الإمبراطورية الأميركية وبدايات السقوط
(الحلقة الثانية)

غالب أبو مصلح

عين كسور في 22-4-2007

 

 

"إن تاريخ صعود قوى عظمى ثم إنحدارها من منظومة القوى العظمى، منذ تقدم أوروبا الغربية في القرن السادس عشر، مثل إسبانيا وهولندا وفرنسا والإمبراطورية البريطانية والولايات المتحدة، يظهر تلازما واضحا على المدى الطويل بين الطاقة الإنتاجية وواردات الدولة من ناحية، والقدرات العسكرية من ناحية أخرى". (بول كينيدي)

 

عند نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة القوة العالمية الكبرى على الصعيدين الإقتصادي والعسكري. كانت الدولة الوحيدة التي خرجت من الحرب أغنى مما كانت عليه عند دخولها. فقد بلغ إحتياطي الذهب لديها 20 مليار دولار، وما يعادل قرابة ثلثي الإحتياطات العالمية من الذهب، التي بلغت في ذلك الحين حوالي 33 مليار دولار. وكانت الولايات المتحدة تنتج أكثر من نصف الإنتاج الصناعي العالمي، وتبلغ صادراتها ثلث الصادرات العالمية، كما كانت الدولة الدائنة الأولى في العالم.

 

لهذه الأسباب مجتمعة، إستطاعت الولايات المتحدة بناء النظام العالمي الجديد، في ظل هيمنتها وحسب مصالحها، على المستويات الإقتصادية والسياسية والعسكرية. وكانت مقومات هذا النظام الجديد المنظمات المالية والتجارية والإقتصادية المتمثلة بثلاثي صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، الـGATT. وكذلك تم بناء نظام نقدي عالمي حسب إتفاقات "بريتون وودز"، حيث أصبح الدولار هو العملة العالمية التي ترتبط به عملات الدول، وثبت سعر صرفه عبر ربطه بالذهب، وعبر جعله قابلا للتحويل إلى ذهب أيضا. وللولايات المتحدة ثقل التصويت الأساسي في هذه المنظمات، كما أنها الوحيدة التي تملك حق النقض في البنك الدولي. وكان لها أيضا الهيمنة شبه المطلقة على هيئة الأمم المتحدة التي تم إنشاؤها. ولها في مجلس الأمن التابع لها حق النقض، بجانب أربع دول أخرى.

 

  وورثت الولايات المتحدة الإمبراطوريات المهزومة في الحرب، كما ورثت تدريجيا بعد ذلك معظم إمبراطوريات فرنسا وبريطانيا، موسعة تخوم إمبراطوريتها التي تم بناؤها في السابق في أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا بشكل خاص.

 

