مسار وآفاق الصعود الروسي في ترتيب النظام العالمي
وانعكاسه على القضايا العربية والإسلامية؟
(الحلقة الأولى)

د. جوزف عبدالله
 

هل التأمت جراح الدب الروسي وعاد ليلعب دوره في غابة العلاقات الدولية؟ وما مدى تأثيره في زعزعة الأحادية الأميركية في التحكم بالعلاقات الدولية؟ وهل عادت السياسة الخارجية الروسية إلى نهج السياسة السوفييتية السابقة على انهيار الاتحاد السوفييتي، ومنها العودة إلى سياسة مناطق النفوذ، والتأثير الجيوسياسي المتعادل مع الغرب؟
وما هو مدى تأثير ذلك، فيما لو حصل، على السياسات الدولية المعنية بالأوضاع العربية والإسلامية؟ وهل من إمكانية لدى الشعوب العربية والإسلامية ومقاوماتها المتنوعة للاستفادة من الصعود الروسي على مسرح العلاقات الدولية؟

مع بدء إستراتيجية الاندراج الروسي في الغرب الأوروبي- الأطلسي من العام 1985 حتى 1991 بقيادة غورباتشوف (تحت ستار البيريسترويكا، إعادة البناء)، واعتماد هذه الإستراتيجية بكل وضوحها بين عامي 1991 و1999 في ظل رئاسة بوريس يلتسين، انهار الاتحاد السوفييتي بعد أن سقط جدار برلين في 9 تشرين الثاني 1989. وجاء كل ذلك متوجاً بظاهرة تصاعد متزامن للدين الخارجي ولهروب الرساميل بكثافة إلى الخارج، وبتراجع كبير لموقع روسيا السوفييتية، ومن ثم روسيا الاتحادية، على الصعيد العالمي وعلى صعيد القارة الأوروبية وآسيا خصوصاً.

 

بوتين: تجديد الدور الروسي
ومنذ وصول الرئيس بوتين إلى السلطة في العام 2000، وضعت السياسة الخارجية الروسية هدفها في المزيد من الاندراج في العمليات السياسية والاقتصادية والأمنية العالمية. وذلك على قاعدة إدراج تطورها الداخلي وطموحاتها الدبلوماسية في سياق العولمة. لكن بوتين اعتبر أنه يجب أن تصبح روسيا قوة عظمى حديثة، قوية اقتصادياً، متقدمة تقنياً، متطورة اجتماعياً، ومؤثرة سياسياً؛ وبالتالي أيضاً يجب أن تكون روسيا "متكيفة مع اقتصاد العولمة". ومن ذلك إخضاع السياسة الخارجية للاقتصاد.
وجوهر هذا النهج يكمن في اعتماد سياسة خارجية فاعلة غرضها توفير أفضل الظروف للنمو الاقتصادي وتشجيع نشاط رجال الأعمال الروس، ومن ذلك دخول روسيا في منظمة التجارة العالمية. وأعطت الإدارة الروسية أولية للمصالح الاقتصادية على المصالح السياسية والسياسية- العسكرية. لقد ساد الاعتقاد أن روسيا لن تحتل مكانة مرموقة في العالم ما لم تنتقل بسرعة إلى النمو الاقتصادي.
ومن أجل تبرير استحقاق روسيا لهذه المكانة الدولية المرموقة اعتبرت قضايا الأمن غير قابلة للتجزئة في شروط ما بعد الحرب الباردة، ومن ذلك تعبير روسيا عن رغبتها في المساهمة في مواجهة التحديات الأمنية العالمية، وبالتالي مشاركتها للجماعة الدولية في التصدي للإرهاب وتكاثر أسلحة الدمار الشامل والصراعات الإقليمية وتجارة المخدرات والجريمة المنظمة العالمية. وإعلان وقوفها إلى جانب الأمم المتحضرة في هذا المجال، وعلى قاعدة "الحوار" و"التعاون".
بين 2000-2002 لم تعمد روسيا إلى ذكر توازن القوى ولا حماية مناطق النفوذ... ولكن في العام 2003 بدأ تغير ما يتبلور تدريجياً.
لقد أعلن الاتحاد الروسي انفتاحه على التعاون الأمني مع الغرب في كل ميادين التهديدات الجديدة، حتى داخل مجال التأثير السوفييتي السابق. وغداة الحادي عشر من أيلول 2001 برهنت عن مصداقيتها بعدم اعتراضها على نشر قوات عسكرية غربية في العديد من جمهوريات آسيا الوسطى لتسهيل عملية التحالف العالمي المعادي للإرهاب في أفغانستان.
