يا ايها الشعب العربي... ويا أمّة محمّد... |
جمال الدويهي أبي زيد
ما بال الامريكيين يخبطون خبط عشواء في المنطقة، ويفشلون كيفما اتجهوا في هذه
البلاد. أمطرونا وابلاً من الخطط والاهداف والمتغيرات الجذرية والمصائر الوردية،
فكان كله كلام في الهواء وإخفاقات على الارض. كنا نُتّهم نحن العرب بامتهان
الثرثرة: نحكي الكثير ونفعل القليل. فإذا بالامريكيين يسيرون على خطانا، يثرثرون،
يعاودون الثرثرة، ويجمعون أقرانهم من دول الارض فيثرثرون معاً، ويطلعون علينا في
وسائل الاعلام، يتكلّمون ويتبعهم المترجمون فتزدوج الأصوات وتختلط اللغات ويصلنا
الكلام أقرب الى الجلبة والضجيج، فلا نسمع ولا نفهم ولا نهتمّ. الى مَن يتوجه
الامريكيون بكل هذه الثرثرة يا تُرى؟
كلٌ يفكّر وفق تجاربه. والامريكيون عرفوا من التجارب تلك التي خاضتها اليابان
والمانيا بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية، وتجربة الاتحاد السوفياتي في
انهياره وتفكّكه بعد الحرب الباردة، وعرفوا ايضاً ما فعلوه بشعوب امريكا الأصليين،
وما فعله الاوربيون في القارة الافريقية وشعوبها. وعندما قرر الامريكيون المجيء الى
بلادنا، لا بدّ انهم افترضوا ان تجربتهم الجديدة ستكون مشابهة بشكل او بآخر لما سبق
وعرفوه.
لقد تنكّر الألمان واليابانيون، بعد الهزيمة، لتجربتهم السياسية-العسكرية التي
أوصلت العالم الى حرب مهولة، واستفظعوا أنفسهم فغيّروا ما كانوا عليه. أما الاتحاد
السوفياتي فقد انهار من الداخل بهدوء، واختفى هو وتجربته الاشتراكية بسهولة ما كانت
لتخطر على بال. شعوب امريكا الشمالية الأصليون انقرضوا. وخاضت شعوب القارة
الأفريقية فيما بينها كل أنواع الفتن والحروب. واستعدّ الامريكيون لخوض شيء ما
مماثل لما سلف في الشرق الاوسط. لم ينتبهوا ان هذه البلاد هي أصلاً الشرق الادنى
وليس الاوسط.
لقد غاب عن ذهن الامريكيين بان تجربة اليابان العسكرية والمانيا النازية وروسيا
الاشتراكية هي جزء أصيل من الازمنة الحديثة. لم تقتصر الحداثة على انتاج الأنظمة
الرأسمالية والديموقراطيات الغربية فقط، فالاشتراكية هي نتاج الحداثة بامتياز،
وكذلك الأنظمة الفاشية. أما الافارقة فيبدو انهم شعوب مغلوب على أمرها بالفعل.
لم يخطر ببال الامريكيين بانهم حينما يتعاملون مع شعوب الشرق الادنى انما يتعاملون
مع "الآخر". الآخر المختلف في الزمان والمكان، في الماضي والحاضر والمستقبل، في
الاجتماع والسياسة والثقافة، في المراحل السابقة واللاحقة، في الأفكار والاحلام
والمشاعر والروئ، في النظرة الى الذات والى العالم. لا يعرف الامريكيون الى أي مدى
هذا الآخر راسخ. وهذا الرسوخ ليس صفة بل هو طبيعة. هذا الآخر هو راسخ بطبيعته.
ورسوخه متأتٍ من عاملين: القِدم والاكتمال. من أين للامريكيين ان يفهموا انهم في
بلاد الشرق الادنى هذه انما يتعاملون مع الآخر القديم والمكتمل.
في المنظور التاريخي الولايات المتحدة الامريكية ما تزال في سنّ المراهقة، فهي لم
تبلغ من العمر سوى بضع عشرات من السنين، في حين ان الشرق الادنى له من العمر بضعة
الآف من السنين. هنا، في هذه البلاد، نسج الانسان إنسانيته. هنا نشأت المزرعة
الاولى والقرية الاولى والمدينة الاولى، وهنا تألّفت الدولة الاولى والثورة الاولى
والامبراطورية الاولى، وهنا وُضِعت الكتابة الاولى والآداب الاولى والعلوم الاولى..و..و...
لقد حقّق الانسان معجزته هنا. وظلت الدنيا بأكملها، وطيلة الآف السنين، تُعاش هنا،
وهنا فقط. وما عداها كان عصورا حجرية.
