الثورة والديمقراطية: آفاق تاريخية |
إبراهيم ياسين
إن
البشرية في تقدم. فهي قد فككت الذرة وانتقلت إلى عصر الفضاء، ووصلت بين أقصى الأرض
وأقصاها في لحظات، وما كان حلما من أحلام الأساطير أصبح واقعا ومعقولا. إلا أنه
تقدم في مجال دون مجال، ويحسب لصالح فئات وطبقات ومناطق في العالم دون غيرها. وفي
هذا العصر الذي نعيشه، عصر العولمة الامبريالية، فإن التقدم العلمي والتكنولوجي ما
زال يُسخر في كثير من الأحيان لتعزيز قوى التسلط والاستغلال، وضد تحرر البشر
وحريتهم. فعالم الضياع ما زال عالمنا هذا الذي نعيشه، ليلقي بكل أثقاله في دنيا
السياسة وأنظمة الحكم وفي تنظيم العلاقات بين البشر، انه عالم يصنعه الإنسان ولا
يقوى على التحكم فيما يصنع، بل وقد لا يتعرف إلى دوره فيما يصنع، عالم من الأزمات
والصراعات تتلاطم وتدور من غير أن تجد لها حلا ومخرجا، واللامعقول ما زال يتحكم في
كثير من حياة البشر وعلاقاتهم، وحرية الإنسان ما زالت مسلوبة من هنا أو هناك بأشكال
مختلفة. ولكن أمل الثورة بالمقابل، وأمل التغيير الجذري لهذا الواقع، ليس حلما
طوباويا يذهب إليه أناس مثاليون بعيدا عن الواقع وخارج دوامة الصراع، بل هو جهد
يبذله أفراد وجماعات وشعوب، ويقدمون دمهم وحياتهم على طريقه، تصديا لهذا الواقع،
وخوضا في صراعاته وتناقضاته، للامساك بزمام تاريخهم، ولمعرفة العوامل التي تحرك
صراعاته وتفجر تناقضاته وتصنع حركته ومساره، وللتوجه به وتوجيههم نحو الأهداف التي
نضج إليها وعي الإنسان لإنسانيته وللحرية التي ينشد.
والتاريخ السياسي للبشر، أي تاريخهم الفعلي كأمم وفئات اجتماعية وطبقات وأحزاب، وكأشكال للنظم والدول، وكصيغ في تنظيم السلطات والعلاقات بين البشر توالت، لم يتقدم كمحصلة لتطور متدرج في الوعي أو لتراكمات كمية تجمعت، بل تقدم عبر الصراعات والأزمات وكانت له لحظاته السلبية التي فجرت بالنتيجة الثورات. وبالثورة، أي بالانتقالات النوعية والباترة جاء تقدم هذا التاريخ. ومن منطق التاريخ ومسار التاريخ، أن الثورة جاءت أطوارا، أي أنها تعاقبت ثورات، وفي كل ثورة تقدم البشر أطوارا من الوعي والتجربة وطورا من العقلانية، وطورا نحو الحرية والتحرر ونحو الانعتاق من الاستلاب والضياع. والثورات الكبرى التي أخذت بعدها الإنساني والشمولي في تاريخ الشعوب التي تعيش اليوم على مسرح التاريخ، والتي تعاقبت لتعطي الواحدة للتالية مرتكزات وخبرات، رفعت الواحدة بعد الأخرى شعارا عاما واحدا واختفت مضامينه بالنسبة لكل ثورة، وهو شعار الديمقراطية كنظام سياسي تنشده لتحقيق حرية المواطنين وتحررهم، أي أن تملك القاعدة العامة لجماهير الشعب مصائرها بيدها، أن يتحقق لها حرية الفكر والمعتقد وتكافؤ الفرص، وأن تكون لها إرادتها في حكم نفسها وفي بناء دولتها وتوزيع سلطات تلك الدولة وأن تصنع القوانين الناظمة لحياتها وعلاقاتها، وتمسك بزمام مقدراتها وتاريخها...
وبهذا المفهوم الشمولي للثورة، كتغيير جذري لنظام سياسي واجتماعي سائد من خلال تطلع إنساني وحضاري عام، ينقل الإنسانية وعلاقات القوى الاجتماعية والشعوب إلى طور جديد من الوعي ومن التقدم، فان تاريخ البشرية في القرنين الأخيرين قد شهد صعود ثورتين كبيرتين ظافرتين، كانت أولاهما الثورة الليبرالية كما تجسدت في الثورة الفرنسية عام 1789 وفي امتداداتها والأبعاد العالمية والإنسانية التي أخذتها، والتي تقدمت بمفهوم الديمقراطية السياسية. أما الثورة الثانية فكانت الثورة الاشتراكية كما تجسدت في الثورة البلشفية عام 1917 وفي امتداداتها وأممياتها وما أحدثته من تغيرات جذرية، وما بشرت به من تغيير ثوري عالمي، والتي تقدمت بمفهوم الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية.
إن العالم الرأسمالي الصناعي المتقدم أو المسمى بالمعسكر الغربي ما زال ينتسب لتراث الثورة الليبرالية الأولى، كذلك فان منظومة ما سمي بالدول الاشتراكية أو المعسكر الشرقي، فإنها كانت تنتسب كلها لتلك الثورة الاشتراكية أو الثانية. وبعد الحرب العالمية الثانية تفجرت حركات التحرر الوطني تباعا في أرجاء العالم الثالث عبر عملية خلع الاستعمار الكولونيالي، مبشرة بميلاد ثوري جديد يجدد حيوية التطلع الثوري إلى التحرير الكلي للإنسان. ولقد أحدثت تلك الحركات بالفعل تغييرات عميقة في حياة شعوبها ونظمها الاجتماعية والسياسية، كما أحدثت تغييرات عالمية أيضا في الحياة البشرية وعلاقات الدول والشعوب، ولكنها ولو أعطيت اسم "الثورة الوطنية الديمقراطية" في العديد من مواقعها، فإنها لم تستطع أن تحدد بعد صيغتها الديمقراطية هذه، ولم تقدم إلا صورا وتصورات غير ثابتة لطموحاتها إلى الجمع بين معطيات الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية في النظام الذي تبنيه أو تتطلع لبنائه. وهي صور وتصورات ما زال يعوزها البعد النظري الحقيقي، وامتلاك الوعي المطابق لحاجات مجتمعاتها... ولو أن بعضها حاول جاهدا أو ما زال يحاول ويعطي الأمل والوعد. وفي هذا الإطار الأخير تقع ثورة الأمة العربية، تلك الثورة التي ننتسب إليها ونعمل لها، لتأخذ أبعادها وتقدم تجربتها.