ولكن موسكو انتقلت إلى اعتماد سياسة دفاعية متطورة مع التوسع الغربي في مجال نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق، من قبل الولايات المتحدة وحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي. لقد فسرت روسيا مبادرات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كعمليات تطويق ومحاصرة لها لإضعافها إقليمياً وعالمياً. فعادت روسيا إلى المحافظة على مناطق نفوذها، ما دفعها إلى اللجوء إلى العامل العسكري كأداة رئيسية للمحافظة على النفوذ. وانتقلت روسيا إلى اتهام الغرب باستخدامه "الحرب على الإرهاب" للقضاء على "مصالحها الحيوية" و"لأغراض جيوسياسية".
استخدام العامل الاقتصادي: أزمة الغاز مع أوكرانيا، ما يعني الضغط على جيرانها وعلى أوروبا معاً.
لدى وصول بوتين إلى السلطة في العام 2000 وضع هدفاً له الأولوية هو جعل روسيا شريكاً لا غنى عنه للغرب في التوازنات الدولية. انطلق بوتين في رسم سياسته الخارجية من اعتباره أن لروسيا خصوصية في كونها قوة عالمية تستند تاريخياً إلى اتساع رقعتها الجغرافية كجسر بين القارة الأوروبية وقارة آسيا. ولهذا فإن التمدد الغربي في مناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق يثير حساسية مفرطة عند النخبة الروسية، ويُعتبر بمثابة تدخل خارجي. فالسيطرة على هذه المناطق تهدد هوية روسيا الأوروآسيوية، وتقلص من دورها الإقليمي والعالمي. فلو عجزت روسيا عن تأكيد دورها في مجال الاتحاد السوفييتي السابق، لعجزت أيضاً عن تأكيد نفسها كقوة عالمية عظمى.
ولذا تنظر روسيا بريبة وهي متيقنة من أن الغرب لا يكتفي بروسيا ضعيفة، بل هو يسعى إلى المزيد من تطويقها وعزلها. هذا بينما هي تطمح إلى الاعتراف بها كقوة عظمى من قبل الغرب بالذات. لقد سعت روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي إلى الاندراج في الغرب، وإلى هذا الاعتراف بها من قبل الغرب بأنها جزء من هذا الغرب، لأن هذا الاعتراف بحد ذاته يعتبر علامة خارجية على أنها قوة عظمى. ولعل هذا ما يُفسر اغتباط السلطات الروسية وتعظيمها لأهمية قبول روسيا كعضو كامل العضوية داخل جماعة الثمانية الكبار في العام 2002 وأن احتلال روسيا لرئاسة هذه الجماعة يعيد لها موقعها في التوافق بين القوى الكبرى.
إن عدم حصول روسيا على هذا الاعتراف بمكانتها، ومحاولات تطويقها دفعها إلى التقرب من الصين ومن بعض دول آسيا الوسطى دفاعاً عن نظام دولي أكثر عدلاً، ومن هنا أهمية مؤتمر شنغهاي.
تبعاً لما يراه وزير الخارجية سرغي لافروف Sergeï Lavrov، في مقابلة له مع وول ستريت جورنال Wall Street Journal في 31-3-2004، فإن سياسة الاتحاد الروسي في ولاية فلاديمير بوتين الأولى، 2000-2004، اتسمت "بسياسة خارجية براغماتية خاضعة أساسا لمصالح النمو الداخلي، وموجهة نحو حوار وتعاون واسع مع بقية العالم". اعتبر بوتين أن هذه الأهداف محكمة الصلة بمشروعه العام في ترسيخ الدولة الروسية، ولذلك عمل بتصميم حاسم على إعادة مصداقية بلاده على الساحة الدولية وتعزيز مشاركتها في الشؤون العالمية. وكان ذلك يفترض تمكين روسيا بسرعة من بلوغ قدرة على التأثير بطريقة أكثر فعالية على الصعيد الدولي.
إن مفهوم الأمن القومي والعقيدة العسكرية ومفهوم السياسة الخارجية، شكلت الوثائق الأساسية للسياسة الخارجية وسياسة الأمن الروسية التي تم اعتمادها في النصف الأول من العام 2000. وكل هذه الوثائق تشير إلى رغبة روسيا وإرادتها بالاعتراف العالمي بحقها في استعادة المواقع التي فقدتها منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.

