العولمة
والحرب على ثقافة الآخر! |
رشا أحمد الكيلاني،
كاتبة من لبنان
كثيرة
جدا هي الأبحاث والدراسات والمقالات التي كتبت حول العولمة وتأثيراتها في مختلف
نواحي الحياة.. غير أن ندرة قليلة من تلك الجهود ذهبت لتستكشف تأثير العولمة في
ثقافة الإنسان وهويته والنظرة التي تشكلها ظاهرة "القرية الكونية" للآخر..
فالدراسات بمعظمها تنصب حول المظاهر والنتائج والتأثيرات الاقتصادية والسياسية
والعسكرية للعولمة، ووضعها ضمن الإطار الكوني والكوزموبوليتي.. لكن، إذا كانت
الثقافة في نهاية التحليل هي نتيجة ومحصلة كل مظاهر الوجود الإنساني لجماعة ما،
يصبح السؤال الأهم عندئذ حول تأثير ذلك كله على إنسانية الإنسان: على أفكاره
ومشاعره ونظام انعكاساته وقيمه.. على نظرته للذات والوجود وللآخر.. حول إنسانيته
كإنسان أولا وأخيراً..
برأيي تستحق هذه الزاوية التركيز عليها وإيلائها كل اهتمام ممكن.. ذلك أنه في هذه الزاوية بالذات ستخاض أقسى الحروب وأشرسها: فهنا، علينا ان نناقش هوياتنا الوجودية والثقافية.. أفكارنا، لغتنا، وحتى أحلامنا.. نظام القيم الذي سنقدمه لأولادنا وللأجيال القادمة.. أسلوب الحياة الأفضل لنا ولهم.. هنا، تبدأ المسافة بالانحسار، ونصبح مطالبين أكثر فأكثر بتقديم أجوبة قاطعة: أجوبة تتعلق بأسئلة حياتية لا يمكن الهروب منها: حول هوية الذات، والوجود، والآخر.. وصولاً الى أسئلة وجودية بذاتها: ماذا لو أصبح الكون كله قرية واحدة وانتفت الخلافات بين البشر.. هل يمكن بذلك أن تستمر الحضارة الإنسانية التي منذ نشأتها قامت على التنوع والاختلاف؟ ومن ثم إذا كان الأمر ممكناً أصلاً، فما هي الثقافة التي يحق لها أن تسود؟ هي هي ثقافة الاستهلاك والعنف، أم ثقافة أخرى؟؟ ومن هذا الذي يملك الحق في انتاج ثقافة واحدة لينمط باقي البشر عليها، ومن هذا الذي يملك الحق في البت في المسألة أساساً، أم أن الأمر سيكون متروكاً للقوة العسكرية والنفوذ الاقتصادي.. وعندها، فأية ثقافة وهوية يمكن أن تنتج؟
في عالمنا المعاصر يمكن رصد كم من الظواهر التي تحتاج الى تأمل عميق يصيب كل المجتمعات وليس مجتمعنا العربي وحده: ظاهرة التكلم بأكثر من لغة واحدة، أو ما يعرف باللغة الثانية جنباً الى جنب مع اللغة الأم، وظاهرة الدراسة خارج الحدود الوطنية في معاهد وجامعات أجنبية، وظاهرة التلفاز والانترنت التي اقتحمت حياتنا دون استئذان بحيث أصبحت تحتل جزءاً كبيرا من أوقاتنا وأوقات الأطفال والشباب قبل الكبار مع كل ما تحمله لهم في طياتها من تأثيرات ثقافية وصناعة للخيال وللصورة عن الذات والعالم، وللقيم المختلطة والمتفاوتة.. ربما تكون هذه هي المرة الأولى على الصعيد البشري الذي يتلقى فيها الإنسان منذ طفولته هذا الكم الكبير من القيم والثقافات المختلفة في مراحل عمرية مبكرة ومتفاوتة. وظاهرة انتشار الكتب الأكثر مبيعاً على نطاق عالمي وترجمتها الى مختلف اللغات وصدورها ونشرها في وقت واحد. وحتى عالم التسلية والترفيه بات معولماً بطريقة أو بأخرى.. برامج التلفاز المنوعة بات يتم استنساخها بأكثر من لغة حتى دون مراعاة لمعايير المجتمعات المختلفة القيمية، كما هو الحال في برامح السوبر ستار ومن سيربح المليون وما سواها. وتحت سقف معايير الجودة العالمية ووحدة النمط يكاد كل شيء يتشابه: المطاعم والمطارات والمقاهي والفنادق والأسواق والبضائع.. وكما في لبنان والعالم العربي، كذلك في كل مكان: وداعاً للفلافل واللحم بعجين وأهلاً بالهمبرغر والبيتزا.. حتى ألعاب الأطفال لم تعد تعبر عن حاجات النمو الاجتماعي والثقافي بقدر ماهي أصبحت استهلاكاً واستنساخاً لما تنتجه الأسواق.
ورغم ذلك فإننا، نحن البشر، مختلفون. بطريقة ما لا يزال هناك في داخلنا ما يرفض أن يصبح "مواطناً عالمياً"، وتدخل ذواتنا في صراع. نحن نتواصل، نتفاعل، نتبادل، والأهم أننا "نذوب وطنياً" denationalized. ورغم هذا التشابك العالمي بفعل أجهزة الاتصال والتواصل، غير أن جريان المعلومات والناس والتأثيرات لا يزال يصطدم بحدود ما. في مرحلة ما بعد الحداثة، لم تعد المجموعات التي تكون مجتمعا ما معرّفة ومحددّة بدقة. فالحدود باتت منفتحة والثقافات العالمية والمحلية قد أضحت محاصرة من القوى المعولمة وتفرض عليها الدخول في عملية تأقلم إحداها مع الأخرى. والدليل على ذلك ما توصل إليه الكثير من المختصين في شؤون التفاوض على حل النزاعات الإقليمية من أنه بات لزاماً التعامل مع القلق حول الهوية كأحد أبرز عوامل النزاعات.
لا أدعي تقديم إجابات عن كل هذه الأسئلة.. ولكنني آمل أن أستطيع طرح الأسئلة المناسبة في الموضوع، بالارتكاز الى مجموعة من الدراسات والأبحاث التي تم نشرها مؤخراً حول تأثير العولمة الكوني على مختلف نواحي الحياة الثقافية وتشكيل هوية الفرد والمجتمعات، بدءاً من اللغة، والأدب، والتلفاز، والقيم، وحتى المشاعر والأحلام والأمنيات، وصولا الى تشكيل صورة للذات وللآخر..
ومجموعة المقالات هذه تطمح الى طرح الأزمة في أبعادها الحقيقية أكثر مما تستبطن تقديم حلول جاهزة ومعلبة.. وكنت قد استعنت فيها بدراسة رائدة أعدتها الجامعة الأوروبية تتناول ثلاث محاور:
المحور الأول: ما الذي يجعل الثقافات مختلفة إحداها عن الأخرى.
والمحور الثاني: نظرة عامة للاتجاهات ذات التأثير العميق على الثقافات والتلاقي الثقافي، ولا سيما تلك التي سهلت ظاهرة العولمة وانبثاق ثقافة كوزموبوليتية.
أما المحور الثالث فينظر في العملية التي يصبح الفرد من خلالها موضوعاً للتواصل البيني الثقافي وكيف يؤدي ذلك الى تأقلم "التغيير (الانزياح) الثقافي" في بيئته. بالطبع لن أقدم الدراسة كما هي، وإنما كأحد أبرز الدراسات التي أرتكز عليها لأفتح نقاشاً بعد تبيئتها.