الولايات المتحدة على أبواب ركود كبير

غالب أبو مصلح
عين كسور في 21/5/2007


   هل تقف الولايات المتحدة على أبواب ركود كبير؟ هذا هو السؤال الذي يشغل بال الأميركيين اليوم. فبعض المحللين الإقتصاديين يعمد إلى التذكير بالركود الكبير الذي شهدته الولايات المتحدة سنة 1929، وامتد لحوالي عقد من الزمن، ولم تستطع الخروج النهائي منه إلا إبان الحرب العالمية الثانية، عندما نما الطلب بمعدلات عالية على الإنتاج الأميركي، وخاصة الإنتاج العسكري منه، مما سبب فورة إقتصادية كبيرة.

   في الركود الكبير، إنخفض الناتج المحلي القائم للولايات المتحدة من 98.4 مليار دولار في سنة 1929، إلى نصف هذا المبلغ بعد ثلاث سنوات، أي لسنة 1932. وإنخفض حجم السلع الصناعية المنتجة إلى ربع ما كانت عليه في سنة 1929. وخسر 15 مليون عامل وظائفهم، ولم يكن لديهم أية موارد أخرى يعيشون منها. وكذلك إنخفضت قيمة الصادرات الأميركية من 5.24 مليار دولار إلى 1.61 مليار. وبما أن الإقتصاد الأميركي كان أكبر إقتصاد في العالم، فإن إنهياره أدى إلى تعميم الركود الإقتصادي في معظم دول العالم الأخرى، وخاصة الدول الصناعية. وبالتالي، فقد إنهارت التجارة العالمية أيضا، ولكن بنسب أقل من إنهيار التجارة الخارجية الأميركية. فقد إنخفض نصيب الولايات المتحدة من التجارة العالمية من 13.8% سنة 1929 إلى أقل من 10% في سنة 1932.[1]  

  وشهدت الولايات المتحدة إنهيار السوق المالية، وإفلاس العديد من الشركات والمصارف، وإنتحار العديد من رجال الأعمال. فهل يعيد التاريخ نفسه في بدايات القرن الواحد والعشرين؟ العديد من المحللين الإقتصاديين يقرون بإمكانية حدوث ركود كبير، ولكن ليس بحدة وعمق ركود الثلاثينات من القرن الماضي، ولأسباب عديدة. يقولون إن حدة الركود وإستمراره لمدة طويلة كان، بشكل أساسي، بسبب السياسات النقدية والمالية الخاطئة في ذلك الحين، والتي فاقمت الوضع سوءا بدل التخفيف من حدته. ويقولون إن الإقتصاديين الأميركيين تعلموا الدرس طبعا. فقد تطورت السياسات النقدية والمالية القادرة على تفادي الركود أو التخفيف من حدته ومداه. ثم إن الإقتصاد الأميركي اليوم شديد التعقيد والتداخل مع إقتصادات العالم الرئيسية، وخاصة بسبب العولمة ومدى سيطرة الشركات الجبارة المعولمة على الإقتصاد العالمي. وهذا يخفف من آثار الركود في السوق الداخلية الأميركية، مع إستمرار النمو في الأسواق الأخرى. ثم إن العديد من الإقتصاديين يعتقدون أن التوقعات تصنع بعض السلوك الشعبي وتلعب دورا أساسيا في إحداث الركود أو تجاوزه. وهنا، فإن لوسائل الإعلام دور أساسي في كبح الركود أو التخفيف من حدته. ودور وسائل الإعلام الأميركية كبير جدا في صناعة الرأي العام كما في صناعة التوقعات. أما الإحصاءات، فيمكن دائما ليّها وإخراجها بشكل يتناسب مع رغبات الطبقة المسيطرة ومصالحها. وبالتالي، فإن الركود، وإن حصل، لن يكون بالعمق والحدة والدوام الذي حدث في الماضي.

   ولكن هناك آراء أخرى مختلفة، ولا تعيد الركود بشكل أساسي إلى خطأ السياسات النقدية والمالية التي تم تطبيقها فقط، بل أيضا إلى ظهور تشوهات في بنية الإقتصاد، وتفاقم هذه التشوهات، وظهور فقاعات كبيرة نتيجة المضاربات، مما دفع الإقتصاد الأميركي إلى إنفجار هذه الفقاعات، ودفعه إلى الركود. في هذا السياق، يقول Paul Alexander Gusmarino أن هناك تشابهات عديدة بين مرحلة ما قبل الركود الكبير، ومرحلتنا الحالية: "إن الركود الكبير كان أكبر إنهيار إقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة، والذي إنتشر فعليا إلى كل البلدان الصناعية... إن المضاربات الزائدة في أواخر العشرينات أبقت السوق المالية مرتفعة بشكل إصطناعي، ولكنها قادت في النهاية إلى إنهيارات كبيرة في السوق. وهذه الإنهيارات، ممزوجة بتوزيع غير عادل للثروة، قاد الإقتصاد الأميركي إلى الإنهيار."[2]