 

 

المحاور الأساسية في سياسة الولاية الأولى لبوتين
ثمة أولويتان في السياسة الخارجية برزتا في الولاية الأولى لبوتين: شراكة مع التحالف الأورو- أطلسي، وتأكيد المواقع الروسية في مجال الاتحاد السوفييتي السابق. وهاتان الأولويتان تهدفان إلى فرض روسيا كقوة عظمى على المسرح العالمي.
لقد شهد هذان المحوران في زمن الرئيس بوريس يلتسين انهياراً كبيراً. فتجاوزت أزمة كوسوفو كل توترات التسعينيات بين موسكو وشركائها الغربيين حول مصير حلف الأطلسي والمشاريع الأميركية في سياسات الدفاع الصاروخي، وكذلك الدور الذي لعبه الغرب في الأزمة الاقتصادية الروسية. وعندما تسلم بوتين السلطة تم تجميد العلاقات مع حلف الأطلسي عقب العملية العسكرية لهذا الحلف في البلقان، ودخلت العلاقات بين موسكو وواشنطن في أزمة، وحصل تباعد عن أهم الدول الأوروبية.
ساهم في هذا التحول الروسي ما بدأت تشهده موسكو في الدول الناشئة في مجال الاتحاد السوفييتي السابق من سياسات داخل بعض دول "رابطة الدول المستقلة". وأبرز مثال على ذلك دستور 1997 لدول غوام GUAM (جيورجيا Géorgie، أوكرانيا Ukraine، أذربيجان Azerbaïdjan، مولدافيا Moldova) التي مثلت أكثر الدول رغبة بالابتعاد سياسياً ودستورياً عن موسكو. وفي العام 1999 التحقت أوزبكستان الدولة- الثقل في آسيا الوسطى بدول غوام. وفي نفس العام، قررت تبليسي وطشقند وباكو التخلي عن التزاماتها في اتفاقية الأمن الجماعي في "رابطة الدول المستقلة". وفي نفس الوقت، لاحظت موسكو، بمناسبة قمة الذكرى الخمسين لتأسيس حلف الأطلسي في واشنطن، في نيسان 1999، عجزها عن الحصول على تأييد جميع بلدان "رابطة الدول المستقلة" لمواقفها من أزمة كوسوفو.
بدأ بوتين نشاطه الدبلوماسي، كرئيس للاتحاد الروسي بزيارة إلى لندن في نيسان 2000، حيث سرعان ما كشف عن رغبة بتوثيق العلاقات التي كانت متوترة مع الغرب (الولايات المتحدة، حلف الأطلسي، الاتحاد الأوروبي). لقد انطلق من ملاحظة أن روسيا القوية يجب أن يكون اقتصادها قوياً لتتمكن من فرض نفسها على المسرح العالمي، وذلك استناداً إلى تصور السياسة الخارجية الذي تم اعتماده في حزيران 2000 والذي كان يقضي باعتبار الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية شركاء حتميين. فواشنطن ما تزال القوة الأساسية في مجمل المنظمات المالية والتجارية العالمية، أما الاتحاد الأوروبي فهو الشريك التجاري الأول لروسيا. وبالتالي فالطرفان أساسيان في سعي موسكو نحو الدخول في منظمة التجارة العالمية. إن حاجة روسيا للاستثمارات وللتكنولوجيا الأجنبية المتعلقة بالطموح لتجديد الصناعة الروسية العاجزة عن المنافسة دفعت أيضاً في اتجاه إرادة بوتين لإعادة بناء العلاقات مع الدول الأوروبية الأطلسية.
وهكذا فمنذ شباط 2000، عندما لم يكن بوتين قد تسلم مسؤولياته الرسمية بعد، استأنفت العلاقات مع الحلف الأطلسي، على اثر زيارة الأمين العام للحلف آنذاك لورد روبرستون لموسكو، حيث تم الشروع بعملية تقارب سهلها تليين المواقف من قبل الكرملين تجاه توسيع حلف الأطلسي، بما في ذلك تجاوز الخطوط الحمر (انضمام دول البلطيق إلى الأطلسي) التي وضعها وزير الخارجية الروسي بريماكوف من العام 1996 حتى أيلول 1998.
لقد طورت موسكو مواقفها تجاه واشنطن بطريقة ملحوظة: تخفيف اللهجة بشأن التعددية القطبية في اللغة الدبلوماسية، الاعتراف بعدم واقعية التعادل العسكري الإستراتيجي، التخلي عن المعارضة المستمرة للسياسة الأميركية... ثم تطورت الأمور إلى مناخ هادئ في العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة، لاسيما بعد اللقاء بين بوتين وبوش في حزيران 2001. سمحت هذه البراغماتية الجديدة بفتح آفاق في تطوير الشراكة مع دول الاتحاد الأوروبي، فيما يتجاوز مجرد العلاقات الاقتصادية.
وأبدى الكرملين بالتوازي مع ذلك دينامية ملحوظة في الرغبة بتطوير مصالح روسيا داخل بلدان المعسكر الاشتراكي السابق. وترسخت قناعة بأن روسيا لن تكون قوة عظمى إن لم تصبح على نفوذ مهيمن في مجال الهيمنة السابق للاتحاد السوفييتي، وان تحصل على اعتراف عالمي بذلك. ولقد تم لاحقاً تطوير هذا المبدأ في اجتماع "مجلس السياسة الخارجية والدفاع" في دورته الثانية عشرة. وتم الاعتراف بفشل السياسة المعتمدة إزاء هذه الدول لجهة العجز عن جعلها أداة للنفوذ الروسي.
ففي خطابه في المؤتمر 37 في ميونخ حول السياسة الأمنية في الرابع من شباط 2001 أشار وزير الدفاع الروسي سيرغي لافروف، كما في العام 2000، إلى أنه من المستحيل في المستقبل القريب أن تتطور "رابطة الدول المستقلة" نحو وحدة فعلية. والحكومة الروسية شرعت في عملية تقويم لسياستها داخل الرابطة. وعملت عملية التقويم على حسم الأمر بين خيارين: الاستمرار في اعتبار منطقة نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق كقيمة مطلقة، لتبرير كل الكلفة والتنازلات تجاه الشركاء (في الرابطة)، أو اعتماد خط أكثر عقلانية وبراغماتية. وإذا كانت الوحدة هدفاً من المطلوب السعي لتحقيقه، فذلك يعني أن العلاقات الثنائية ليست هدفاً بحد ذاتها. وختم لافروف بقوله أن روسيا تنوي تطوير "التعاون المتقدم مع الشركاء المستعدين للأمر".
ومنذ ذلك الحين ركزت موسكو على سياسة العلاقات الثنائية مع كل واحدة من دول "رابطة الدول المستقلة". وفي الواقع ركزت موسكو بنجاح على تطوير سياسة هجومية في الدفاع عن مصالحها في القطاعات الإستراتيجية لاقتصاد الكثير من أعضاء رابطة الدول المستقلة (الطاقة، النقل، الصناعة العسكرية)، حيث من المفترض أن يوفر ذلك لروسيا تأثيراً عميقاً ومستداماً داخل هذه الدول.
إن فلاديمير بوتين المهندس الأساسي لتجديد الأوضاع الروسية على الساحة الدولية في السنوات الأربع الماضية قد أعيد انتخابه في آذار 2004.

 

 

تناقضات السياسة الخارجية الروسية في الولاية الأولى لبوتين
"إن خطتنا الهادفة إلى تطوير عمليات التكامل والتعاون المتعدد الأبعاد في الاتحاد السوفييتي السابق تساهم في حفظ استقرار هذه المنطقة، وهذا ما يشكل مصلحة موضوعية لكل الجماعة الدولية. أما تحويل رابطة الدول المستقلة إلى مجال صراع على "مناطق النفوذ" فهو يشكل مفارقة تاريخية لا تفسير لها"

سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، 31-3-2004، وول ستريت جورنال

منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وروسيا تستند في جهودها للبرهنة على منفعتها الإستراتيجية بنظر شركائها في الجماعة الأوروبية الأطلسية، إلى تبيان قيمة مساهماتها الممكنة في الأمن العالمي بمواجهة التهديدات الشاملة. ولقد وجد الكرملين في هجمات 11 أيلول 2001 فرصة لا سابق لها ليقنع البلدان الغربية بما تمتاز به روسيا بحكم موقعها الجغرافي والجيوسياسي البالغ الحساسية بالنظر إلى الرهانات الأمنية التي كشفتها هذه الهجمات (الإرهاب، التطرف السياسي والديني، الجريمة المنظمة، مخاطر النزاعات الإقليمية...). إن موسكو، وهي تطرح نفسها كشريك "ضروري" لاختراق وتفكيك شبكات الجريمة والإرهاب العالمية العاملة على حدودها، تقدم خبرتها ومصادر معلوماتها التي مكنتها ظروفها الجغرافية من تطويرها بخصوص مناطق تهم الجماعة الدولية مباشرة، من أفغانستان إلى العديد من دول الشرق الأوسط وآسيا، مروراً بمجال الاتحاد السوفييتي السابق.
وبالفعل استحوذت روسيا على الاهتمام الأمني من جانب الولايات المتحدة وحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وكان الظن الروسي، على ضوء الحوار المتطور مع الغرب منذ 11 أيلول 2001، أن عرض التعاون والشراكة معه في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق سيلقى الترحيب بروسيا بوصفها شريكاً استراتيجياً أساسيا. كان الهم الروسي يكمن في تركيز الصلات مع حلفاء الحقبة السوفييتية لرفع سقف حضورها كشريك على الساحة الدولية. هذا ما كان يبوح به سلوكها خصوصاً على ضوء تطور تعاونها مع الصين في منظمة شنغهاي التي توجهت أنشطتها بازدياد نحو مواجهة الإرهاب والتطرف السياسي والديني وأمن الحدود ومكافحة تهريب المخدرات وغيرها. وفي هذا السياق جاء إعطاء الأولوية لاستقرار آسيا الوسطى، ومنه التبرير الرسمي الروسي لعدم إعاقة نشر قوات غربية في بعض جمهوريات آسيا الوسطى غداة أحداث 11 أيلول 2001، من أجل عملية التحالف بوجه الإرهاب العالمي في أفغانستان.
بيد أن هذا الاصطفاف غير المسبوق نسبياً بالقياس إلى رد الفعل السلبي تقليدياً عند النخب الروسية إزاء كل تدخل في بلدان النفوذ الروسي السابق، كان غرضه أيضا تعزيز مكتسبات المحورين الأساسيين في سياسة روسيا الخارجية: ترسيخ شراكاتها الإستراتيجية الأورو- أطلسية، وتعزيز دورها المركزي داخل "رابطة الدول المستقلة". وهكذا إذا كان التعاون الأمني مع البلدان الغربية في مجال الاتحاد السوفييتي السابق من شأنه أن يسمح لموسكو بتعزيز قناعة البلدان الغربية بدور روسيا كحليف في مواجهة التحديات الجديدة، لكان من المفترض أيضاً أن يؤدي بحلف الأطلسي وبالاتحاد الأوروبي وبالولايات المتحدة إلى الاعتراف بأولية الدور الروسي في هذا المجال.
والحال، لاحظت النخب الروسية أن هذه المسالة الأخيرة كانت بعيدة عن التحقيق. فلم يكن يمر مؤتمر دولي يتواجه فيه أصحاب القرار والخبراء الروس والغربيون إلا ويعلن فيه ممثلو روسيا امتعاضهم لما يعتبرونه غياب شفافية واشنطن حول مدة وطبيعة وجودها العسكري في آسيا الوسطى، أو لا يتساءلون حول نوايا الولايات المتحدة في القوقاز الجنوبي، خصوصاً في جورجيا، وحتى في أذربيجان. كما أن ما كانت تفصح عنه بعض بلدان "رابطة الدول المستقلة" من رغبة بالمزيد من التعاون مع حلف الأطلسي والانضمام إليه جاء ليرفع اهتمام الدبلوماسيين الروس والقادة العسكريين.
وعندما قام حلف الأطلسي بتوسعه الثاني نحو الشرق ليضم دول البلطيق الثلاث، ارتفع توتر القسم الكبير من النخب الروسية للتنديد بأن واشنطن هي التي تقف خلف مبادرات حلف الأطلسي وخلف ما تعبر عنه بعض بلدان "رابطة الدول المستقلة" الطامحة بالالتحاق بهذا الحلف. إن بعض الخبراء الغربيين أبدوا انزعاجهم من هذه التطورات على اعتبارها مسيئة لتعميق الاتجاهات غير المسبوقة في السياسة الخارجية في نطاق الولاية الأولى للرئيس بوتين. هذه هي على سبيل المثال حال ريتشارد ساكوا Richard Sakwa، مدير قسم السياسة والعلاقات الدولية والاختصاصي في الشؤون الروسية في جامعة كنت Kent. فمن المؤسف، برأيه، "أن تبدو الولايات المتحدة معتمدة على منطق الجيوسياسة في الوقت نفسه الذي تسعى فيه روسيا إلى التخلي عن هذا المنطق. وبينما أصبحت روسيا نصيرة التعددية في الجيوسياسة فقد لاحظ الكثيرون أن الولايات المتحدة ترفع من سقف طموحاتها في سياسة الهيمنة.
ولهذا لم يكن مستغرباً رد الفعل الروسي على الخطة الأوروبية المقترحة لحل النزاع في ترانسنيستريا Transnistrie في مولدافيا. لقد ساهم رد الفعل المعارض بشدة في تدهور ملحوظ في مناخ العلاقات بين موسكو وبروكسل. وبنفس الطريقة اعترض صراحة العديد من الرسميين والخبراء الروس على قيام الاتحاد الأوروبي بلعب دور سياسي وأمني في القوقاز الجنوبي. وفي نفس السياق نفهم المواقف الروسية الناقدة بحدة لسياسة "الجوار الجديد" nouveau voisinage التي طورها وقدمها الاتحاد الأوروبي مؤخراً، وهي سياسة تنطوي على التدخل في الجمهوريات الغربية للاتحاد السوفييتي السابق وجمهوريات قوقاز الجنوب. واليوم، يضيف الاتحاد الأوروبي الطريقة التي تدير بها روسيا علاقتها مع "رابطة الدول المستقلة" إلى لائحة الملفات الإشكالية لجهة احترام روسيا "للقيم المشتركة" التي يجب أن تقوم عليها الشراكة الإستراتيجية الأوربية الروسية.
