على إيران.

وفي الأسبوع الأخير من كانون الثاني، جاء في جريدة بوخارست إيفينيمنسوال زيليي Bucarest Evenimentual Zilei أن القوات الجوية الأميركية ستسير عدة رحلات بطائرات ف15 F15 وف16 F16 وأ10 A10 إلى قاعدة كوغالنسيانو. وأكد الأميرال جورج مارن رئيس هيئة أركان الجيش الروماني "أن حوالي ألفين من القوات الأميركية سيتمركزون مؤقتاً في رومانيا". وفي أوروبا الوسطى، تم إدخال جمهورية تشيكيا وبولونيا في إستراتيجية البنتاغون. وفي نفس الأسبوع وافق رئيس الحكومة التشيكية ومجلس الأمن القومي على نشر نظام رادار دفاعي مضاد للصواريخ في نيبوليسي Nepolisy. كما وافقت بولونيا على إقامة قاعدة أميركية من الصواريخ المضادة للصواريخ وقوة اعتراض جوية في أراضيها.

 

سادساً: تصعيد تخريبي

الإرهاب والعمليات الخاصة

علاوة على شروع الولايات المتحدة بنشر عشرات القطع الحربية في مياه الخليج، وإعداد القواعد العسكرية في بعض بلدان أوروبا الشرقية وغيرها، ما يؤشر إلى نوع من الاستنفار العسكري الشامل تقريباً، تسعى الولايات المتحدة إلى نشر جواسيسها و"فرق الموت" الإرهابية التابعة لأجهزة المخابرات في شتى البلدان العربية والشرق الأوسط، حيث يتوفر لها ذلك.

من ذلك أن الولايات المتحدة تدعم مجموعات داخل إيران ومعادية لها، علاوة على دعمها المعروف لحركة "مجاهدي خلق". ولعل ما حصل في مقاطعة زاهدان هو من مفاعيل هذا الدعم. كذلك تصرح الولايات المتحدة بتسليحها لجماعة أبي مازن في فلسطين لمواجهة حركة حماس. كذلك تعلن الولايات المتحدة دعمها لجماعات المعارضة السورية.

وبات من المعلوم أن البيت الأبيض أعلن دعم جهاز "سي أي إيه" لبعض جماعته في لبنان. لقد تحدثت صحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية، في 9-1-2007، عن خطة سرّية أقرّها الرئيس الأميركي بوش، ووضعها مجلس الأمن القومي، بدعم التنظيمات اللبنانية المعادية لحزب الله، ومساعدة الحكومة اللبنانية على منع انتشار النفوذ الإيراني في لبنان، من خلال تفويض وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" باتخاذ إجراءات سرية ضد حزب الله. بالطبع هذا ما ردت عليه حكومة الرئيس السنيورة في اتصال لجريدة السفير بتاريخ 10-1-2007: باعتبار الخبر: "هو كلام لا قيمة له، وربما كان من باب ذر الرماد في العيون لهدف قد لا يكون في خدمة وحدة الصف اللبناني والعربي".

 

سابعاً: الاعتراض الروسي

أزمة الصواريخ الأوروبية!

لقد أدان الجنرال يوري باليوفسكي، رئيس هيئة الأركان الروسية، في التاسع من شباط، نشر هذه القواعد الأميركية للصواريخ المضادة للصواريخ على أرض تشيكيا وبولونيا، واعتبره "كتهديد صريح لروسيا، على الأقل". وعبر وزير الدفاع الروسي السابق، سرغي إيفانوف، عن قلق موسكو بقوله: "روسيا غير قلقة مطلقاً. فقواتها النووية الإستراتيجية يمكنها أن تؤمن سلامتها في كل الأحوال. ولكن بما أن لا طهران ولا بيونغيانغ يملكان صواريخ عابرة للقارات وقادرة على تهديد الولايات المتحدة، فمِن مَن ستحمي الغرب هذه الدرع الصاروخية؟".

وفي العاشر من شباط، أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مؤتمر الأمن في ميونيخ، أن بلاده لن تسمح للولايات المتحدة بتقرير مصير الحرب أو السلم، منفردة، أو عبر الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي". وتوجه بوتين في جولة اتصالات شملت السعودية والأردن وقطر، وعبر فيها عن إدانته لسياسة الولايات المتحدة ولإستراتيجيتها في الشرق الأوسط.