   فقد نمت الفروقات في المداخيل بين الأثرياء والطبقة المتوسطة بشكل كبير في العشرينات من القرن الماضي، فقد إرتفع معدل دخل الفرد بين سنتي 1920 و1929 بنسبة 9%، ولكن إرتفع دخل شريحة الواحد في المئة العليا من السكان بنسبة 75%. وبين سنة 1923 و1929، إرتفع معدل إنتاج العامل بنسبة 32% في الصناعة، ولكن معدل الأجر لهذا العامل إرتفع بنسبة 8% فقط. وإرتفع معدل الإستهلاك بالدين بنسب عالية. وساهمت الحكومة الفيدرالية بتوسيع الهوة الإقتصادية بين الأغنياء والطبقة المتوسطة، عبر تخفيض الضريبة الفيدرالية على الدخل والإرث بشكل كبير. وألغى مجلس القضاء الأعلى قانونية الحد الأدنى للأجر. وبالتالي إرتفع نصيب الأرباح على حساب نصيب الرواتب والأجور من الناتج المحلي القائم. ولإبقاء الطلب مرتفعا_ وكان الطلب وما يزال قاطرة النمو الإقتصادي الأميركي_ تم تسهيل الإستدانة عبر معدلات الفوائد المنخفضة جدا، وعدم التشدد في الإقراض للزبائن الأقل ملاءة. فقد مثل دخل ثلاثة أرباع السكان الأدنى دخلا، أقل من 45% من الدخل الوطني العام، بينما مثل نصيب الـ25% الأعلى دخلا، أكثر من 55% من الدخل الوطني، وذلك بين سنتي 1925 و1929. كما إرتفعت الديون الكلية بأكثر من الضعف، من 1.38 مليار دولار إلى حوالي 3 مليارات دولار. وولدت الهوة الكبيرة في توزيع الدخل فقاعات مضاربة كبيرة وإزديادا مستمرا في الإنفاق بالدين.[3]

   وإذا ما كانت الظواهر الإقتصادية والإجتماعية المذكورة أعلاه هي الأسباب الأساسية للركود الكبير في ثلاثينات القرن الماضي، فإن الإقتصاد الأميركي يشهد في الوقت الحاضر تجمع هذه العوامل بشكل كثيف، كما تجمعت في العشرينات من القرن الماضي قبل الركود الكبير وأدت إليه، وذلك بجانب مؤشرات أخرى، أهمها أن الإقتصاد الأميركي في العشرينات كان في مرحلة صعود مستمر، ويشهد نموا يفوق نمو الإقتصادات المنافسة للدول الرأسمالية الأخرى. ولكننا نجده اليوم في تراجع نسبي وكحصة من الناتج العالمي. وفوق ذلك، فإن نمو الإقتصاد الأميركي اليوم ليس كله نموا حقيقيا. وكما تقول مجلة الـEconomist، مقارنة النمو الإقتصادي الصيني بالنمو الإقتصادي الأميركي: "إن ثروة الصين المتنامية، مبنية على خلق ثروة حقيقية... ولا يمكن القول ذاته عن كل ثروة الولايات المتحدة المولدة من السوق الرأسمالية Stock Market أو من الفقاعة العقارية." وتقول المجلة أن أشخاصا عديدين حول العالم، وخلال السنوات الماضية، وجدوا من الأسهل عليهم كسب الأموال من إرتفاع أسعار الموجودات، بدل كسبها من العمل. إن إرتفاع أسعار الأسهم في أواخر التسعينات في أميركا، رفع حصة مالكي المنازل الأميركيين بمبلغ 7 تريليون دولار خلال أربع سنوات، وذلك يعادل مداخيل سنتين من الوظائف، دون أن يكلفهم ذلك أي جهد. ولكن قسما كبيرا من هذه الثروة وهمي.[4]

 

 

المضاربات

 

