الانتخابات
الفرنسية، وقبلها الألمانية |
ميخائيل عوض
بيروت 10-5-2007
أزمات
الدول الأوروبية خاصة القاطرة للاتحاد بدأت تضرب بقوة وعنف، فبعد الانتخابات
الألمانية التي أنتجت توازنا قلقا في الإدارة، وأدت إلى تشكيل حكومة متوازنة وغير
منسجمة جاءت الفرنسية تنتج انتصارا لساركوزي ممثل الليبرالية الفرنسية، المتأثرة
إلى حد كبير بمجموعة الصقور في أمريكا، انتصارا بفارق بسيط من الأصوات لتدلل على
وجود توازن قلق في المجتمع الفرنسي، وتكشف عن انقسام حاد وعن نسبة مشاركة شعبية في
صناديق الاقتراع غير مسبوقة في دلالة على عمق الانقسام من جهة، وانخراط المجتمع
الفرنسي بأغلبيته فيه.
التوازن القلق والرجراج يضرب في فرنسا وفيه دلالات عميقة، عما تعاني منه أوروبا.
كما في الألمانية كذلك في الفرنسية احتلت المشكلات الداخلية، والخيارات الاجتماعية، والسياسات الخارجية والعلاقة مع أمريكا، والموقف من بؤر التوتر والصراعات الدولية والإقليمية الدور الأبرز في تحديد نتائج الانتخابات ورسم طبيعة المشاريع والاختلافات.
الأزمات الاقتصادية، المعبر عنها برحيل رؤوس الأموال والشركات الكبرى، وتراجع القدرة التصديرية، والأزمات الاجتماعية المتفاقمة بزيادة أعداد العاطلين عن العمل، وعجز الموازنات عن تحمل أعباء الخدمات الاجتماعية وشبكة الأمان ورواتب المتقاعدين والعاطلين عن العمل، إلى ما ينتظر البلدين من خطر انفجار فقاعة التقاعد وأكلافها مع مجتمعات شائخة، ومتناقصة في ثروتها البشرية، تضع نفسها على جدول أولويات الإدارات وبرامجها، واهتمامات الجمهور وانحيازاته.
عجزت ميركل عن وضع برنامجها موضع التطبيق العملي في الداخل بسبب التوازن واختلاف الخيارات حديا بين قواها السياسية النافذة وعجزت عن لعب دور في قيادة الاتحاد الأوروبي هجوميا على تمايز مع المشروع الأمريكي في المنطقة العربية والعالم، وفي التناقضات المتصاعدة مع آسيا وروسيا وتحول الصراع على الدرع الأمريكي الصاروخي في أوروبا إلى أزمة جديدة ذات أبعاد خطيرة على الاتحاد وعلى ألمانيا نفسها.
ما أصيبت به ألمانية يجر نفسه على فرنسا، وهما الدولتان المؤسستان والقائدتان لأوروبا الغربية وعندما تدخلان في مرحة انتقالية طويلة، تنعطب قدراتهما على قيادة أوروبا وأخذها مسافة استقلالية عن أمريكا ومشاريعها، وهي في طور التداعي والانهيار.
تبدو نتائج الانتخابات مفاجئة أو تثمر في غير موسمها وما كان يفترض أو يجب بالمقارنة مع الحقبة التاريخية العالمية وسماتها، فالصقور الأمريكيون يتساقطون بسرعة فلكية في أمريكا، وبقايا إدارتهم المتصدعة والمنتهية الصلاحية تتعرض لهجمات شرسة في المجتمع الأمريكي ومن المؤسسة الحاكمة بسبب إخفاق سياساتها الليبرالية وآثارها التدميرية في الاقتصادي الأمريكي وما خلفته من كوارث وانهيارات تضع أمريكا على اثر انفجار فقاعة العقارات على أعتاب أزمة ركود يشبهها المتابعون والخبراء بأزمة عام 1929، والسياسات المغامرة والحمقاء في العالم أدت إلى انهيار موقع أمريكا كقائد متفرد للعالم وأسهمت في إنتاج عالم متعدد القطبية، كما أطلقت يد آسيا وحولتها إلى مركز القوة الاقتصادية الأكثر هيمنة في الاقتصاد العالمي، ناهيك عما جرى في أمريكا اللاتينية والكاريبي من تحولات معاكسة ومتصادمة مع الليبرالية ووصفات تفاهم واشنطن وثلاثي الهيمنة الامبريالية صندوق النقد والدولار ومنظمة التجارة العالمية.
في بيئة تتساقط فيها وصفات الليبرالية وتنهار استراتيجياتها وإيديولوجيتها وفي بيتها الأول أمريكا وحديقتها الخلفية، يكون مفاجئا أو معاكسا للاتجاه أن تنتصر ذات الرؤية في فرنسا وألمانيا ذات الطابع الاجتماعي ومنتجة اقتصاد السوق الاجتماعي ورائدته.