ومن الملاحظ منذ عدة سنوات ظهور المقالات الصحفية والتصريحات الرسمية الروسية التي تذكر "بالحدود المطلوب فرضها على تنامي الحضور الغربي في المناطق المجاورة لروسيا. فالمدير السابق لجهاز المخابرات الخارجية، فياتسلاف تروبنيكوف Viatcheslav Troubnikov، يقول في مقابلة صحفية في 12 أيار 2004، وهو يلاحظ تنامي حضور الولايات المتحدة في مناطق الاتحاد السوفييتي السابق، أن وجود القوى الخارجية داخل بلدان رابطة الدول المستقلة، "دائرة المصالح الحيوية" "ومناطق "الأولوية" لروسيا، لا يرضي موسكو، سواء كان هذا الوجود صينياً أو أميركياً.
ويضيف تروبنيكوف في نفس المقابلة أن الولايات المتحدة لا تحترم وعودها في أن وجودها مؤقت في آسيا الوسطى. يعبر هذا الخطاب عن وعي موسكو لضعف تقدمها على المسرح الدولي في السنوات الأخيرة لولاية بوتين الأولى، على الرغم من عودة روسيا للبروز كلاعب كما يصرح سيرغي لافروف الذي يرى أن روسيا، في النهاية، استفادت من جهودها على محوري سياستها الخارجية، بتضافر ظروف ملائمة للغاية.
ففيما خص مجال الاتحاد السوفييتي السابق، استفادت روسيا من الأزمة السياسية في أوكرانيا ومن "ملل" الغرب من بطء وتراجع بناء الديمقراطية في كييف وتطورها باتجاه اقتصاد السوق. وبدت روسيا، بنظر بلدان آسيا الوسطى كسد منيع بوجه الحركات الأصولية وتصاعد الأعمال الإرهابية في المنطقة، خصوصاً في أوزبكستان وكيرغيزستان منذ نهاية التسعينيات. واستفادت روسيا من احتلال موقع الرئاسة في مولدافيا، في آذار 2001، من قبل رئيس مؤيد لعلاقات وثيقة مع موسكو. لقد أدت كل هذه التغيرات إلى إضعاف ملموس لجماعة غوام GUAM.
بيد أن الكرملين لاحظ توجه "رابطة الدول المستقلة" مجدداً نحو الابتعاد عن موسكو بفعل ازدياد الاهتمام الغربي بالمنطقة. وهكذا أعادت أوكرانيا تأكيد رغبتها الراسخة بالشراكة المتينة قدر الإمكان مع حلف الأطلسي. كما أن أوزبكستان أعلنت اعتمادها على الدور الأميركي في المنطقة لموازنة حالات التعاون مع روسيا. حتى أن طاجاكستان، الحليفة من زمن طويل مع موسكو، كشفت عن رغبة صريحة في تخفيف اعتمادها الأمني على روسيا.
إن وضوح اهتمام الولايات المتحدة وحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي في مجال الاتحاد السوفييتي السابق يثير ريبة الكرملين الذي يرى هشاشة "الشراكة الإستراتيجية الجديدة" مع هذا الثالوث، وذلك على الرغم من التصريحات الروسية العلنية حول أهمية العلاقات المتطورة معه. إن موسكو تدرك أن هذه الشراكة لم يكن لها أن تتطور لهذه الدرجة لولا أحداث 11 أيلول 2001. وفي الحقيقة لم تكن القوى الأورو_ أطلسية لتستجيب إلى دعوات التقارب الروسية بدفع من بوتين، إلاّ بعد هذه الأحداث: قبول روسيا بعضوية كاملة في الثمانية الكبار، في حزيران 2002؛ إقامة مجلس جديد لحلف الأطلسي، لروسيا فيه نظرياً صوت معادل لصوت كل من باقي دول الحلف؛ الاعتراف بوجود العديد من مجالات الاهتمام المشترك في أيار 2002؛ اعتراف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأن روسيا انتقلت إلى اقتصاد السوق في ربيع 2002...
ولكن منذ ذلك الحين بدأ التصدع يتصاعد في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي حول مجمل المسائل المطروحة في إطار الشراكة الروسية الأوروبية. كما بدأ التوتر بالظهور في العلاقات الروسية مع واشنطن، وارتبط تراجع هذه العلاقات، جزئياً، بالسياسة الأميركية في العراق.
في هذا المناخ المعقد شكلت مسألة قدرة روسيا والبلدان الغربية على التفاعل المنسجم في دورها في مجال الاتحاد السوفييتي السابق، بمثابة اختبار صعب للغاية بالنسبة لاستمرار السياسة الخارجية التي طرحها وطبقها بوتين في ولايته الأولى. أما الآن فمن الضروري ملاحظة أن ردود فعل الكرملين في ظل بوتين اتخذ منحى جديداً لا يختلف كثيراً عن المواقف التي كان يدافع عنها بريماكوف في الماضي: "نعرف جميعنا في جهاز المخابرات الخارجية أن مفهوم العدو لن يختفي مع زوال الحرب الباردة".
إن العديد من قادة البلدان الغربية يتصرف بحيث لا يسمح لروسيا بدور خاص في استقرار الوضع في الجمهوريات السوفييتية السابقة، ولقطع الطريق على اتجاهات التقارب مع الاتحاد الروسي. وهذا الأمر يظهر على لسان الكثير من النخبة السياسية والعسكرية الروسية. ويقابل هذا التقدير المعلن الضغط الذي تمارسه موسكو على جيرانها المتمردين، خصوصاً أوكرانيا وجورجيا.
ولقد اتخذت موسكو الكثير من المبادرات التي تم اعتبارها ترجمة لإرادة روسية صارمة في مواجهة تأثير الولايات المتحدة (إقامة قاعدة جوية في كانت في كيرغيزستان، على مسافة 30 كلم تقريباً من القاعدة الأميركية بيتر غانسي Peter Ganci) أو تأثير الاتحاد الأوروبي (توقيع اتفاقية لتشكيل فضاء اقتصادي مشترك بين روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان، في العام 2003).
تتقاطع هذه المبادرات مع خيارات بوتين في استخدام عقلاني لموارد السياسة الخارجية؛ ما يعبر عن عودة السياسة الروسية الخارجية إلى حنين للمرحلة السابقة.