   إن المضاربات الحادة أصبحت إحدى سمات النظام الرأسمالي في مرحلته الأكثر إحتكارية وعولمة كنتيجة للتراكم الهائل لرؤوس الأموال في العالم، والتي لا تجد لها مجالا للتوظيف في قطاعات الإنتاج الحقيقي. فالرأسمالية لا تنتج بغية تلبية الحاجات الإستهلاكية لمن ليست لديهم القدرات الشرائية. وبالتالي نجد أن أكثر من نصف سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر، بينما تحجم الرأسمالية عن زيادة إنتاجها لتلبية الحاجات الضرورية لهؤلاء. وكما يقول John Stratchy، "إن الإتجاه الحتمي لإقتصاد إحتكاري (Oligopolistic) يتألف من شركات عملاقة، هو نحو مزيد من اللامساواة ومزيد من عدم الإستقرار".[5] ووجود فائض كبير من رؤوس الأموال يفيض عن الطلب، يؤدي إلى إنخفاض مردودها. وذلك ما لا تقبله الرأسمالية في مرحلتها الراهنة بشكل خاص. وبالتالي، فقد نجحت الرأسمالية في خلق فضاء خاص تدور فيه الرساميل بعيدا عن حركات الإنتاج وتبادل السلع كما إنتاج الخدمات الضرورية للمجتمع. فقد تحول قسم كبير من رؤوس الأموال الفائضة إلى المضاربات. بل إن الرأسمالية في مرحلتها الراهنة حولت العالم كله إلى "كازينو"  كبير. في شهر نيسان_ أبريل من سنة 2004 أعطى بنك التسويات الدولية "BIS" صورة عن وضع الأسواق المالية، وقال إن العمليات اليومية في أسواق المشتقات Derivatives بلغت 1.2 تريليون دولار يوميا، وذلك يزيد بمعدل 77% عن ما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، وتبلغ سبعة أضعاف ما كانت عليه سنة 1995. وأن التجارة في مشتقات القطع الأجنبي تضاعفت منذ سنة 2001، ولكن مشتقات أسعار الفائدة بلغت أكثر من تريليون دولار.[6] أما الأسباب التي نمّت هذه المضاربات منذ بداية السبعينات من القرن الماضي، فكانت إسقاط النظام النقدي العالمي من قبل الولايات المتحدة، نتيجة العجز المتزايد في ميزانها التجاري وفي حساب المدفوعات الجاري أيضا، مما خلق إضطرابا كبيرا في أسعار الفائدة كما في أسعار صرف العملات الرئيسية وغير الرئيسية في دول العالم. وأدى إرتفاع مخاطر أسعار الصرف والفوائد إلى نمو ظاهرة التحوط Hedging ضد هذه المخاطر. ووصلت عملية التبادل وعمليات المقايضة Swap على العملات إلى 1.9 تريليون دولار في اليوم. وهذه الأرقام قد إزدادت بمعدلات مرتفعة جدا خلال السنوات الثلاث المنصرمة. وتقف صناديق التحوط العالمية بشكل أساسي وراء هذه المضاربات المتصاعدة.

  فالنظام الرأسمالي العالمي في مرحلته الإمبريالية الجديدة، مرحلة سيطرة وإحتكار الشركات المعولمة العملاقة، ولد الكثير من الإضطرابات وعدم التوازن في الأسواق المالية والنقدية والعقارية وخلق بضائع وإبتكر أسواق جديدة للإستفادة من هذه الإختلالات والإضطرابات. وعبر هذه التطورات الهائلة في الأسواق، في البضائع التي يتم إبتكارها، وكذلك بسبب إعادة إقتسام القيمة المضافة بين العمل ورؤوس الأموال، لصالح رؤوس الأموال، إستطاعت الرأسمالية إبقاء مردود رؤوس الأموال مرتفعا، بل  وهو يزداد إرتفاعا في الوقت الراهن. وعلى سبيل المثال، فقد بلغ معدل المردود السنوي لـGlobal Equities خلال سنة 2006 18%. ووصل نصيب أرباح الشركات من الناتج المحلي القائم في أميركا أعلى نسبة له منذ سنة 1950.[7] ولكن على المدى الطويل، لا تستطيع الأرباح، أو العائد على التوظيف، أن تكون أعلى من معدل نمو الناتج المحلي القائم بالأسعار الجارية كما تقول مجلة الـEconomist.[8] وبالتالي، فإن هذه المعدلات المرتفعة لأرباح الشركات، لا يمكن الحفاظ عليها على المديين المتوسط والطويل. فإن هذه المعدلات المرتفعة تخلق تشوهات إقتصادية وإختلالات إجتماعية وفقاعات في الإقتصاد لا بد وأن تنفجر.

  ثم إن النظام الرأسمالي بمنطقه الخاص وآلياته، وضع أهدافا وقيما شبه ثابتة لإدائه، وأصبح أسير هذه القيم والمفاهيم. فنجاح أي نظام أو حكم يقاس أولا بمعدل النمو الإقتصادي الذي يحققه. إن الحكومات تتغير وتتبدل كل بضع سنوات في البلدان الرأسمالية الأساسية. وأصبح هم هذه الحكومات والأحزاب الحاكمة تحقيق معدلات نمو إقتصادي مرتفع، ولو على المدى القصير، بغية تمكينها من البقاء في سدة الحكم، ولو كان هذا النمونموا غير مستدام. وكذلك الشركات، وخاصة رؤساء مجلس الإدارة فيها، فإنهم يسعون إلى إرضاء حملة أسهمها عبر إبقاء أسعار الأسهم مرتفعة، وتزداد إرتفاعا بإطّراد، ولأن رواتب هؤلاء وبقائهم في مراكزهم أصبح مرتبطا بقدرتهم على رفع أسهم هذه الشركات. وبالتالي، فإن الحكومات كما رؤساء إدارة الشركات ينحون فقط إلى التخطيط على المدى القصير والمتوسط، ولو على حساب المستقبل.