  وكانت الإندفاعة الإمبريالية الأميركية بغية توسيع هيمنتها، وبغية إحتواء الإتحاد السوفياتي والقضاء على حركات التحرر الوطني، بضغوط من الصناعات التصديرية التي إنتعشت خلال الحرب. وخرجت من الركود، وبغوط من العسكريين المنتشين بالنصر وبضخامة قوتهم العسكرية المدعومة بأكبر إقتصاد في العالم. فالصناعات التصديرية الأميركية كانت خائفة من تراجع الطلب العالمي على إنتاجها، أو إقفال بعض الأسواق الكبرى في وجه صادراتها. وكانت بحاجة كذلك للوصول دون عقبات إلى مصادر السلع الإستراتيجية في العالم، مثل النفط والمطاط والمعادن. وكان على القوات المسلحة الأميركية تأمين مصادر هذه الخامات والسلع الإستراتيجية وطرق إمدادها، كما كان على الولايات المتحدة خلق نظام عالمي جديد، تكون هي محوره، تسيطر عليه، لخدمة مصالحها وإستمرار هيمنتها، ولتلبية حاجات الدول الرأسمالية الأخرى الحليفة والتابعة لها. وهناك علاقة جدلية بين القوة العسكرية والثروة، كما يقول بول كينيدي: "إن الثروة ضرورية من أجل بناء القوة العسكرية، والقوة العسكرية ضرورة، في العادة، من أجل الحصول على الثروة والحفاظ عليها". وعبّر دين راسك في أيار 1965 عن هذا التطلع الإمبريالي الأميركي للسيطرة الكاملة على العالم، فقال: "أصبح هذا الكوكب صغير جدا. علينا أن نهتم بكل هذا العالم، ببره وبحاره وجوّه، وبالفضاء المحيط به". وسبق لروزفلت، وبعيد الحرب العالمية الثانية، أن وضع المبدأ المعروف بإسمه، في خطاب ألقاه في شهر آذار 1947 لمواجهة "التهديد الأحمر"، واضعا ثنائية "الخير والشر" في هذا العالم، بين العالم الحر الديمقراطي الخالي من الكبت والإستبداد، والتي تقف على رأسه الولايات المتحدة الأميركية، وبين نظام يمثل إرادة أقلية طاغية إستبدادية إرهابية يمثلها الإتحاد السوفياتي. وعبّر أيزنهاور عن هذه الثنائية العالمية قائلا: "إن قوى الخير والشر تتجمع وتتسلح وتتقابل، كما لم يحدث إلا نادرا في التاريخ، فالحرية تتصدى للعبودية، والنور يقف في وجه الظلام"1.[i] وما زالت هذه الثنائية قائمة حتى اليوم، مع حلول الإسلام وحركات التحرر الوطني مكان الإتحاد السوفياتي، تبريرا للمغامرات الإمبريالية وأهدافها الإقتصادية والسياسية. وبذلك خاضت الولايات المتحدة حروبا شبه متواصلة في أرجاء العالم بعد الحرب العالمية الثانية، كان أبرزها الحرب الكورية، والفيتنامية... وأخيرا إجتياح أفغانستان ثم العراق. كما شنت حروبا عديدة عبر دول تابعة لها، مثل حروب إسرائيل، وآخرها حرب تموز 2006 وحرب النظام الإثيوبي على الصومال. وتنامى إنفاقها العسكري وإنتشار قواعدها العسكرية وقواتها في بحار العالم وقاراته. فعند بداية سنة 1970، كان للولايات المتحدة أكثر من مليون جندي منتشرين في ثلاثين دولة في العالم. وأصبحت عضوا في أربعة أحلاف عسكرية دفاعية ومناطقية، ومساهمة كبرى وأساسية في حلف الأطلسي، وقائدة له، ولديها معاهدات دفاع مشترك مع 42 دولة، وعضو في 53 منظمة عالمية، وتقدم مساعدات عسكرية وإقتصادية إلى حوالي 100 دولة في العالم2.[ii] 

 

غير أن تقديم مساعدات إقتصادية إلى حوالي 100 دولة، لا يعبر عن هموم تنموية وإنسانية، ونوايا طيبة تجاه دول العالم الثالث بشكل خاص. بل إن تقديم هذه المساعدات هو لخدمة المصالح والأهداف الإمبريالية الأميركية. في ذلك يقول "بول سويزي"، المفكر والإقتصادي المرموق، "عموما، كلما زادت المساعدات، كلما قل التطور، والأسباب عديدة. إن نسبة عالية من المساعدات ذات طابع عسكري... وهي مجدية فقط لدعم حكومات غير شعبية، ولإبقائها في السلطة. قسم كبير منها يتم إمتصاصه من قبل مسؤولين فاسدين، أجانب وأميركيين... وكما قال فيتزجيرالد D.A.Fitzgerald، مسؤول في عدة وكالات مساعدات أجنبية، في مقابلة مع U.S. and World Report، في 25/2/1963: إن نسبة كبيرة من الإنتقاد للمساعدات الخارجية الأميركية، إفترضت أن الهدف من وراء المساعدات هو تحقيق نمو إقتصادي، وهذا لم يكن الهدف ملطقا. ربما كان الهدف الحصول على قاعدة عسكرية، أو لكسب تصويت ملائم في هيئة الأمم المتحدة، أو منع نظام من الإنهيار، أو منع إعطاء قاعدة للروس، أو أي من الأهداف الأخرى المشابهة، تقريبا لأي هدف سوى التنمية الاقتصادية"3. [iii]   