 


آفاق الولاية الثانية لبوتين
تميزت الولاية الأولى لبوتين في تصادم محورا السياسة الخارجية الأساسيان. وجاءت أحداث 11 أيلول 2001 بآثار متناقضة في تثبيت المصالح الروسية. صحيح أنها سرعت الاتجاهات الإيجابية في العلاقات الروسية الغربية، تلك الاتجاهات التي بدأت ببرامج إعادة الهيكلة ومبادرات الكرملين منذ رحيل بوريس يلتسين. وشهدت هذه العلاقات بين عامي 2000 و2004 تطوراً ملحوظاً. لقد جعلت أحداث 11 أيلول من روسيا شريكاً أمنياً كبير الفائدة، ما سمح لرئيس الدولة من تبرير سياسة التعاون مع المحور الأورو- أطلسي بحجج لها مصداقيتها بنظر النخبة الروسية، لاسيما مع حصول قناعة بأن تطور روسيا الاقتصادي ليس أمامه من خيار غير التعاون المرن في علاقاته مع البلدان الصناعية المتقدمة. وفي نفس الآن، فإن أحداث 11 أيلول أعطت لمجال الاتحاد السوفييتي السابق موقعاً له الأولوية في اهتمامات المحور الأورو- الأطلسي الأمنية، ما دفع روسيا إلى العودة إلى بعض مواقفها السابقة برفض أي تدخل للقوى الخارجية في ما تعتبره جوارها المباشر.
وعلى أي حال، لم يكن من شأن الولاية الثانية لبوتين أن تغير من خط الشراكة مع البلدان الغربية، وإن يكن هذا الخط بدأ يلحظ نوعاً من عدم الخضوع الروسي لم يبلغ حد التغلب على روح الشراكة والتعاون. فالعوامل التي دفعت موسكو إلى التقارب مع الغرب لم تختفِ من اهتمامات القادة الروس. وضرورة التحديث الاقتصادي والمزيد من الاندراج في الاقتصاد العالمي بقيت لها الأولوية، وفق ما ورد في الخطاب السنوي الذي وجهه بوتين إلى مجلس النواب في 16 نيسان 2004. لقد بقي الرئيس مقتنعاً بأن الحوار النشط مع الغرب أفضل لبروز الدور الروسي العالمي من سياسة المواجهة. وفي هذا السياق صار ممكناً بنظر بوتين العمل على تغليب العلاقات الخارجية الروسية مع الاتحاد الأوروبي، بدل الموازنة في علاقات روسيا مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أي الصيغة التي تم تطويرها في 2000- 2001.
ولكن أحداث 11 أيلول جعلت السلطات الروسية تعتبر مكافحة الإرهاب فرصة لنشوء شراكة ثنائية مميزة مع الولايات المتحدة، والعودة إلى سياسة خارجية مترابطة معها. وهذا ما سبب فتوراً في الشراكة الروسية الأوروبية في الوقت الذي برزت فيه ضرورة مواجهة تحديات توسع الاتحاد الأوروبي، وما كان يفترض اهتماماً أكبر من جانب روسيا. هذا بينما كان الاتحاد الأوروبي يصر على التعاون مع روسيا في جوارها المباشر، وهو يكشف بصرامة عن مقاصده في التوسع، ما كان يستلزم من موسكو المزيد من الانفتاح.
إن المحافظة على الشراكة مع الجماعة الأورو- أطلسية وترسيخها يعني بنظر موسكو الحصول على إمكانية أكبر لتركيز الجهود في مجال الاتحاد السوفييتي السابق الذي أعطاه بوتين مكانة مركزية في السياسة الخارجية في اجتماع لمجلس الأمن مكرس للسياسة الروسية في "رابطة الدول المستقلة". ففي هذه المناسبة، في 19 تموز 2004 قال بوتين، في معرض إشارته إلى المخاطر الراهنة: نصطدم في مجال "رابطة الدول المستقلة" بمنافسة سياسية واقتصادية متنامية من جانب بلدان أخرى، وعلى روسيا من أجل تعزيز مواقفها أن تقترح وتشرع ببدائل فعالة وجذابة في حل المسائل المشتركة مع جميع بلدان الرابطة. وكان قد أوضح، قبل أسبوع على ذلك وأمام سفراء ودبلوماسيي الاتحاد الروسي: لا يوجد فراغ في العلاقات الدولية. فغياب سياسة روسية فعالة في رابطة الدول المستقلة، أو مجرد جمود هذه السياسة، يؤدي حتماً قيام دول أخرى باستغلال هذا الغياب أو الجمود.
إن تخفيف التوتر مع الغرب يشكل ضرورة تسعى روسيا إلى تلبيتها على المدى الطويل نسبياً، وذلك لأن ثمة ضرورة بأن تبذل المزيد من الطاقات والموارد الدبلوماسية لصالح سياسة آسيوية، من أجل أن تتمكن، مع الصين وغيرها من الشركاء الآسيويين، من بلوغ الاستقرار في آسيا الوسطى. وذلك خصوصاً إذا شاءت روسيا عقد شراكات بغية استغلال موارد الطاقة الموجودة في قسمها الآسيوي وتطوير أقاليمها في أقصى الشرق وسيبيريا.
وهكذا عندما يعلن الرسميون الروس حاجة موسكو إلى تطوير سياسة آسيوية، داخلية وخارجية، فعلينا أن نفهم من ذلك الرغبة بنشوء تعددية قطبية تكون وليدة عدم رضا روسيا عن نتائج شراكتها مع الغرب. كما يمكن أن يكون ذلك تعبيراً عن وعي روسيا لمخاطر إهمال مصالحها الآسيوية التي تحدد هي أيضاً آفاق نجاحها في تحقيق طموحها بالعودة إلى موقعها على المسرح الدولي.