   ولتحاشي الركود مثلا، تعمل الحكومة الأميركية على خفض معدلات الفائدة الحقيقية، إلى دون الصفر، تشجيعا للتوظيف والإستهلاك، وخاصة الإستهلاك الذي يعتمد عليه التوظيف. وبما أن الإستهلاك يشكل قاطرة النمو الإقتصادي الأميركي، فإن تشجيع الإستهلاك يتم عبر رفع القدرة الشرائية للفئات الشعبية. ولكن منطق الشركات في عصر الرأسمالية الأكثر إحتكارا وعولمة يؤدي إلى خفض الأجور لمصلحة زيادة الأرباح، وبالتالي إلى تقليص القدرة الشرائية للقوى العاملة، أو رفعها بمعدلات تقل كثيرا عن متطلبات نمو الإستهلاك. وتعمد الحكومة في هذه الحال إلى خفض الضرائب على توزيع أرباح الشركات من ناحية، وتسهيل طرق الإستدانة بغية رفع معدلات الطلب الداخلي لإبقاء معدلات النمو مرتفعة ولو إلى حين.

   وعندما تتجه رؤوس الأموال الفائضة إلى المضاربة، وتخلق ثروات إفتراضية وغير حقيقية، عبر رفع أسعار الأسهم في السوق المالية وعبر رفع أسعار العقارات، فإنها تخلق شعورا مزيفا بالثراء لدى الجمهور، وبالتالي إتجاها إلى زيادة الإنفاق على حساب الإدخار الذي تنخفض معدلاته. وزيادة أسعار العقارات والمنازل، يمكن الأميركيين من رفع معدلات الرهن على منازلهم، أي رفع إستدانتهم وإنفاقهم، فيبقي ذلك معدلات النمو الإقتصادي الوهمي مرتفعة. ويكون هذا الأمر لمصلحة المدراء العامين وأعضاء مجالس إدارة الشركات، كما لمصلحة الحزب الحاكم. ولكن هذه العملية تخلق الكثير من التشوهات الإقتصادية والإجتماعية، ويستحيل إستمرارها إلى ما لا نهاية.

   ففي التسعينات، ونتيجة المضاربات في السوق المالية، إرتفعت أسعار الأسهم بمعدلات عالية جدا. فقد إرتفع سعر السهم بالنسبة لمردوده السنوي إلى أكثر من أربعين ضعف المردود. أما المعدل التاريخي للسعر فلا يتجاوز الـ15 ضعفا، وبالتالي، فإن فقاعة الأسهم التي تولدت في التسعينات قد إنفجرت كما كان متوقعا. ولكن هذا الإنفجار لم يولد الركود الإقتصادي المتوقع، إذ أن نمو فقاعة السوق العقاري خفف من وطأة إنفجار سوق الأسهم وإنعكاسه على الإستهلاك العائلي. إن توظيف الطبقة المتوسطة من الأميركيين في المنازل أكبر بكثير من توظيفهم في السوق المالية، وبالتالي، فإن إنفجار الفقاعة في سوق الأسهم عوض عنه إرتفاع أسعار المنازل. وبذلك إستمر الطلب مرتفعا معتمدا على مزيد من الإستدانة مقابل رفع الرهونات في سوق المنازل. في هذا الخصوص، تقول الإيكونوميست إنه خلال السنوات الخمس 2001-2006 إرتفع ثمن جميع المنازل الأميركية بأكثر من 9 تريليون دولار إلى 22 تريليون دولار. "وهذه المكاسب ساهمت في التعويض عن الإنخفاض في سعر الأسهم، والنمو القليل جدا للأجور. هذه أكبر فقاعة في التاريخ الأميركي." ثم تقول الإكونوميست أن إرتفاع أسعار المنازل نمّى الإقتصاد بثلاث طرق: فقد نمّى قطاع البناء، وجعل الناس تشعر بأنها أكثر ثراءا، وبالتالي شجعتها على مزيد من الإنفاق، وسمحت لأصحاب المنازل بإستعمال ملكيتها كآلة هائلة للحصول على الأموال، بإقتراض الأموال مقابل أرباحهم الرأسمالية. وتقدر ميريل لينش أن هذه العوامل الثلاث مسؤولة عن أكثر من نصف نمو الناتج المحلي القائم في سنة 2005. وإن إرتفاع أسعار المنازل مسؤول عن ثلث عدد فرص العمل التي خلقت منذ سنة 2001 حتى 2006. وتقول المجلة أن إرتفاع أسعار المنازل قد حول الموارد بعيدا عن القطاعات المنتجة ودفع القطاع المنزلي إلى تخفيض نسبة إدخاره، مساهما في زيادة عدم التوازن الإقتصادي.[9]