 

كما أن نمو القدرات العسكرية الأميركية كانت إستجابة لحاجات النظام الرأسمالي الأميركي الذي تتجه تركيبته أكثر وأكثر إلى مزيد من الإحتكار والعولمة. ففي هذه المرحلة من نمو الرأسمالية، المرحلة الإمبريالية الجديدة، حيث تتغير قوانين المنافسة بين الشركات العملاقة المعولمة، تأخذ المنافسة بين الشركات أشكالا جديدة، تركز على جهود التسويق والبيع. وتنعكس جهود التسويق والبيع هذه على العملية الإقتصادية "وتخلف ثقافة مميزة للرأسمالية الإحتكارية"، كما يقول بول سويزي. ثم "إن حاجات الشركات العملاقة تقمل على توجيه نشاط الدولة... إذ أن هذا النظام لا يعرف طريقا آخر سوى العنف غير المحدود، أو تهديدات العنف للسيطرة على "إزعاجات" الأنماط الإجتماعية الأخرى، وحركات التحرر الوطنية الثورية"4.[iv] 

 

فتنمية القدرات العسكرية الأميركية لم تكن دائما إستجابة لتحديات عسكرية، أو تلبية لحاجات حروب خاضتها مثل الحرب الكورية أو الفيتنامية، بل أن منطق النظام وبنيته الداخلية تفرضان مزيدا من الإنفاق العسكري، وتوسيع الهيمنة الأميركية على الصعيد العالمي. إن إستقرار النظام الإقتصادي الأميركي يعني بشكل ما، إستقرار وحداته الإنتاجية العملاقة، أي الشركات الكبرى المعولمة، عبر تأمين طلب مستقر لإنتاجها من قبل الحكومة. ويشكل الإنفاق العسكري المتنامي أحد ركائز إستقرار الطلب ونموه. فالمجمع الصناعي العسكري يشكل قوة ضغط كبيرة ومتحكمة إلى حد بعيد بالقرار الأميركي الداخلي والخارجي، ويدفع في كثير من الأوقات إلى خيار الحروب لرفع الطلب على إنتاجه. وقديما، تنبه أيزنهاور إلى مخاطر هذا المجمع الصناعي العسكري، فقال إن هذا المجمع "سيقودنا الى الانفاق العسكري. ليس بسبب حاجات الأمن القومي، ولكن لمصالح شبكة من مصانع الاسلحة ومراكز القوى ورجال السياسة المنتخبين". ويقول توم أودونيل " إن الشركات النفطية العملاقة، ومعظمها اميركي، اندمجت عملياَ منذ حرب 1973 في المجمع الصناعي العسكري، ليشكلوا جميعا الحلقة الجهنمية في السياسة الخارجية الاميركية"5.[v]

 

ففي سنة 1985، أي بعد عشر سنوات من سقوط سايغون والإنسحاب الأميركي من فيتنام، كان للولايات المتحدة 520 ألف جندي خارج أراضيها، منهم 65 ألف في القوات البحرية. وبالرغم من مضاعفة الموازنة العسكرية ثلاثة أضعاف منذ أواخر السبعينات، فقد إزداد عدد القوات بنسبة 5% فقط، ويعود ذلك إلى الإرتفاع الهائل في ثمن السلاح الحديث، والذي صاحبت مشترياته "إتهامات بالهدر والغش وسوء التصرف. فالفضائح العديدة حول أسلحة فائقة الكلفة ومتدنية الفعالية... لها تفسيرها بنقص في العروض التنافسية، وفي عوامل السوق، في المجمع الصناعي العسكري... فإدارة ريغان في عهدها الأول زادت إنفاقها بنسبة 75% على طائرات جديدة، ولكنها حصلت على زيادة قدرها 9% فقط في عدد الطائرات6.[vi] 