 


التعاون بين الاتحاد الأوروبي الموسع وجواره الجديد
إن توسع الاتحاد الأوروبي، في أيار 2004، غير الحدود الخارجية لأوروبا، وجعلها على تماس مع جوار جديد: روسيا، أوكرانيا، بيلاروسيا، مولدافيا، دول البلقان الغربية؛ كما جعل مجمل بلدان المتوسط على أبوابها. أن عدداً من السكان يقارب 450 مليون نسمة، مع ناتج إجمالي بحوالي 10 آلاف مليار€ يعطي لهذا الاتحاد المكون من 25 دولة (27 في 2007) وزناً سياسياً واقتصادياً وجغرافياً هائلاً في القارة الأوروبية، ويجعل منه سياقاً جيوسياسياً جديداً.
وعليه سيتسع نطاق التأثير السياسي للاتحاد الأوروبي. إن توسيع الاتحاد سيؤثر على علاقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية خارج الحدود مع المناطق التي كان على علاقات تبادل عادية معها. ومن هذه المناطق خاصة روسيا و"رابطة الدول المستقلة" وبلدان الضفة الجنوبية للمتوسط.
جعل هذا التوسع الاتحاد الأوروبي مدعواً للعب دور هام في تغيير المؤسسات الدستورية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية في منطقة جواره الجديد.

 


الاتحاد الأوروبي وروسيا: آفاق ما بعد قمة موسكو
اعتبر الكثير من المراقبين أن قمة لاهاي في تشرين الثاني 2004 بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بمثابة الذروة في تدهور العلاقات الروسية الأوروبية، ذلك أن الطرفين لم يتوصلا لوضع خريطة الطريق لتنسيق الجهود من أجل تنفيذ قرارات قمة سان بطرسبرغ في أيار 2003 الآيلة إلى ترسيخ الشراكة الإستراتيجية، هذا الهدف المعلن منذ مدة طويلة بين الفريقين. وكان الفشل مدوياً لأن هذه القمة هيمنة عليها الأزمة السياسية الأوكرانية التي وقف منها طرفا الشراكة مواقف متناقضة للغاية. وكان موضوع "الأمن الخارجي" هو الذي طرح المسائل الأكثر خطورة لكونه يحتل أولوية في إدارة المخاطر الأمنية في الجوار المشترك لكل من روسيا والاتحاد الأوروبي.
لقد أكد هذا الأمر الحساسية المفرطة لموسكو، في ظل الثورة البرتقالية، من رؤية الاتحاد الأوروبي وهو يطور سياسة ناشطة في مجال الاتحاد السوفييتي السابق، وهذا ما تبين من موقف روسيا تجاه المقترحات الأوروبية المتعلقة بمعالجة أزمة ترانسنيستريا في مولدافيا، وتجاه سياسة الجوار التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي. لقد انتهى العام 2004 كما بدأ بأزمة في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا: أعلنت روسيا في كانون الثاني 2004 عدم رضاها عن التوسع المباشر للاتحاد الأوروبي في مجال الأعضاء الجدد للاتحاد، ووضعت شروطاً مسبقة، اقتصادية وسياسية، لتطبيق اتفاقية الشراكة والتعاون مع الاتحاد الأوروبي Accord de Partenariat et de Coopération APC.
بيد انه تبين أن هناك إرادة مشتركة بإنقاذ العلاقات الروسية الأوروبية من المزيد من التدهور. فبعد مأزق تشرين الثاني و"الأزمة الأوكرانية" عاود الطرفان العمل، على الرغم من المواجهة حول تطبيق اتفاقية الشراكة والتعاون مع الشركاء الجدد (مجال الاتحاد السوفييتي السابق)، على ملفات صعبة، وتمت الموافقة الأوربية، في القمة الثنائية في أيار 2004، أول قمة بعد توسيع الاتحاد الأوروبي، على دخول روسيا في منظمة التجارة العالمية، كما تم توقيعها على اتفاقية كيوتو في خريف 2004.
وبعد أزمة نهاية العام 2004، بذلت جهود متبادلة لإطلاق الشراكة. واعتبر الكثيرون في اللقاء الذي حصل في باريس في منتصف آذار 2005 بين بوتين وشيراك وشرودر وزاباتيرو تعبيراً عن الإرادة بموازنة تأثير الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي والذين عبروا بوضوح عن المطالبة بسياسة صارمة من قبل الاتحاد تجاه روسيا. وعليه كان من المستبعد أن يغامر الرؤساء الثلاثة (شيراك، شرودر، زاباتيرو) بلعب الورقة الروسية في لحظة التوتر الشديد في العلاقات بين موسكو وبروكسل دونما تنسيق مسبق مع باقي دول الاتحاد الأوروبي. ولعل هدف هذا اللقاء الرباعي اعتراف الاتحاد الأوروبي بحاجته إلى المحافظة على العلاقات مع موسكو، بحيث تكون قنوات التواصل معها مشكلة من بعض دول الاتحاد صاحبة الصلات المستقرة مع روسيا. ومن جهته سعى بوتين لتحصل روسيا في قمة أيار 2005 على حق المشاركة والتعاون مع أوروبا في معالجة أزمات بلدان رابطة الدول المستقلة.