   وإبقاء معدلات الفوائد جدا منخفضة كان ضروريا لزيادة الإستهلاك، وزيادة النمو الإقتصادي الذي تكلمنا عنه. هذه الفوائد المنخفضة أدت إلى ظهور فوائض كبيرة في السيولة، والتي إنسابت إلى أسعار الموجودات بدل أن تسبب بمعدلات مرتفعة من التضخم. وأدى ذلك إلى مزيد من الإستهلاك عبر مزيد من الإستدانة، وإلى تدني معدلات الإدخار، وإلى زيادة العجز في حساب المدفوعات الجاري. وفي إطار هذا النمو الوهمي للإقتصاد الأميركي، يقول جوزيف ستيغلتز (حامل جائزة نوبل في الإقتصاد ورئيس فريق كلينتون الإقتصادي): "إن إحصاءات الناتج المحلي القائم يمكن أن تكون مضللة جدا. هي لا تقيص أداء الإقتصاد، أو مقدار تحسن أوضاع السكان... نمت الأرجنتين بمعدلات مرتفعة في بداية التسعينات بسبب أساسي، وهو نمو الإستهلاك الممول بالإقتراض الخارجي. ولكن هذا النمو ليس دائما ولا يمكن إستمراره. وكذلك الولايات المتحدة، إنها تقترض بكثافة من الخارج بمعدل ملياري دولار يوميا. ويسكون الوضع مختلفا لو أن هذه المبالغ يتم إنفاقها في توظيفات مرتفعة الإنتاجية. وفي الحقيقة، تم إستعمالها لتمويل مزيد من الإنفاق، وإقتطاعات كبيرة في الضرائب للأميركيين ذوي المداخيل الأعلى." ويضيف ستيغلتز متهكما، "وعندما ينظر إلى الولايات المتحدة من خلال هذا المنظار، لا تبدو الولايات المتحدة جيدة جدا. هناك أبعاد تتفوق بها على الآخرين، مثلا، تفتخر بأن نسبة المسجونين لديها تبلغ عشرة أضعاف النسبة لدى البلدان الصناعية الأخرى، وساعات عمل أسبوعية أعلى، ولديها ضمانات عمل أقل، وضمانات بطالة أكثر سوءا، ونسبة أقل من السكان تغطيهم التأمينات الصحية."[10]

   ويقول تعليق للإيكونوميست: "المدمنون على المخدرات يحصلون على نشوة لمدة وجيزة، وكذلك المدمنون على إرتفاع أسعار الموجودات وعلى الدين، فلا يختلفون عنهم." وتقول أيضا أن ما يعنينا أكثر من أي شيء آخر هو أن أسعار الأسهم لم تعد مجرد مرآة تعكس وضع الإقتصاد، بل أصبحت القوة الدافعة للنمو الإقتصادي بشكل أساسي. فالإرتفاع الكبير لأسعار الأسهم يشجع على نمو الإقراض والإنفاق.[11] فقد إزداد مجمل دين القطاع المنزلي بأكثر من 900 مليار دولار في سنة 2006. ويلاحظ أحد الإقتصاديين الأميركيين بأن الولايات المتحدة تشهد أكبر فقاعة دين في التاريخ. فالدين الكلي للقطاعين العام والخاص إرتفع بمقدار 6.5 تريليون دولار منذ سنة 2000، أي أنه إرتفع سنويا بما يقارب 1.1 تريليون دولار.

   إن الإرتفاع في أسعار الأسهم والمنازل لا يمثل ثروة حقيقية في الإقتصاد ككل، بل يمثل ثروة وهمية، تدفع القطاع المنزلي إلى الشعور بالثراء، وبالتالي إلى زيادة الإنفاق الإستهلاكي، عبر رفع الرهونات على المنازل، أي بمزيد من الدين على ثروة وهمية. في ذلك يقول تقرير البنك المركزي البريطاني إن إرتفاع أسعار المنازل لا يخلق ثروة حقيقية على الصعيد الوطني. فهؤلاء الذين سيشترون منازل سيعانون من خسارة في قدرتهم الشرائية. وبالتالي فإن إرتفاع الأسعار يعيد توزيع الثروة ولا يخلقها. والأمر الأكثر خطورة هو أن أسعار المنازل والأسهم يمكن أن تنخفض، أما الديون فتبقى قيمتها ثابتة. وعلى المدى الطويل، فإن الطريق إلى خلق ثروة حقيقية تتمثل بتخفيض الإستهلاك إلى ما دون مستوى الدخل، وتوظيف المدخرات في موجودات حقيقية تخلق الثروة.[12] فالبنك المركزي الأميركي كان "يطبع" الثروة كما يطبع النقود، ويصف الإقتصادي الأول في Morgan Stanley البنك المركزي الأميركي بأنه "نافخ فقاعات متكررة" بأمواله الرخيصة التي مولت جولة أخرى من الإسراف الوطني، وأنه حمى إنفجار فقاعة الأسهم في قطاع التقنيات العالية بنفخ فقاعة أخرى في قطاع المنازل.