لمّ يتمّ ذلك كله بيُسرٍ، فقد كلّفت الأنسنة الكثير من الالام والدموع
والدماء، واحتاجت الى الكثير الكثير من قهر الذات والانضباط والإنتظام
والصبر. لقد كان هذا المسار المضني والطويل الطويل كفيلاً بتكوين كياناً حضارياً
مكتملاً، واكتماله نهائي، صلب ومرصوص. مكتفياً بذاته، يتفاعل مع ذاته، ويعبر الزمن.
ومن أين للتشيني وأعوانه إدراك كل ذلك.
يقول الباحث فرنان بروديل بأن اليونان والرومان والبيزنطيين أقاموا في الشرق الادنى
حوالي ألف عام، من سنة 330 ق.م حتى سنة 635م. تقريباً. لكن ورغم تلك السيطرة
المديدة، فأن الشرق لم ينخرط ضمن تلك الحضارة العظيمة الوافدة، بل اختار الممانعة
والاحتفاظ بنفسه والإنطواء ضمن نُسقه الحضارية الخاصة: لغاته، مفاهيمه، قيّمه،
أنماط حياته، تقاليده، كل ما يشكّل نظامه الثقافي والحضاري.
ويشرح بروديل أسباب هذه الممانعة فيقول: أن الحضارات الكبرى تجتاز الوقت وتتغلب على
الزمن. وبينما تدور أحداث التاريخ وتتوالى مشاهده تبقى هي في مكانها، مُصانة
ومتحكّمة بمداها. وقد يطرأ متغيرات عند أطراف هذا المدى، أما في القلب، في حيّز
المركز والمنشأ، فأن الحضارات المتجذّرة البنيان، المكتملة والناضجة، تبقى ثابتة في
المكان والزمان.
ومن هذه الزاوية يطرح بروديل التساؤل حول الفتح العربي الاسلامي الصاعق فيقول: أن
الألف عام من السيطرة اليونانية الرومانية لم تَنل من الشرق بشيء، فهو لم يضمحلّ
رغم انطوائه المديد، بل احتفظ بهويته، بتماسكه، ووعيه لنفسه رغم خضوعه الظاهر.
وهكذا، وبعد ما يُقارب العشرة قرون، وبين يوم وآخر، وعند أول ضربة سيف عربية، انهار
كل شيء نهائياً: اللغة، الفكر اليوناني، الأطر الغربية، كل شيء تحول دخاناً. هذه
السنوات الالف من التاريخ، هي محلياً كما لو انها لم تكن.
ومع الزمن الاسلامي حقق الشرق الادنى القديم انبعاثه من خلال توحيد نفسه. وعاد
بكامل عدّته وعديده الى صدارة التاريخ لكن موحداً هذه المرة. لا شك بأن منشأ
الاسلام هو الصحراء العربية، لكنه ايضاً وبشكل خاص، هو تلك البلدان التي اجتاحها
الفرسان العرب بسهولة كبيرة. الاسلام هو الشرق الادنى، مما يُضيف اليه كميّة خيالية
من الإرث ومن العصور. لذلك لم تكن سرعة الفتوح العربية الاسلامية أمراً طارئاً، ولو
انها كانت كذلك حقاً لما طال بها الأمد، ولانهارت في بضعة أجيال على غرار غيرها من
الامبراطوريات. ويختم بروديل قائلاً: إن قلب الاسلام هو هذا المدى بين مكة
والقاهرة، في دمشق وبغداد.
الامريكييون، المراهقون في السياسة، المفاخرون باستهلاك الكثير من النفط، ودائماً
المزيد من النفط، فيلوّثون ويتلوّثون بحيث نختنق جميعاً: نحن والارض والسماء. هؤلاء
الامريكيون استسهلوا المجيء إلينا، والتعامل معنا، نحن "المتخلّفون الحفاة العراة
السذّج". وحين وجدوا أنفسهم في مأزق حرج، طلعوا علينا عبر وسائل الاعلام، يتكلمون
ويتبعهم المترجمون، فلا نسمع ولا نفهم.
اذا كان الامريكيون جادين في عملهم، عليهم على الاقل وقبل كل شيء تعلّم اللغة
العربية وإتقانها: كيفية لفظ الحروف، التمرّن على مخارج الاصوات، سبر أغوار
البلاغة، إتقان المجاز والاستعارة والتشبيه، أعادة الكلمات الى مصدرها الثلاثي أو
الرباعي، حفظ أشعار المتنبي... عندها قد نسمع ونفهم، إذا ما وقف بوش يوماً، ونظر
مباشرة الى الكاميرا، ورفع يده وقال بصوت جهوري: يا ايها الشعب العربي... ويا أمّة
محمّد... (ليس الشأب الأربي وامة مهمد)، وإذا أراد إظهار جبروته يقول بثبات لكن على
مهل: الخيل والليل والبيداء تعرفني (ليس الهيل والليل والبيداه تأرفني). بذلك، قد
يكون الامريكيون خطوا الخطوة الاولى في رحلة الأف ميل باتجاه الشرق الأدنى.