الأزمة اللبنانية إلى المزيد من التعقيد والخيارات المفتوحة

ميخائيل عوض


بين هبة باردة وهبة ساخنة، وتكرار جلسات الحوار وعرض للوجوه البشوشة والباسمة، وبيانات وجيزة عن النوايا الحسنة على رغم المقولة الشهيرة "الطريق إلى جهنم مبلطة بالنوايا الحسنة"، تبقى الأزمة اللبنانية مفتوحة على الاستمرار على ما هي عليه من تعطيل وشحن، ومفتوحة في كل حين على التصعيد العاصف عندما تدق ساعته التي يبدو أنها تقترب برغم ما يقوله السياسيون، ويتمنون أن تبقى البلاد على حالها إلى ما شاء الله، أو حتى يقرر أحد عبيده المتحمسين لمغامرات وحماقات أخذها إلى حيث يريد هو أو يؤمر به من قصر الاليزيه أو البيت الأبيض الأمريكي.


فقصر الاليزيه، وساكنه الراحل متوجا بالإخفاقات والفضائح، ما زال يحلم بتحقيق هدفه الإطاحة بالرئيس الأسد، وتدمير سورية انطلاقا من منصة لبنان، وعبر أدوات لبنانية بعد أن خانته الفطنة ورفضت إسرائيل الاستجابة لطلبه أثناء عدوان تموز الماضي باجتياح سورية تحت حمايته ورعايته ومسؤوليته، كما كشفت يديعوت أحرنوت أخيراً. وهذا ما يفسر بدوره حماس فرنسا لليونيفيل، ولإحكام الطوق على سورية بذريعة تهريب الأسلحة عبر الحدود وفرض رقابة دولية عبر قرار جديد لمجلس الأمن يعمل عليه الأمين العام الجديد للأمم المتحدة بتحفيز وإصرار منقطع النظير من قبل فريق 14 شباط المذعور خوفا من اتفاق بين بري والحريري بعد أن أيقن قادته الجهابذة بعجز الجيش الأمريكي والإسرائيلي عن غزو سورية وإسقاطها. وهكذا صار الهدف والمهمة تحويل لبنان إلى خاصرة رخوة عبر أخذه إلى حالة فوضى مسلحة تستخدم كقاعدة لتجميع المعارضين السوريين وتنظيم جهود أجهزة الأمن العربية والعالمية والإسرائيلية للتخريب في سورية وعليها. وجاء أول الغيث بكشف شبكه فتح الإسلام وقصة عين علق التي سبق أن حذر منها الكاتب الأمريكي الشهير سيمور هرش وثبت وقائع عن تمويل بعض من أطراف 14 شباط لشبكات تخريب تحت مسمى التيارات الإسلامية المتشددة.

 

الأزمة بين خيارين حديين
ومع اقتراب نفاذ فترة الرهان على حلول وتسويات، ومع هبوب عاصفة الرفض من قبل فريق 14 شباط، وإقدام نوابه على خطوات غير محسوبة ضد المجلس النيابي ونبيه بري، وعجز النائب الحريري عن تمرير التسوية المتفق عليها بين السعودية وإيران...، فإن الأزمة اللبنانية مرشحة لان تعود إلى درجة الصفر فتدخل طورا جديدا، وتصبح أمام خيارين حديين: إما أن تعلن التسوية سريعا فتثمر الحوارات اتفاقا يمدد مرحلة الهدنة والتسويات المؤقتة الترقيدية إلى حين دنو استحقاق الرئاسة، أو حدوث متغيرات درامية في اللوحة الدولية والإقليمية توفر البيئة الحاضنة لتسوية لبنانية مديدة، هذا في احتمال الخيار السلمي السلس لمعالجة الأزمة. أما في حال اندفاع الأمور باتجاه الخيار التصعيدي، فتبقى الأبواب مفتوحة على كل احتمال؛ وفي كل لحظة يمكن أن تشتعل الشرارة وتحرق الحقل الذي بات يابس الأعشاب، ومنثور عليه البنزين والبارود لشدة التعبئة والتخندق والشحن.