   ولكن هذه السياسات التي إتبعها البنك المركزي الأميركي لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. فلا يمكن لعجوزات حساب ميزان المدفوعات الجاري أن يستمر، إذ لا يمكن للخارج أن يستمر في تمويل الترف الأميركي، الخاص والعام، إلى ما لا نهاية. ولا يمكن للفقاعات التي تولدها سياساته أن تستمر في النمو دون أن تنفجر.

   بدأت الفقاعة العقارية الأميركية بالإنفجار. وذكر تقرير لوزارة التجارة الأميركية أن بناء منازل جديدة تراجع في شهر كانون الثاني 2007 بنسبة 14.3%. وتراجعت أسعار المنازل في نصف الأسواق الأساسية الأميركية. وتراجعت مبيعات المنازل في أربعين ولاية. وأعلنت الوزارة أن عدد المنازل الفارغة إرتفع بنسبة 34% في سنة 2006، إلى 2.1 مليون منزل عند نهاية السنة، وهذا يمثل تقريبا ضعف المعدل الطويل الأجل للمنازل الشاغرة.[13] فواحد من كل ثمانية من المقترضين يتأخر الآن في دفع أقساط قرض منزله. وبسبب إرتفاع معدلات التضخم، أجبر المصرف المركزي على رفع معدلات الفائدة من 1.75 إلى 5.25%. وإنعكس ذلك بشكل حاد على القروض المنزلية ذات الفائدة غير الثابتة. وحسب دراسة Christopher Cagan، أحد الإقتصاديين في مؤسسة First American Corelogic، التي تعمل في القطاع العقاري، فإن 60% من كل القروض ذات الفوائد غير الثابتة التي سيتم تعديل معدل فوائدها، والمعطاة منذ سنة 2004، سيعاد إحتساب الأقساط عليها بحيث ترتفع أقساطها بأكثر من 25%، وخمس هذه القروض سترتفع أقساطها بأكثر من 50%، وقلة من المقترضين ستستطيع تحمل هذه الأعباء. وحسب هذه الإحصاءات، فإن 1.1 مليون رهن منزلي، تمثل 13% من مجمل الرهونات المنزلية ذات الفوائد غير الثابتة، والمعطاة بين سنتي 2004 و2006، والتي تبلغ قيمتها حوالي 326 مليار دولار، سيفقدون ملكياتهم خلال السنوات القليلة المقبلة. والسنة الأصعب ستكون سنة 2008، حيث سيتم تعديل أقساط العديدين من أصحاب المنازل، وقلة من المقترضين ستكون لديهم موجودات حقيقية. ويقول الخبير أن نسبة الدخل إلى ثمن المنازل ما زال 10% أعلى من معدله التاريخي، ونحو 20% أعلى من مستويات آخر هبوط له في بداية التسعينات.[14] وبالتالي، فمن المتوقع أن تشهد أسعار المنازل هبوطا كبيرا في المستقبل القريب، ربما وصل إلى عشرين في المئة من ثمنها الحالي. وبالتالي، فإن نسبة أعلى بكثير من أصحاب الرهونات سيجدون أن ديونهم أصبحت أكبر من أثمان منازلهم، أي أنهم سيملكون موجودات سلبية القيمة. وسترتفع كثيرا خسائر المصارف وشركات الرهن العقاري ونسبة الإفلاسات في هذا القطاع. ففي شهر آذار 2007 أعلن أن 13% من المقترضين في السوق دون الأولى Subprime متخلفون عن دفع أقساطهم، و30 شركة مقرضة في هذه السوق أعلنت إفلاسها خلال الأشهر الثلاثة المنصرمة (حتى الشهر الثالث من سنة 2007)، وأن ذلك يمكن أن يجر الإقتصاد الأميركي إلى الركود.