وفي 19 شباط، هددت روسيا باستهداف المنشآت الصاروخية الأميركية في بولونيا وتشيكيا، في مؤتمر صحفي في موسكو عقده رئيس أركان القوات المسلحة الإستراتيجية، كما هدد باستئناف بلاده لإنتاج الصواريخ النووية المتوسطة المدى، رداً على السياسات الأميركية.

ولعل هذا التصعيد العسكري الأميركي يذكرنا بأزمة الصواريخ الأوروبية euromissiles  (1977-1987)، ولكن بأدوار مقلوبة، فالروس هم اليوم الذين يهددون بالرد على الصواريخ الأميركية بنشر صواريخ روسية، بعكس ما حصل سابقاً عندما هدد الأميركيون بنشر صواريخهم للرد على الصواريخ الروسية، إس إس-20 SS-20.

 

ثامناً: اعتراضات أميركية وتحذير

لا يرغب الديمقراطيون بالتخلي عن العراق، ولكنهم يتقدمون بملامح خطة (بيكر- هاملتون) تعطي للولايات المتحدة فرصة لالتقاط الأنفاس، بالسعي إلى نوع من التهدئة والتفاوض، كبديل عن استمرار الصراع أو تصعيده لحده الأقصى، ما ينطوي على هزيمة مذلة للولايات المتحدة. ولهذا لاقى التوجه الهجومي الذي أعلنه بوش اعتراضات كثيرة من قبل الديمقراطيين وبعض الجمهوريين في الكونغرس الأميركي، وكان آخرها طرح استصدار قرار يقيد حرية الرئيس الأميركي في شن الحرب، والتصويت على قرار غير ملزم برفض زيادة القوات العسكرية في العراق.

كما لاقى هذا التوجه البوشي استهجان العديد من المحللين الإستراتيجيين والعسكريين الذين بلغ الاعتراض عند البعض منهم درجة تحذير الإدارة الأميركية من إمكانية انعكاس هذه السياسة المتهورة كارثة على الجيش الأميركي في العراق.

يقول بات لانغ Lang Pat، محلل الشرق الأوسط الرئيسي السابق في وكالة الاستخبارات العسكرية: طبقاً لكل الكلام في واشنطن، يبدو أن خطة كاغان- كين (AEI) سيعتمدها الرئيس بوش، وقد يعلنها عندما سيرسم سياسته للعام 2007. ويحذر لانغ: إذا طبقت هذه الخطة، فهي من المحتمل أن تؤدي إلى "ستالينغراد على دجلة". كما سبق أن تقدم وليام ليند منذ بعض الوقت بالفكرة القائلة بأن القوات الأميركية في العراق هي في وضع صعب يمكنه أن يصبح مأساوياً في بعض الظروف:  هجوم أميركي على إيران، يعقبه رد إيراني. وفي مقال له بعنوان "انهيار الأعلام" ( antiwar.com، 11- آب- 2006) يشبه ليند وضع القوات الأميركية في العراق بنوع من ستالينغراد محتملة. ويكمن رأيه في التهديد بإبادة محتملة للجيش الأميركي، كما حصل مع قوات فون بولوس Von Paulus في ستالينغراد. وهذا ما سماه "الكارثة العظمى". ويبدو أن رامسفيلد بالذات كان يخشى، برأي سيمون هيرش في مقال له بتارخ 14 آب 2006، من عواقب الحرب على إيران: كأن تتحرك الميليشيات الشيعية وتوجه ضربات قاتلة للجيش الأميركي.

والملفت للنظر في الاعتراضات الأميركية على سياسة بوش، موقف زبغنيو بريجنسكي Zbigniew Brzezinski الذي يمتاز بأهمية كبيرة. فهو شخصية تمتد خبرتها لعشرات السنين في أعلى مراتب الإدارة الأميركية المعنية بالشؤون الخارجية خصوصاً، وهو على صلات وثيقة جداً مع قيادات الجيش وأجهزة المخابرات. لقد اعترف علناً، في مقابلة له مع مجلة نوفل أوبسرفاتور، في العام 1998، بأنه دبر مخططاً سرياً في نهاية السبعينيات بتجييش "المجاهدين الإسلاميين الأصوليين" من أجل إسقاط النظام اليساري الموالي للسوفييت في أفغانستان، عبر حرب مدمرة كانت بداية لانهيار النظام السوفييتي. ففي شهادته أمام لجنة مجلس الشيوخ للعلاقات الخارجية في الخميس 1-2-2007، أعلن بريجنسكي نقداً لاذعاً لغزو العراق وحذر من أن سياسة إدارة بوش ستؤدي بالضرورة إلى حرب مع إيران، وكاد أن يتهم بوش بأنه يبحث عن تعلة لتوجيه ضربة لإيران.