 

عناصر تحريك التفاؤل والتوتر
ما الذي حرك التفاوض وأشاع حالة التفاؤل؟ ما الذي غير الأحوال وأعاد الأمور إلى حالة الترقب والتوتر؟
في التطورات التي جرت خلال الأشهر المنصرمة تبلورت عناصر كثيرة وحدثت متغيرات سمحت بتوقع حصول تسوية مؤقتة "هدنه" على رأسها المتغيرات الآتية:
- متغيرات في الموقف السعودي من فلسطين والعراق وإيران وسورية، وتوقع أن يتم صرف هذه التغييرات في لبنان بتسوية ولو مؤقتة.
- الحوار السوري الإيراني الأمريكي الذي لاذت به أمريكا في مؤتمر بغداد فتح آمالا عريضة بان ينعكس ذلك في تهدئة الأزمة اللبنانية بانتظار ما ستؤول إليه الحوارات تلك وما ستصل إليه القمة العربية. غير أن التصعيد من الفريق المحسوب على الأمريكي رسم إشارات استفهام كبيرة عن خطة الأمريكي وسعيه وما يحضره للبنان ومنه لسورية والعرب، ورسم إشارات عن مدى نفاذ وقدرة السعودية في لبنان وكم هي "مونتها" على كتلة آل الحريري وفريق 14 شباط.
- غير منطقي ولا يمكن تصديق القول أن شيراك، الراحل بعد شهر وربما إلى المحكمة بتهم الفساد، قادر على تعطيل تسوية تريدها السعودية، ذات الوزن الأساسي "المفترض" في الحالة اللبنانية، لاسيما قواعد ارتكاز فريق 14 شباط في الوسط السني. وغير مقبول التفسير أن وليد جنبلاط وسمير جعجع قادران على الالتفاف على التزامات السعودية وآل الحريري حتى لو كان الرئيس السنيورة أحدهم بسبب ما أصيب به من خيبة في رفض الرئيس بري التعامل معه أو محاورته واستبداله بالنائب سعد. فثلاثي السنيورة جعجع جنبلاط أكثر هامشية بلا آل الحريري والكتلة السنية، واقل فاعلية في توجيه سعد الحريري من السعودية ذاتها التي تستطيع إذا ما قرر الملك والأجهزة استبدال سعد وتعويم بيوتات وزعامات سنية للتحرر من الممر الإجباري الذي صنعه رفيق الحريري وأورثه لسعد وفريقه. فالسفير السعودي ينشر مناخات من هذا القبيل، ويفتح بوابات لعلاقات متعددة غير محددة بآل الحريري وفريقهم السني.