   يقدر سوق الرهونات العقارية الأميركي بـعشرة تريليون دولار، وتم تشميل وتوريق 75% من القروض في هذه السوق من قبل مؤسسات الرهونات العقارية. فعندما بدأ سوق المنازل بالتباطؤ، خفّضت هذه المؤسسات معايير الإقراض لتحفيز نمو البيع ورفعت نسبة التسليف من قيمة الملكية، وشجعتها المصارف على ذلك. كان موظفوا المصارف جائعين لموجودات ذات مردود مرتفع. والبنوك والوسطاء الماليين Brokers يمكنهم الحصول على عملات سمينة بتجميع وتوزيع المخاطر في السوق.[15] إن عوامل عديدة دفعت إلى نمو المضاربات في سوق الأسهم، ثم في سوق المنازل. وأدت هذه المضاربات الشديدة إلى ظهور فقاعات في هذه الأسواق، كما كان الوضع في العشرينات من القرن الماضي، ولكن فقاعات اليوم أكبر من فقاعات الماضي بكثير. وإذا أخذنا بعين الإعتبار نمو المديونية الشاملة في السوق الأميركية، والتي وصلت إلى 40 تريليون دولار، ونمو عجز حساب المدفوعات الجاري الذي يربو على 850 مليار دولار سنويا، وعجز المالية العامة الذي يقارب نصف تريليون دولار، فإن الوضع الإقتصادي الأميركي يصبح حرجا جدا. ويفتقد المصرف المركزي الفيدرالي إلى أدوات فعالة لمعالجة خطر الركود والإنهيار. فالإقتصاد يتوجه نحو الركود مع التضخم Stagflation. فخفض معدلات الفائدة ليغذي التضخم الذي بلغت معدلاته ضعف المعدل المستهدف من قبل السياسة النقدية. وينحو سعر صرف الدولار إلى الإنهيار أيضا. ومزيد من إنهيار سعر الصرف يؤدي إلى هروب المدخرين الأجانب خاصة، من الدولار إلى عملات عالمية أخرى، مما يؤدي بدوره إلى أزمة تمويل عجز حساب المدفوعات الجاري، والذي يبلغ 2.34 مليار دولار يوميا. أما رفع معدلات الفائدة، فيؤدي إلى تسارع إنفجار الفقاعات في السوق، سوق الأسهم وسوق المنازل، والذي يؤدي بدوره إلى دفع العديد من المصارف ومؤسسات الرهونات العقارية إلى الإفلاس، ودفع الإقتصد إلى إنهيار متسارع وإلى ركود كبير.[16]  كما يؤدي رفع سعر الفائدة إلى تقليص القدرة التنافسية لقطاعات الإقتصاد، فإلى تنامي عجز الميزان التجاري، وإلى تنامي عبىء الدين العام الخارجي وتسارع نمو هذا الدين.

   بإختصار، لم يعد في جعبة الحكومة الأميركية أو المصرف المركزي كثيرا من الأدوات التي تمكن من تلافي المأزق البنيوي ودفعه إلى الأمام مع تكبيره وتعميقه.

 

 

نمو الفروقات في المداخيل وسوء توزيع  الثروة الوطنية:

 

   إن دولة الرفاهية التي شهدتها معظم الدول الرأسمالية الصناعية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي كان "كاينز" المنظر الأساسي لها، بدأت بالتفكك مع دخول الرأسمالية الحديثة في مرحلتها الأكثر إحتكارية وعولمة، منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي، وذلك مع وصول ثاتشر إلى السلطة في بريطانيا في سنة 1979، ووصول ريغان إلى السلطة في أميركا في السنة التالية.

   كان وصول المحافظين الجدد إلى السلطة في هذين البلدين نتيجة وصول النظام الرأسمالي إلى أزمات بنيوية. وكانت مبادىء الليبرالية الجديدة، بدل الكينزية، هي التي مكنت هذا النظام من تخطي أزماته البنيوية ولو إلى حين، وتوليد أزمات جديدة أكثر عمقا من سابقاتها. فقد إستغلت الرأسمالية الجديدة، بمؤسساتها العملاقة المتخطية لكل الحدود الوطنية، وإستغلت الثورات في عالمي الإتصالات والحواسيب، كما في تقدم المواصلات، لتجعل من العالم كله سوقا لمنتجاتها كما لمدخلات الإنتاج التي تحتاجها. وضغطت مراكز النظام الرأسمالي العالمي على كافة دول العالم، وخاصة على دول العالم الثالث، لتفتح أسواقها وتخفض حمايتها لهذه الأسواق، وتشرع أبوابها أمام تدفق السلع والخدمات وحركة الأموال الساخنة وغير الساخنة. كما دفعت مراكز هذا النظام بإتجاه ما تسميه "تحرير سوق العمل"، أي تجريد القوى العاملة من مؤسسات الحماية وإسقاط حقوقها المكتسبة في عهود دولة الرفاهية. وساعدها على ذلك إنهيار وتشظي الإتحاد السوفياتي. كما تم دفع العقائد اليسارية إلى مواقع دفاعية وهامشية في الحياة السياسية والثقافية للبلدان الرأسمالية وحتى في معظم دول العالم الثالث.

   فقد إستطاع النظام الرأسمالي رفع معدل الأرباح مقابل الأجور عبر طرق عدة: بإضعاف العمل النقابي وتهميش النقابات، وإحداث تغييرات كثيرة في القوانين والأنظمة الحامية للقوى العاملة، وإستبدال العمل الدائم بالعمل التعاقدي المؤقت، وتسهيل التوظيف والطرد من الوظيفة. كما عبر قدرته على نقل الإنتاج الإقتصادي أو بعضه إلى حيث الأجور أدنى بكثير، وضمانات القوى العاملة شبه معدومة. كما عبر كبح قدرة القوى العاملة على المساومة في البلدان الصناعية، وذلك عبر فتح هذه الأسواق جزئيا أمام هجرات قوى عاملة من دول العالم الثالث، بعضها مؤهل تأهيلا عاليا، مما ساعد على تخفيض الأجور في قاطاعات التوزيع والبناء والزراعة بشكل خاص.