ولعل أبرز ما يلفت النظر ويدعو إلى القلق في شهادة بريجنسكي هو وصفه "للسيناريو المستساغ لصدام عسكري مع إيران". وينطوي هذا السيناريو، برأيه، على المسار التالي: "تبرير العجز عن تحقيق الأهداف المرسومة في العراق بتحميل إيران مسؤولية الفشل، ويعقب ذلك تحميل إيران مسؤولية استفزاز ما في العراق أو عملية إرهابية ما في الولايات المتحدة، ويتم تتويج ذلك المسار بعملية عسكرية تقوم بها الولايات المتحدة ضد إيران، كعملية "دفاعية"، وهذا ما يؤدي إلى إغراق الولايات المتحدة المعزولة في مستنقع يزداد اتساعاً وعمقاً ليشمل العراق وإيران وأفغانستان وباكستان".

 

خلاصة: تصعيد من أجل الحرب أم للتفاوض؟

لا شك أن إرسال حاملات الطائرات إلى الخليج وإدخال صواريخ توماهوك إلى المنطقة لا يقصد منه مواجهة المقاومة العراقية، بل يعني توسيع حقل الصراع والتفكير بعدوان عسكري على إيران وربما على سورية. وهناك من يتقدم باحتمال توجيه ضربة أميركية لإيران في ربيع 2007، وحماس بوش وفريقه لتوقيتها في آذار. وذلك على الأقل بحجة أن التدخل الإيراني والسوري هو الذي يسبب المأزق الأميركي الذي تعرف الإدارة الأميركية أنه يكمن في جوهره بوجود المقاومة العراقية المسلحة.

صحيح أن البيت البيض لا يكف عن التصريح بعدم وجود نية لتوجيه ضربة إلى إيران. وقد يكون محتملاً أن الإدارة الأميركية تهدف من تحريك قواتها العسكرية الضغط على إيران بالتلويح بالضربة العسكرية. ولكن ماذا لو لم ينفع التلويح باستخدام القوة؟

وقد تكون الولايات المتحدة لا تكذب في ما تقوله بعدم وجود خطط للعدوان على إيران. ولكن الوقود لإشعال الحريق متوفر. وكل ما يلزم هو إشعال شرارة. والخطر يكمن في أن الولايات المتحدة خلقت الشروط التي من شأنها أن تؤدي إلى حرب شاملة في الشرق الأوسط.

ولكن كل الضجيج التصعيدي لا يعني بالضرورة قيام القوات الأميركية بتوجيه ضربة لإيران، كما لا يعني أن هذه الضربة ستكون ناجحة فيما لو حصلت. بل لعل المقصود هو المزيد من ربط الوضع العراقي بالوضع في المنطقة، وخاصة ربط مصير العراق بالعلاقة بين السعودية وإيران وسورية وتركيا. فما معنى زيارة الطالباني إلى سورية؟ وما معنى التواصل الإيراني السعودي؟ إن ما يهم الولايات المتحدة اليوم هو السعي لإنقاذ ما يمكنها إنقاذه من مصالحها في المشرق. وليس صحيحاً أن الإدارة الأميركية يتحكم بها الرئيس بوش، كمجنون قابع في البيت الأبيض! والبنتاغون يدرك مأزقه الفعلي في العراق. وفي شؤون الحرب لكم هو صحيح كلام رامسفيلد: "البنتاغون مسخ يقبض بأسنانه على مصيرنا"، خطابه في 10 أيلول 2001.