 

فظاهرة ارتفاع ثمن السلاح هي ظاهرة مواكبة لتطور النظام الرأسمالي الذي يستمر في إبتكار أنواع جديدة من السلاح أو بناء أجيال جديدة من الأسلحة وإدخال تقنيات جديدة مرتفعة الكلفة إليها، لتحل مكان أجيال سابقة، ولكن بأثمان مضاعفة، مما يرفع كلفة التسلح والحروب بمعدلات تفوق كثيرا معدلات نمو الثروة لهذه الدول. وتتسارع نمو الكلفة مع تسارع الإبتكارات العلمية والتقنيات التي تقودها الأبحاث العسكرية العالية الكلفة. ففي أواسط الثمانينات مثلا، كانت القاذفات الحديثة تكلف مائة ضعف ما كلفته في الحرب العالمية الثانية. وتكلف المقاتلات أكثر من مائة ضعف ما كلفته في تلك الحرب. أما حاملات الطائرات، فتكلف عشرين ضعفا، والمدرعات 15 ضعفا. وكانت الغواصة من طراز Gato تكلف 5500 دولار للطن الواحد، أما الغواصة Trident، فأصبحت تكلف 1.6 مليون دولار للطن الواحد، وذلك في سنة 1986.[vii]7 وترتفع أسعار الأسلحة بنسبة ما بين 6 و10% فوق معدل التضخم سنويا. وكل نوع جديد من السلاح هو أغلى بمعدل ثلاثة إلى خمسة أضعاف من السلاح السابق. وقال مكتب محاسبة الحكومة التابع للكونغرس إن البنتاغون ضاعف إستثماراته المزمعة في الأسلحة الجديدة من 750 مليار دولار في عام 2001 إلى 1.5 تريليون دولار لعام 2007، لكنه لم يحصل على تمويل كاف لذلك8.[viii] فالحروب، أو على الأقل الوقوف على حافة الحروب، كما سباق التسلح في الماضي، يكون لمصلحة المجمع الصناعي العسكري النفطي. فالحرب على العراق رفعت من ربحية شركات النفط كما صانعي الأسلحة، ورفعت من قيمة أسهم الشركات المعنية لهذه الصناعات. ففي سنة 2006، إرتفعت أرباح شركة "لوكهيد-مارتن" بنسبة 28% وصولا إلى 729 مليون دولار، وكذلك شركة "نورثروب" التي إرتفعت أرباحها بنسبة 37% إلى 453 مليون دولار، وشركة "بوينغ" إلى بليون دولار. فقد إستفادت هذه الشركات من طلبات البنتاغون التي زادت بنسبة 41% خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، ما رفع أسهم الشركات بنسب عالية، بلغت 200% لشركة "جنرال ديناميكس" و140% لشركة "لوكهيد مارتن" صانعة الطائرة "أف-16"9.[ix]

 

يقول بول كينيدي، "إن القوى العظمى التي تمر في مرحلة الإنحدار النسبي، تستجيب بإنفاق أكبر على "الأمن"، وبالتالي تحول موارد ممكنة من التوظيف المنتج، وتعاظم مأزقها الطويل الأجل"، وهذا ما يحصل للولايات المتحدة، إذ تحاول التعويض عن إنحدار هيمنتها الإقتصادية بتنمية هيمنتها العسكرية، لتوسيع أسواقها الخارجية، في الوقت الذي تزداد حمائية في الداخل، ولمزيد من التحكم في مصادر النفط والمواد الخام الإستراتيجية، وطرق إمدادها، بغية إبتزاز دول العالم بهذا التحكم. ولكن حروب أميركا في فيتنام والعراق وأفغانستان، وكذلك حرب إسرائيل في تموز 2006، أظهرت أن التفوق الكبير بالمعدات العسكرية، والقدرة الإقتصادية، لا تترجم نفسها دائما وبشكل آلي إلى فعالية عسكرية. كما أن هذه المغامرات الإمبريالية أظهرت أن هذه الحروب تنعكس بشكل سلبي وقاس على داخل الدول المعتدية، على الصعد الإقتصادية والسياسية، كما على تماسك ووحدة مجتمعات هذه الدول.