الليبرالية الفرنسية القادمة لحكم فرنسا مع ساركوزي تبدأ رحلتها من حيث انتهت التجربة العالمية، أي من نقطة السقوط ومن غير المجدي سعي فرنسي لإعادة إحيائها، بالقدر الذي تحمله من دلالات على أزمة فرنسا الداخلية واختلالاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
انتصر ساركوزي لأسباب شتى بينها ما هو تقني وإداري، وما يرتبط بشخصه والكاريزما وما يرتبط بعجز اليسار وأزمته وفي أولها افتقاده لبرامج مختلفة، وتردده في تبني أطروحات ورؤية جذرية وبسبب كون اليسار الفرنسي والحزب الاشتراكي نفسه ارتكب خطأ قاتلاً خلال العقد المنصرم من خلال تبنيه لخط اليمين وشعاراته وانمحاء الحدود بين اليسار واليمين ما وفر لساركوزي القدرة على جذب اليمين الأكثر تنظيما، والأكثر وضوحا في برامجه وقد استفاد ساركوزي من الحملة على الإسلام، وعلى المهاجرين ومن المشكلات التي تفجرت في ضواحي المدن الفرنسية.
يواجه ساركوزي معضلات كثيرة، وتنتصب في وجه مشروعه عناصر ممانعة قوية ليس من السهل تجاوزها أو الالتفاف عليها، فالشعب الفرنسي حيوي، ونشط، ومنتج بإبداع للكثير من الحركات والأفكار والنظريات، والفرنسيون هم من اسقطوا دستور الاتحاد الأوروبي بسبب ليبراليتيه ليس إلا، وهم من أطلقوا ظاهرة مقاومة العولمة، وهم أيضا من نجحوا في تأسيس النظم الأكثر ديمقراطية في العالم، وقرروا أن الرأي العام والشعب قادر على التأثير في سياسات النخب الحاكمة.
الفرنسيون خلال النصف الثاني من القرن الماضي سبقوا في إلزام قيادتهم ومنها التاريخية بعدم الانجرار خلف الهيمنة الأمريكية، فقد سجلت فرنسا موقفا نوعيا بعد العدوان الإسرائيلي على العرب في حرب 1967 وقطعت صادرات السلاح لإسرائيل، وهم من اسقطوا قائدهم محرر فرنسا، الجنرال ديغول، وهم من اعترضوا وانسحبوا من تحت المظلة النووية الأمريكية، وهم من انسحبوا وتمردوا على الأطلسي بسبب قيادة أمريكا له، وثورتهم الطلابية عام 68 أحدثت تغييرات نوعية في السياسات الفرنسية الخارجية والداخلية، وهم أنفسهم عبر التحالف بين الطلاب والعمال اسقطوا محاولات شيراك تمرير قانون ليبرالي للعمل.
فرنسا الشعبية حيوية، ونشطةِ، ومن غير المنطقي أن تؤخذ بضربة انتخابات تنتج إدارة ليبرالية في غير أوانها وبفارق محدود من الأصوات وهذا ما تقوله الأحداث التي تشهدها المدن الفرنسية منذ اللحظة التي أعلنت فيها النتائج وتستمر.
ساركوزي نسخة منقحة وأكثر أمريكية من نسخة شيراك، وبلير، وفي الكثير من السياسات ستكون مجرد استمرار أوضع وأكثر سفورا غير أن الزمن تغيير كثيرا ولم يعد زمن السابقين.
الالتحاق بإدارة بوش وهي تهوي وتتصدع غير التحالف معها وهي حاكمة قوية وجبارة، واعتماد الليبرالية وهي تذوي عالميا غير ركوب موجتها الصاعدة، والتحالف مع إسرائيل وهي مهزومة ومرتبكة وعاجزة غير التحالف معها وهي قوة صاعدة وقوية قادرة على تخديم المصالح الاستعمارية والانخراط في الحرب على العرب والمسلمين وهم في طور الانتصارات، والقوة الأمريكية في طور التداعي أمر يحمل فرنسا أكثر مما تحتمل ويضعها في الخلف وعلى المؤخرة. فهل تقبل؟
فرنسا وألمانيا المعطوبتان في إدارتهما والمرتبكتان في بيئتهما الداخلية غير قادرتين على قيادة مشروع الاتحاد وتطويره وأخذه مسافة عن المشروع الأمريكي المأزوم، وغير قادرتين على الاستثمار في أزمة انحسار الهيمنة الأمريكية وفي بيئة عالم متغير يتشكل متعدد الأقطاب ويشهد صعود الإقليمية الجديدة.
هل تكون الانتخابات الفرنسية مؤشرا على انشغال فرنسا بأزماتها وانحسار قدرتها المحدود أصلا على التدخل في الشؤون العالمية والإقليمية؟ على الأغلب هذا ما سيكون.
فرنسا وألمانيا التي تقودها الليبرالية بعكس هوى ومصالح شعوبها هل تستطيع انجاز وتطوير الاتحاد الأوروبي؟ أمر مشكوك فيه.
في جميع الأحوال، وبالتقاطع مع الجاري في بريطانيا واحتمال أن تنتج الانتخابات المزمعة ما أنتجته في ألمانيا وفرنسا، ليصبح الثلاثي القائد معطوبا، ويغرق الاتحاد الأوروبي في معالجة أزمات بلاده القائدة.
هل تنجح ايطاليا اليسارية التي أسقطت برلسكوني الليبرالي، واسبانيا التي تحررت من الإدارة الليبرالية وأسقطت أزنار حليف بوش باكرا في التحول إلى قوى قائدة للاتحاد الأوروبي؟ هذا ما قد تكشف عنه الأيام والسنوات القادمة.
المؤشرات كلها تفيد بأن أوروبا وإدارتها صارت مرتبكة ومنشغلة في الداخل مما يوفر فرصة إضافية للعرب والمسلمين يمكنهم الاستثمار فيها إن أرادوا واتحدوا.