التعطيل إذن ليس لبنانيا، وليس من صنع القوى المحلية، وتاليا هناك شيء يجب البحث عنه لمعرفة أصل الحكاية واليات ختامها.
- في أصل الحكاية يبدو أن التفاهمات السورية السعودية لم تكتمل، فهي "تنتظر القمة أو أشياء أخرى". وما أنجزه الإيراني ليس سوى فتح البوابات وكسر الجليد، راغبا بتكريس التحالف الإستراتيجي السوري الإيراني على قاعدة أن سورية هي المخولة بإدارة الحالة العربية وانجاز تسوياتها وتفاهماتها لا إيران التي تقف سندا وقوة تعضيد لسورية والمقاومات. والسعودية تعرف أن ليس لها طريقة لتطويع سورية بعد الهرولة الأمريكية والأوروبية باتجاهها غير لبنان وعبر بوابة المحكمة الدولية، أو عبر التلويح بهز الاستقرار السوري عبر لبنان وفرض الحصار الأمني عليها وتحويل لبنان الفوضى إلى قاعدة للحرتقة عليها بتنشيط المعارضة السورية واحتضانها وإقامة قواعد ومنصات لها في لبنان. وذلك كي لا ينكشف الدور السعودي والأردني بوضوح، الأمر الذي قد يستوجب ردا سوريا ممكنا في السعودية وفي ساحات أخرى.
- وفي بعض الأصل ما هو جار من بحث عن آليات تحاور سورية إيرانية أمريكية، والتحضير لمؤتمر نيسان لدول جوار العراق حيث سيضفي في حال انعقاده المزيد من الجدية على الحوارات وسيضع عناصر أولية في خطط التعاون والتفاهم من البوابة العراقية. وما دام السوري لم يأخذ ثمنا لتعاونه وليس من مطلب له في لبنان، تختار أمريكا مسلك التعطيل في لبنان عبر حلفائها. هذا بينما يعرض نائب وزير الدفاع الأمريكي على سورية صفقة في لبنان لشراء موقفها في العراق. ومن غير المستبعد والحالة هذه أن تلجأ أمريكا عبر أدواتها إلى تصعيد في لبنان لإحراج سوريا ودفعها للقبول أو طلب الفدية اللبنانية بمقابل تسهيل الحل العراقي وضبط إيقاع الحدث العراقي على أجندة بيكر هاملتون.
- القمة العربية ومشاريع القرارات المزمع بحثها تقف على خط اتصال بالأزمة اللبنانية. ففكرة تعديل مبادرة بيروت لم تمر، ولن تمر، والجهود التي بذلتها رايس وحلف الرباعية العربية لتمرير تنازلات في المبادرة تعطلت بسبب الرفض السوري وامتلاك سورية لأوراق قوية في القمة وفي المرحلة التحضيرية امتدادا إلى المرحلة التاريخية برمتها. وقد جاء برنامج حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية والتزاماتها الصريحة في مسألة حق العودة خطوة بالاتجاه الصحيح ما يعزز تمسك سورية بالمبادرة دون تعديل كحد أدنى وإلا رفع سقوف المطالب العربية أو إسقاط دور القمة في معالجة الصراع العربي الصهيوني كمقدمة لإنهائها كظاهرة صوتية ولتمرير الشروط الأمريكية الإسرائيلية. وفي حال تعطيل دورها هذا لا يعود من سبب لاستمرارها لترثها حالة الانقسامات العربية والتمحور وصولا إلى اشتباك مسلح لاختبار موازين القوى وتوليد الحلول "تجربة غزة قبل اتفاق مكة" واقرب الساحات وأنضجها الأزمة اللبنانية المفتوحة على هذا الاحتمال.

 

في نتائج تعطيل التفاهم
في رواية مؤكدة عن المعارضة وقادتها وموقف حزب الله من الحوارات الجارية يفيد مطلعون وعلى صلة بمراكز القرار أن المعارضة غير مستعجلة على تسوية، بل هي في حقيقة الأمر لا تطلبها اليوم وترغب ألا تنجح الحوارات الجارية في إنتاج أي اتفاقات، لأنها تفترض أن الزمن وتحولاته يعمل في صالحها فما تقبله اليوم لن تقبله غدا، وسيكون مرفوضا منها بعد القمة، واعتراضات فريق 14 شباط وتصعيده لتعطيل المبادرة السعودية الإيرانية يثمر بعد القمة تغييرا نوعيا في البيئة الإستراتيجية تنعكس بالضرورة في فرض تنازلات أعمق على فريق 14 شباط، أو يضع الأزمة أمام مسلسل أزمات مفتوحة لتصل إلى الاستحقاق الرئاسي فتدخل طورا مختلفا يفرض تغييرا نوعيا في بنية النظام ووظائف الكيان وفي هيكلية الدولة والمجتمع الاقتصادية والاجتماعية. وهذا ما تتطلع إليه المعارضة، وتسعى لتنظيم جهدها لتحقيقه، وتعمل على امتلاك رؤية برنامجيه اقتصادية اجتماعية للبنان الجديد الذي باتت تنشده على إعادة تعويم لبنان القديم.