 

  أصبح الإنحدار النسبي المتسارع للولايات المتحدة واضحا للمراقبين الإقتصاديين والسياسيين. فنصيب الولايات المتحدة من الناتج العالمي أخذ في الهبوط منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي، مما يقارب 45% إلى أقل من 20%، ويتجه إلى 16% في الوقت الراهن. فمع إعادة بناء القدرات الإنتاجية لأوروبا واليابان، أخذ الفائض  في الميزان التجاري الأميركي ينقلب إلى عجز. وأظهر ميزان المدفوعات عجوزات متتالية. وبالرغم من الضغوطات الأميركية لرفع سعر الصرف الحقيقي للمارك الألماني والين الياباني بوجه خاص، والتي إستجابت له الدولتان المعنيتان، فإن ذلك لم يصحح الخلل في الموازين الأميركية، فنما الطلب على إبدال الدولارات بالذهب، والتي عجزت الولايات المتحدة عن تلبيته، فتم إسقاط تعدات أميركا في إتفاقية بريتون وودز وإستعيض عنها بسعر الصرف العائم الذي سبب الكثير من الإضطرابات في الأسواق النقدية والمالية العالمية.

 

  يقول كينيدي (عند منتصف الثمانينات من القرن الماضي) إن التأخر النسبي للصناعة الأميركية لم يكن فقط في إطار الصناعات التقليدية، مثل صناعة النسيج والحديد والفولاذ وبناء السفن والكيمياء الأساسية، بل أيضا في حقول الصناعات ذات التقنيات العالية. فحصة أميركا من الروبوطات وصناعات الفضاء السيارات والآلات الصناعية والحواسيب تنخفض. فالدراسات التي أجراها الكونغرس في سنة 1986 تقول إن الفائض التجاري الأميركي في السلع ذات التقنيات العالية إنخفض من 27 مليار دولار في سنة 1980 إلى 4 مليارات دولار في سنة 1985، ويتجه بسرعة إلى العجز.10[x] أما في سنة 2006، فإن التجارة مع الصين، الدولة النامية، في السلع ذات التقنيات العالية، أظهرت فائضا لمصلحة الصين. ويستمر الإنتاج الصناعي الأميركي في الهبوط المطلق، وليس النسبي، إذ سجل شهر كانون الثاني 2007 هبوطا في الإنتاج الصناعي بلغ 5%.

  كانت الولايات المتحدة أكبر دولة دائنة في العالم، فأصبحت أكبر دولة مدينة. وصل دينها الخارجي الرسمي إلى 914.3 مليار دولار في سنة 1980، وإرتفع إلى 1823.1 مليار في سنة 1985، فإلى 2.5 تريليون دولار عند نهاية 2004، ويقارب الآن 4.5 تريليون دولار. وهذا إلى جانب أن نصف الدين العام الفيدرالي الذي يملكه الجمهور هو في أيدي أجنبية11.[xi] كما وصل مجموع الدين الأميركي الداخلي والخارجي للقطاعين العام والخاص والقطاع المنزلي إلى 36.2 تريليون دولار عند نهاية سنة 2005،12[xii] ويقارب الآن 40 تريليون دولار. وبلغ عجز الموازنة لسنة 2004 422 مليار دولار وما يعادل 3.6% من الناتج المحلي القائم. أما العجز في الحساب المدفوعات الجاري السنوي، فبلغ 541.7 مليار دولار لسنة 2003، وإرتفع إلى 780.6 مليار لسنة 2005، وبلغ 850 مليار دولار لسنة 2006. كما بلغ عجز الميزان التجاري لسنة 2006 حوالي 830 مليار دولار، مرتفعا من حوالي 160 مليار دولار في سنة 1986. وهبط معدل الإدخار الوطني تدريجيا من 7.7% لسنة 1990 إلى 0.2% في أيلول 2004، فإلى السلبية في سنة 2006. ويحدد معدل الإدخار معدلات النمو الإقتصادي على المديين المتوسط والطويل.