 

د. جوزف عبدالله

العرب والعولمة

 

التوقف في "مصنعِ كذب العراق"
في مؤتمره الصحفي، يوم الأربعاء 14-2-2007، كشف بوش عن عزلته ومعارضة الكثير من القيادات الأميركية لخطته: "يناقش الآن أعضاء مجلس النواب قراراً من شأنه أن يعرب عن رفض الخطة... وقد ناقشت خلال الأشهر القليلة الماضية إستراتيجيتنا في العراق مع أعضاء في الكونغرس من الحزبين السياسيين. وقد أبلغني الكثيرون أنهم غير راضين عن الوضع في العراق. وقلت لهم أنني غير راض عن الوضع في العراق. وهذا هو ما جعلني أصدر أمري بإجراء إعادة نظر شاملة في إستراتيجيتنا... وسيصوت مجلس النواب في وقت لاحق من هذا الأسبوع على قرار يعارض خطتنا الجديدة في العراق، قبل أن تتاح لها فرصة النجاح. إن الناس يصدرون حكماً مسبقاً عليها. وهم يتمتعون بالحق الكامل في الإعراب عن رأيهم، وهو قرار غير ملزم. وسيكون بإمكان الكونغرس قريباً التصويت على تشريع ملزم...".
لا شك أن بوش يدرك مدى عزلته وصعوبة الاستمرار في النهج الذي اعتمده للسيطرة على العراق وضرب إيران وغيرها. وهذه العزلة ناجمة عن ضعف حجته، وضعف الحجة ناجم بدوره عن سوء تقدير الوضع الميداني في العراق، ما يؤدي إلى مزيد من العزلة.
لقد قام المعلق روبرت دريفوس[2] Robert Dreyfuss، انطلاقاً من وضوح إحساس بوش بالعزلة في مؤتمره الصحفي المذكور، بمقارنة بين سلوك بوش في مرحلة إعداده لغزو العراق وسلوكه اليوم في مرحلة الإعداد لغزو إيران، أو التهديد بهذا الغزو على الأقل. ونشر مقارنته في 15-2-2007 على موقع TomPaine.com.
يرجع دريفوس أسباب عزلة بوش إلى حقيقة أن مراكز التأثير القوية ومراكز التضليل والتعمية التي كانت إلى جانبه في العام 2002 (في مرحلة التحضير لغزو العراق) لم تعد موجودة؛ وحججه اليوم أضعف بكثير من تلك التي تقدم بها في العام 2002؛ ولهذا جاء عنوان تعليقه: "التوقف في مصنع كذب العراق".

 

تناقضات الإدارة الأميركية
موقف بريجنسكي
إن لموقف زبغنيو بريجنسكي Zbigniew Brzezinski أهمية كبيرة، فهو شخصية تمتد خبرتها لعشرات السنين في أعلى مراتب الإدارة الأميركية المعنية بالشؤون الخارجية خصوصاً، وهو على صلات وثيقة جداً مع قيادات الجيش وأجهزة المخابرات. وهو يعرف عما يتكلم ، ولكلامه جدية في معناه. فقد سبق له ونظم استفزازات ناجحة عندما كان مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر. لقد اعترف علناً بأنه دبر مخططاً سرياً في نهاية السبعينيات بتجييش "المجاهدين الإسلاميين الأصوليين" من أجل إسقاط النظام اليساري الموالي للسوفييت في أفغانستان، عبر حرب مدمرة كانت بداية لانهيار النظام السوفييتي.
 