حوارات بري الحريري ستكون أمام النهايات السعيدة أو غير السعيدة قبل انعقاد قمة الرياض. أما بعدها فليس من مكان لمنطق الحوار أو جولاته وسيكون الشارع والعصيان المدني، وربما خطوات أكثر وأعمق هي البديل عما ساد من تفاؤل لم ينتج حلولا.
إن الأزمة الراهنة عميقة وتاريخية وأكثر حدة من أزمة عام 1975 التي ولدت الحرب الأهلية التي تناسلت حروباً أهلية مديدة، لم تنتهِ قبل نضج الساحة المحلية وإلحاح الحاجات الإقليمية والدولية فأنتجت اتفاق الطائف وتفويض سورية والسعودية لإدارة الملف اللبناني. وتبدو الأزمة الحالية بلا سقف إقليمي ودولي مع المتغيرات في توازنات القوى والإحجام، ما يعني أن لبنان مفتوح على أزمة طويلة نسبيا، متعددة الاتجاهات والأسباب، تأخذ طرقاً واحتمالات مختلفة، لكنها لن تنتهي قبل إنهاء النظام القديم وقيمه وآلياته، لصالح نظام جديد قادر أن يحمل ويولد وظائف جديدة للكيان. وفي أولها أن يصبح لبنان متناسقا مع أعمال وانتصارات المقاومة؛ وتاليا ليعلب دورا رياديا في الصراع العربي الصهيوني، وليتشكل قوة جذب وريادة بالتقاطع مع اقتصاديات بلاد الشام والرافدين لصالح قيام سوق اقتصادية عربية واحدة كأساس لمتغيرات اجتماعية وسياسية وكيانيه في المنطقة، تفرضها خلاصات السياق العام للتطورات السياسية والعسكرية والمتغيرات الإستراتيجية وسمات المرحلة التاريخية عالميا وإقليميا.


قد تنجح جهود التعطيل التي يبذلها جنبلاط السنيورة جعجع في الحؤول دون تمرير تفاهمات وإعلان نوايا لحوارات بري الحريري (السعودية إيران)، وقد ينجح الساعون لتعطيل الحوار وقطع نتائجه كما يريد حلف الجواسيس الذي أسسته رايس في جولتها الأخيرة بعد اتفاق مكة الفلسطيني ولقائها مع قادة الأجهزة الأمنية في عمان، الحلف الذي صممه ويقوده ديك تشيني لإخراج الإدارة الأمريكية المتصدعة والمنتهية الصلاحية، من أزماتها وإعادة تعويم مشروعها بديلا عن مشروع المؤسسة الحاكمة المسمى بيكر هاملتون.

 

ما أشبه اليوم بالأمس!
لكنهم ينجحون مؤقتا، نجاحا سلبيا أي تعطيليا، في إعادة سيناريوهات التعطيل التي نجح فيها الفريق المسيحي أثناء الحرب الأهلية السابقة، عندما تم إسقاط الاتفاق بعد الآخر حتى صار مضطرا لقبول اتفاق الطائف عنوة، وفي ظل الحرب المسيحية المسيحية.
التجربة الحالية تقارب وتلامس ما كان، خاصة وأن سمير جعجع ووليد جنبلاط، وهما من أبناء وقادة تلك المرحلة، لم يتعلما الدروس والعبر، ويسلكان ذات المسالك ليحصلا على ذات النتائج.
فنجاح جعجع في إسقاط الاتفاق الثلاثي وفر البيئة المناسبة لاتفاق الطائف، وموافقة جعجع عليه متأخرا، مضطرا بعد نفاذ البدائل وتهديد عون لسلطته في مناطق نفوذه. وهذا ما أسس للاشتباكات الدامية مع عون، ثم أنتج الواقع ذاته حالة عزل وإبعاد الاثنين معاً: واحد في السجن والأخر في اللجوء السياسي.


الحالة اليوم مع التوافقات والانقلاب عليها والتخبط الذي يعيشه فريق 14 شباط قد تكرر تجربة الماضي باختلاف الأشخاص والأسماء بعد أن انحاز عون لخيار الوحدة الوطنية والاستقلال ورفض الاملاءات الأمريكية الأوروبية مستفيدا من تجربته المرة معها، بينما اللافت أن وليد جنبلاط والسنيورة وبعضاً من لفيفهم لم يستفيدوا من الدروس، ويسيرون على ذات طريق الأشواك التي غادرها عون باكرا.


 

ميخائيل عوض

بيروت 20-3-2007