 

  إن لتنامي عجز حساب المدفوعات الجاري أهمية كبيرة. ويقول مايك ويتني إن الأرقام المعلنة عن كانون الثاني 2006 تدل على أن التوظيفات الأجنبية تنضب، وأن العالم لم يعد مستعدا لشراء الدين الأميركي الضخم. والشيء الوحيد الذي يستطيعه المصرف المركزي (Federal Reserve) هو رفع معدلات الفائدة لإجتذاب مزيد من رؤوس الأموال الأجنبية، وأن يسمح لسعر صرف الدولار بالهبوط. والمشكلة هي أنه إذا تم رفع معدلات الفوائد، فإن السوق العقاري سينهار بأسرع مما يفعل الآن، والذي سيخنق إنفاق المستهلكين مما يؤدي إلى إنكماش الناتج المحلي13.[xiii]

 

ولا تظهر التحليلات الإقتصادية، كما الأرقام المعلنة عمق المأزق الإقتصادي الأميركي. فكما يقول غالبرايث في كتابه الشهير "الدولة الصناعية الحديثة" (The New Industrial State)، "إن الإقتصاد كما يدرس تقليديا، هو جزئيا نظام معتقدات، مصمم لطمأنة الناس حول سلامة العلاقات الإجتماعية القائمة، أكثر منه لإظهار الحقائق"[xiv]14.

 

لهذا التدهور النسبي في القدرات الإقتصادية الأميركية علاقة مباشرة بالإنفاق العسكري المتعاظم، والمرتبط بالحروب التي شنتها وتشنها الإمبريالية الأميركية على دول العالم الثالث بشكل خاص، على المستويات العسكرية والأمنية والإعلامية والثقافية. فقد فاقت كلفة الحرب على العراق بالقيمة الثابتة لدولار الستينات، كامل كلفة الحرب الفيتنامية، فقد وصلت كلفتها بدولار الستينات إلى حوالي 700 مليار دولار ككلفة مباشرة. وبلغت موازنة البناغون التي طلبها بوش 622 مليار دولار لسنة 2007. وكانت موازنة البنتاغون قد تضاعفت أكثر من مرتين منذ مجيء بوش إلى الرئاسة. وتعتبر هذه الموازنة الأكثر كلفة منذ نصف قرن. فقد تم تخصيص 140 مليار دولار لشراء الأسلحة وللأبحاث والتنمية والتطوير، وهي نفقات لا تمت لحرب العراق وأفغانستان بصلة، ولكنها مطلوبة من قبل المجمع الصناعي العسكري. وبلغت الموازنة الأميركية العامة لسنة 2008 2.9 تريليون دولار، وقال بوش أنه سيسعى إلى طلب مبلغ إضافي وقدره 235 مليار دولار للعامين 2007 و2008، تخصص للإنفاق العسكري و"للحرب على الإرهاب"، منها 141.7 مليار دولار كمخصصات للحرب على الإرهاب في العالم لعام 2008، ومبلغ 93.4 مليار دولار كمخصصات إضافية "لدعم العمليات العسكرية في الخارج" لعام 2007.[xv]15

 

وهذا الإنفاق المتصاعد على الأسلحة الحديثة و"الحرب على الإرهاب" تنعكس سلبا على معدلات النمو الإقتصادي وعلى مستوى الخدمات الإجتماعية، حتى داخل المؤسسة العسكرية. فالقوات الأميركية المقاتلة في العراق تعاني من نقص في المعدات المدرعة والدروع الفردية، وفي الخدمات الطبية. فقد قدم بوش بتاريخ 30/3/2007 إعتذاره للجنود الجرحى الذين قاتلوا في العراق وأفغانستان، وأسيأت معاملتهم في مركز "وولتر ريد" الإستشفائي العسكري، والذي يعد واجهة الطب العسكري الأميركي.