بوش يبحث عن تعلة لتوجيه ضربة لإيران.
في شهادته أمام لجنة مجلس الشيوخ للعلاقات الخارجية في الخميس 1-2-2007، أعلن بريجنسكي نقداً لاذعاً لغزو العراق وحذر من أن سياسة إدارة بوش ستؤدي بالضرورة إلى حرب مع إيران، مع ما في ذلك من عواقب غير محسوبة على الدور الأميركي في الشرق الأوسط والعالم.
إن بريجنسكي الذي سبق أن عارض علناً غزو العراق في آذار 2003 واعتبره خطأً جسيماً، بدأ كلامه أمام لجنة مجلس الشيوخ بملاحظاته النقدية القاسية حول ما سماه "خيار الحرب" في العراق، واصفاً هذه الحرب بأنها "كارثة تاريخية، إستراتيجية وأخلاقية". واعتبر أن هذه الحرب "التي تم الشروع بها بفرضيات كاذبة تدمر مشروعية الولايات المتحدة في كل العالم. فضحاياها المدنية ومبالغاتها التدميرية تقضي على سمعة الولايات المتحدة الأخلاقية. وهي تعزز زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط بفعل العنجهية التي حركت الحرب ومبادئها". وسخر بريجنسكي من مقولة "الصراع الإيديولوجي الحاسم" ضد الإسلام الراديكالي، واعتبره "تبسيطياً وديماغوجياً"، ومجرد "حكاية أسطورية" تستخدم لتبرير "حرب مستمرة ولعلها إلى اتساع".
وأضاف بريجنسكي "إن الادعاء بأن الولايات المتحدة تخوض في الشرق الأوسط حرباً بوجه التهديد الإسلامي الأوسع، تلعب إيران دور المركز فيه، هو ادعاء هادف لاستخدامه في الترويج لنبوءة يسعى بوش إلى تحقيقها".
ولعل أبرز ما يلفت النظر ويدعو إلى القلق في شهادة بريجنسكي هو وصفه "للسيناريو المستساغ لصدام عسكري مع إيران". وينطوي هذا السيناريو، برأيه، على المسار التالي: "تبرير العجز عن تحقيق الأهداف المرسومة في العراق بتحميل إيران مسؤولية الفشل، ويعقب ذلك تحميل إيران مسؤولية استفزاز ما في العراق أو عملية إرهابية ما في الولايات المتحدة، ويتم تتويج ذلك المسار بعملية عسكرية تقوم بها الولايات المتحدة ضد إيران، كعملية "دفاعية"، وهذا ما يؤدي إلى إغراق الولايات المتحدة المعزولة في مستنقع يزداد اتساعاً وعمقاً ليشمل العراق وإيران وأفغانستان وباكستان".
وجواباً على سؤالين لأحد المراسلين حول من سيقوم بالاستفزاز، وما إذا كانت الحكومة الأميركية هي التي ستقوم بذلك، يجيب بريجنسكي: لا أعرف، كما سبق وقلت، لا يمكننا أبداً توقع مثل هذه الأمور. قد يكون الأمر مفاجئاً. ما قلته هو أن كل الوضع خارج أي سيطرة، وكل الحسابات تجعلنا نصل إلى وضع من الصعب فيه معرفة حقيقة ما يجري.

 

من مقابلة تشيني مع فوكس نيوز (14-1-2007)
(... ...)
كريس والاس Chris Wallace (سؤال): هل ترى الولايات المتحدة أنه من الملائم اللجوء إلى جميع الوسائل لتحقيق النصر؟
ديك تشيني (جواب): أعتقد، نعم. أعتقد بذلك، خصوصاً متى أخذنا بعين الاعتبار الصراع المطروح، وأخذنا بعين الاعتبار أن العراق مجرد جزء من حرب أوسع- إنها في الحقيقة حرب عالمية تمتد من باكستان إلى إفريقيا الشمالية. لقد تصرفنا في باكستان. وتصرفنا في أفغانستان. ونتعاون تعاوناً وثيقاً مع السعودية ودول الخليج ومصر.
لقد انطلقنا بالهجوم منذ التاسع من أيلول، وقمنا باحتلال دول تدعم الإرهاب، وتجمع الإرهابيين، وتدربهم وتجهزهم، ومن هناك يتم تحضير وتخطيط الهجمات على الولايات المتحدة.
والآن، عندنا رجال هم حلفاء مخلصون، مثل قرضاي في أفغانستان ومشرف في باكستان...
والخطأ القاتل هو التخفيف من الجهود المبذولة في الحرب العالمية على الإرهاب، والتخفيف من العمل الكبير الذي قدمناه إلى باكستان وأفغانستان والعربية السعودية وفي كل العالم، وأن نقف متفرجين على انهيار كل شيء لأن الولايات المتحدة قررت أن العراق مشكلة أكبر بكثير، وبالتالي علينا أن نحزم الحقائب ونعود إلى بلادنا...
إنه صراع وجود. إنه من نوع الصراع الذي سيشغل سياستنا وحكوماتنا طيلة السنوات العشرين أو الثلاثين أو الأربعين القادمة. علينا المثابرة، علينا التحلي بشجاعة القتال على المدى الطويل...
إنها قرارات صعبة، ولكن الرئيس اتخذها. إنه قرار جيد. إنها سياسة جيدة. فبعد التفكير العميق، نعتقد أن أفضل وسيلة هي الذهاب إلى الأمام لبلوغ أهدافنا...

 


[1]  راجع: http://www.sundayherald.com/international.

[2]  كاتب متخصص في قضايا الأمن القومي والسياسةَ. هو مؤلف "لعبة الشيطان: هكذا ساعدت الولايات المتحدة على إطلاق عنان الإسلامِ الأصوليِ". يساهم محرراً في ذي نايشن، الأمة. له موقع على شبكة الإنترنت: www.robertdreyfuss.com.