هل إلى الخروج من سبيل؟!

الشيخ إبراهيم الصالح
طرابلس لبنان

 


لقد حفل التاريخ الإسلامي بالحروب المذهبية، التي عبّرت عن العمران الفكري لعصبيات ناشئة أو لمنظومات حاكمة أو لدول متزامنة تصارعت في ما بينها للهيمنة والسيطرة سعياً للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها.


ولم تكن تلك الحروب سيئة بكليتها، خصوصاً إن انعدم العدو الخارجي الذي يتربص بالأمة الدوائر ويتحين الفرصة للإنقضاض عليها، فلقد كانت هي طريق التغيير واستعادة القوة بعد الترهل، ولتجديد شباب الدول المتعاقبة على مدى التاريخ منذ فجر الإسلام حتى سقوط السلطنة العثمانية.


ولقد كان استغلال الأعداء لهذه الصراعات وسيلتهم لتعزيز تفوقهم على أمتنا وحكوماتنا. ولمّا كانت حالة الجهاد عماد أمتنا ودولتنا على الدوام تعطل وتصعب إمكانية هزيمتنا من الخارج في صراع عبر الحدود، لزم العدو دوماً الحاجة لتفتيت البنيان من الداخل.


وفي هذا السياق نهج الغرب، فكانت وسيلته لحفظ أسوار فيينا مرتين بابتعاث النزاع المذهبي السني الحنفي-الشيعي، فاعتصمت عاصمة آل "هابسبورغ" بالنزاع المستوقد على شكل صراع عثماني-صفوي، المملكتين المتصارعتين على السيطرة والهيمنة في بلادنا يومها.


أمّا الأخطر فكان خلال الحروب الصليبية، فلقد واجهت الحملات الأولى إشكالية الوصول إلى فلسطين. فخوفاً من الدولة الفاطمية المتداعية المسيطرة على البحر المتوسط بأسطولها القوي، وخوفاً من الوقوع فريسة القوات البرية المرهوبة الجانب للدولة السلجوقية المفككة بين الأتابكة، لجاء الصليبييون إلى الجولات الدبلوماسية على طريقة "كونداليسا رايس" لإثارة الشقاق بين أبناء الأمة الواحدة، بطلب الإذن من السلاجقة للعبور براً عبر الساحل السوري لتأديب الفاطميين في مصر بذريعة إيذائهم وتعرضهم للحجاج الأوروبيين، أعداء السلاجقة سياسياً ومذهبياً، وبطلب الإذن من الفاطميين بحراً لتعبر خلاله سفن فلورنسا والبنادقة إلى فلسطين لتأديب السلاجقة أعداء الفاطميين للذريعة نفسها.


لقد أعمت أعين كلا الطرفين الأحقاد المدفونة في العنوان المذهبي لكلتا الدولتين المتنازعتين. فسقطتا، وقامت على أشلائهما مملكة أورشليم الصليبية، وضاعت فلسطين وخسرنا بيت المقدس والساحل السوري. ورحنا في نزاع استطال مئتي سنة، استهلك جهادات جلّى وعذابات قصوى في سبيل استعادة ما فقدنا، وكنا بغنى عن الولوج فيها بقليل من الحكمة والحنكة.


ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض...
في تلك الظروف التي سيطرت فيها حمى العصبية المذهبية المنتنة، تفتحت أنظار أحد أهم القادة الإستراتيجيين، بعد ابن الوليد، الأمير نور الدين زنكي الشهيد ابن عماد الدين الذي كان أول من فطن للخطر الصليبي وأول من بادر لقتاله دون هوادة. فقد رأى نور الدين ضرورة وقف التقاتل مع الفاطميين الشيعة المسلمين وتوحيد الجهود لوقف التمدد الصليبي الخارجي الداهم في بلاد المسلمين. بل إنه ذهب أبعد من ذالك إلى إرسال وزيره أسد الدين شركوه على رأس جيش من الشاميين السنة لدعم الدولة الفاطميية الشيعية السبعية المترنحة في مصر تحت ضربات العدو التوسعي الإستيطاني الغاصب.


فالخشية كل الخشية من ان يستفيد عدوّ خارجي من صراع داخلي. والفضيحة بين يدي الله أن نستمر في قتال داخلي لسيلتهمنا العدو بعدها جميعاً.


هذه النظرة العميقة المتميزة هي التي أرست القواعد الأساسية لإستراتيجية الإطباق على مملكة أورشليم الصليبية بفكيي الكماشة، جند بلاد الشام وجند أرض الكنانة مصر، التي طبقها صلاح الدين لاستعادة بيت المقدس والتي لزم إنجازها قرنين من الزمن لطرد آخر الصليبيين من بر الشام.


وها إننا اليوم أمام ظروف لا تقل خطورة عن تلك الأحداث الغابرة. وها هو الغرب، إنكلترا وأمريكا، يرعى الغزوة الهمجية اليهودية الصهيونية على فلسطين من جديد.


وإن كان الصهاينة من يهود ومسيحيين متصهينين قد حسنوا أداء مملكة أورشليم التوراتية الجديدة، وحصنوها بإسقاط مصر عبر تطويقها باتفاقات كمب ديفيد، وهو ما لم يحدث في التاريخ ليقظة نور الدين، فإننا لم نصل بعد إلى تحديث إستراتيجية المواجهة الجديدة. وها نحن نكرر الماضي بصراعاته العصبية المذهبية ثانية.


و"المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين".

 

الشيخ إبراهيم الصالح
طرابلس لبنان