 

يقول بول كينيدي: "إذا تم تحويل قسم كبير من الثروة الوطنية من التوظيف المنتج إلى إنفاق عسكري، فذلك يضعف، على الأرجح، القوة الوطنية على المدى البعيد. وإذا توسعت الدولة إستراتيجيا فوق طاقتها عبر إحتلال مساحات شاسعة أو شن حروب مكلفة، فإنها تجلب (على نفسها) من المخاطر أكثر مما تجلب من المنافع، وتزيد نفقاتها عن المكاسب. وهذه مشكلة يمكن أن تصبح حادة إذا ترافق ذلك مع دخول االدولة المعنية مرحلة تخلف إقتصادي نسبي". ويقول أيضا: "إن إمتحان القدرات الأميركية سيكون هو الأكبر، لأنه، مثل الإمبريالية الإسبانية حوالي سنة 1600، والإمبريالية البريطانية، حوالي 1900، هي الوريثة لإلتزامات إستراتيجية من العقود السابقة، عندما كانت الإمكانات الوطنية السياسية والإقتصادية والعسكرية القادرة على التأثير في الشؤون الدولية، توحي بإطمئنان أكبر لقدراتها. وبالتالي، فإن الولايات المتحدة تخاطر بما يسميه المأرخون لقيام وسقوط القوى العظمى، "الإنتشار الإمبريالي الزائد" (Imperial Overstretch). وهذا يعني أن على متخذي القرارات في واشنطن مجابهة الحقيقة المؤلمة، بأن مجموع المصالح الأميركية العالمية، وتعهداتها الخارجية، هي الآن أكبر بكثير من قدراتها على الدفاع عنها جميعا في الوقت ذاته16.[xvi] 

 

  وكما دمرت حرب فيتنام سمعة أميركا وسمعة جنرالاتها، وأدت إلى تصدع إجماع المجتمع الأميركي حول الحرب وأهدافها، وكشفت أخلاقيات الولايات المتحدة ومدى إنحطاطها، فإن الحرب الإمبريالية التي تشنها الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان بشكل خاص، تنمي عداء شعوب العالم لها، وخاصة الشعوب الإسلامية والعربية، وتدفع أميركا إلى مأزق سياسي إقتصادي إجتماعي، وتدفع الإقتصاد الأميركي إلى الركود، وربما إلى ركود كبير وعظيم مثل الركود الذي شهدته الولايات المتحدة في سنة 1929 وإستمر لمدة قرن تقريبا. ويبدو أن العوامل الإقتصادية والإجتماعية التي أدت إلى ركود سنة 1929 تتجمع الآن وتنفجر لتدخل الإمبريالية الأميركية في مأزق تاريخي يؤدي إلى سقوطها بسرعة كبيرة.

 

 إلى

الحلقة المقبلة

 

غالب أبو مصلح

عين كسور في 22-4-2007


 

[i] Kennedy, Paul. The Rise and Fall of Great Empires, p. 372

[ii] المصدر نفسه، ص. 90-389

[iii] Sweezy, Paul. Modern Capitalism, p. 22-23

[iv] Ibid, p.50-51

[v] السفير،27/02/2007

[vi] Kennedy, ob. cit. p.552

 [vii] Ibid, p.442

 [viii] جريدة الحياة، 2/2/2007 عن "دير شبيغل" 1/2/2007

[ix] جريدة الحياة 1/4/2007

[x] Kennedy, ob. cit. p. 525

 [xi] The Economist, Jan 21 2006

 [xii] Furguson, Nial; Sinking Globalization, Foreign Affairs, Mar-Apr 2005

 [xiii] Whitney, Mike; The Second Great Depression, Information Clearing House

[xiv] Sweezy, ob. cit. p.33

 [xv] الحياة 14/2/2007 و8/4/2007

[xvi] Kennedy, ob. cit. p.515