 


رهانات "الجوار المشترك" في صلب العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي
سعي بلدان الاتحاد السوفييتي السابق المنضمة إلى الاتحاد الأوروبي إلى المزيد من الاستقلال عن روسيا وإلى سياسة أوربية صارمة بوجه روسيا.
تصر روسيا على أن كل مبادرة من قبل الاتحاد الأوروبي في بلدان "رابطة الدول المستقلة"، خصوصاً سياسة الجوار، تندرج في مشروع تكامل منافس للمشروع الذي تحاول هي تطويره مع هذه البلدان، وبالتالي يتعارض مع مصالحها.
لقد كان من دواعي ارتياح روسيا الرفض الفرنسي والهولندي لدستور الاتحاد لأنه يعقد انضمام الآخرين باستثناء بلغاريا ورومانيا. وهذا ما يحشر أوكرانيا وجورجيا ومولدافيا أمام خيار العودة إلى روسيا و"رابطة الدول المستقلة". ولكن إن كانت هناك أزمة في أوروبا، بفعل وجود أوروبيي "أوروبا العجوز"، فعلى روسيا ألاّ تغتر بذلك.
فالأوجه الثلاثة لسياسة الاتحاد الأوروبي تجاه الشرق، سياسة الجوار الأوروبية Politique Européenne de Voisinage PEV، الشراكة مع روسيا Accord de Partenariat et de Coopération APC ، إستراتيجية لآسيا الوسطى، مدار المحاولات المستمرة لتعميقها أوروبياً. ومن ذلك أنه في صيف 2006 أعلنت ألمانيا، كرئيسة للاتحاد، عن برنامج لتطوير سياسة الاتحاد الأوروبي هذه. تحاول المستشارة الألمانية أنجيلا مركل الالتفاف على شعار سلفها "روسيا أولاً" بطرحها كأولوية أوروبا الوسطى والشرقية. كما تحاول مراجعة اتفاق التعاون والشراكة مع روسيا الذي سينتهي أجله في تشرين الثاني 2007.
وتقضي هذه الإستراتيجية الألمانية بتوسيع التعاون المؤسساتي، كأن تدخل بلدان "سياسة الجوار الأوروبية" في عملية اتخاذ القرارات داخل الاتحاد الأوروبي. فضلاً عن السعي لتطوير المبادرات الأخرى مثل "مبادرة البحر الأسود" Initiative Mer Noire و"جماعة الخيار الديمقراطي" Communauté de Choix Démocratique.
ومن المعروف أن الحوار الإستراتيجي بين الاتحاد الأوروبي وروسيا تعرض إلى عقبات في العام 2005، على قاعدة مفهوم الجوار الجديد المشترك الذي يضم أوكرانيا ومولدافيا وبيلاروسيا وقوقاز الجنوب (جورجيا، أرمينيا، أذربيجان)، الذين شكلوا خط المواجهة الجديد بين روسيا والاتحاد الأوروبي الموسع.
ــــــــــــــــــــــــ
رابطة الدول المستقلة: بيلاروسيا، أوكرانيا، مولدافيا، أرمينيا، جيورجيا، أذربيجان، كازاخستان، أوزبكستان، تركمانستان، طاجيكستان، كيرغيزستان.
ـــــــــــــــــ
أعضاء في حلف الأطلسي منذ العام 1999: بولونيا، تشيكيا، هنغاريا
أعضاء منذ 19 آذار 2004: إستونيا، ليتونيا، ليتوانيا (ثلاث دول سوفييتية سابقة)، سلوفاكيا، سلوفينيا، رومانيا، بلغاريا.
ـــــــــــــــ
في العام 2004 شهد الاتحاد الأوروبي توسعاً في عضويته نحو أوروبا الشرقية، كما شهد توسعاً جديداً لحلف الأطلسي في نفس المنطقة. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة وجود ترابط توافقي بين التوسعين.
لنأخذ مواقف البلدان المعنية بهذا التوسع المزدوج من أزمة العام 2003، ثم علاقة ذلك بانتمائها الفعلي أو الموعود لكل من حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي:
إن البلدان الثلاثة الأسرع في إعلان تأييدها لسياسة الولايات المتحدة من العراق بتوقيعها رسالة الثمانية في 30 كانون الثاني 2003، كانوا ثلاثتهم أعضاء في حلف الأطلسي منذ العام 1999، نقصد بولونيا وتشيكيا وهنغاريا، وكانوا ثلاثتهم مرشحين للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولقد وقعوا حينذاك الرسالة إلى جانب الأعضاء الخمسة في الاتحاد: إسبانيا، البرتغال، إيطاليا، بريطانيا، الدانمرك.
وفي الخامس من شباط 2003 ظهر تأييد جديد للولايات المتحدة من قبل وزراء خارجية "مجموعة فيلنيوس": بلغاريا، إستونيا، ليتونيا، ليتوانيا، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا. وكان هؤلاء مرشحين لعضوية حلف الأطلسي للعام 2004، يضاف إلى ذلك ألبانيا، كرواتيا، مقدونية، بلدان ثلاثة فيها نشاط واسع للولايات المتحدة.
لنلاحظ أن رومانيا وبلغاريا عضوان في حلف الأطلسي منذ العام 2004، ومرشحان لعضوية الاتحاد الأوروبي في العام 2007.
من المنطقي القول بوجود رابط سبب بنتيجة بين الانتساب الفعلي إلى الحلف الأطلسي وتأييد سياسة الولايات المتحدة في العراق. ولذلك لم تؤيد فرنسا وألمانيا دخول الدول المؤيدة للولايات المتحدة في الأزمة العراقية إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. ولعل موقف أوروبا القديمة يجد تفسيره في موقفها من روسيا هذا الموقف المرفوض من أوروبا الشرقية.

 

د. جوزف عبدالله

 

مسار وآفاق الصعود الروسي في ترتيب النظام العالمي
وانعكاسه على القضايا العربية والإسلامية؟
(الحلقة الأولى)