 

   وبالرغم من إرتباط الأجور بنمو الإنتاجية من حيث المبدأ، فإن الرأسمالية في مرحلتها الراهنة إستطاعت خلال العقود الثلاثة المنصرمة أن تحول زيادة الإنتاجية كلها تقريبا إلى الرأسمال بدل توزيعه بين الرأسمال والقوى العالمة بشكل عادل، وخاصة في مراكز النظام الرأسمالي.

  فالأجر الحقيقي للأميركي العامل، عند منتصف منحنى توزيع الدخل، قد إنخفض بنسبة 4% منذ بداية الإنتعاش الإقتصادي في أواسط سنة 2001 في أميركا، في الوقت الذي إرتفعت إنتاجيته بنسبة 15%. وفي هذا الخصوص، تقول مجلة الإيكونوميست: "إذا كان الناتج المحلي القائم للفرد يرتفع بقوة، فلماذا ينخفض الدخل الحقيقي لمعظم العاملين؟ جزئيا، لأن حصة أكبر من الإنتاج تذهب للأرباح، وجزئيا أيضا لأن أصحاب الرواتب العليا حصلوا على جزء كبير من الزيادة في الدخل، وسبب ذلك نمو عدم المساواة. فواحد في المئة من أصحاب الرواتب الأعلى يحصلون الآن على 16% من مجمل مداخيل الرواتب، إرتفاعا من معدل 8% لسنة 1980".[17] ويقول تقرير آخر أن الهوة في المداخيل بين من هم في قعر السلم ومن في الوسط، إتسعت بحدة في الثمانينات، أي بعد تطبيق مبادىء الليبرالية الجديدة. فالمتساقطون من المدارس الثانوية يحصلون على أجور أقل بمعدل 12% في التسعينات مما كانوا يتقاضونه في الثمانينات. وأصحاب التعليم الثانوي فقط أصبحوا يتقاضون رواتب أقل بـ6% مما كانوا يتقاضونه في الثمانينات. وبينما كانت الثمانينات صعبة على أصحاب المهارات الأدنى، فإن حقبة التسعينات كانت الأصعب بالنسبة لأصحاب المهارات المتوسطة. والإتجاه الوحيد والمستمر في تطور الأجور خلال الـ25 سنة الماضية كان في إرتفاع أجور الذين في القمة. إن حصة الدخل الوطني لـ1% من أصحاب الدخل الأعلى من الأميركيين تضاعف من 8% إلى 16% من سنة 1980 إلى سنة 2004. والدخل الذي يذهب لعشر (1/10) الـ1% الأعلى دخلا تضاعف ثلاث مرات من 2% إلى 7% في الفترة ذاتها. والدخل الذي يحصل عليه الـ1% من أغنى 1%، دخل الـ14,000 من دافعي الضرائب الأعلى دخلا، تضاعف أربع مرات من 0.65% إلى 2.87% من مجمل المداخيل.[18]

  

وفي سنة 2004، قفزت نسبة تعويضات رئيس مجلس الإدارة كنسبة من الأجر السنوي للعامل العادي إلى 431 ضعفا من 301 ضعفا لسنة 2003، وكانت هذه النسبة 225 في سنة 2000 و107 في سنة 1990، و42 لسنة 1982.[19]

   تظهر دراسة لمجموعة "كلاتشي نيوز بيزنس أناليسيس" إستنادا إلى إحصاء أميركي يعود إلى سنة 2005، أن حوالي 16 مليون أميركي يعيشون "في حال فقر شديد". كما إرتفع عدد الأميركيين الذين يعيشون في فقر مدقع بنسبة 26% بين عامي 2000 و2005.[20] وأصبح دخل الأميركيين أكثر تعرضا للإنخفاض، فحوالي 17% منهم يمكن أن ينخفض دخلهم إلى النصف، "بينما العقد الإجتماعي قد إهترأ، وخاصة حيث الشركات تتراجع عن تقديم معاشات التقاعد والضمان الصحي". فحوالي نصف الأميركيين الذين هم في أواخر الخمسينات من العمر ليست لديهم أية مدخرات للتقاعد.[21]

   وذكر تقرير لجنة الموازنة في مجلس الشيوخ الأميركي أنه لا يوجد أي سيناريو للنمو قادر على تأمين موارد كافية لتغطية المستحقات التي لم تدفع بعد_ أكثر من خمسين تريليون دولار_ المتعلقة بتقاعد 75 مليون من فورة الولادات Baby Boomers الذين ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أن 80% من إنفاق الخزينة لا يمكن المساس به، مثل بنود الأمن القومي والفوائد على الديون.[22]

 

  بإختصار شديد، إن مقدمات الركود الكبير الذي إنزلقت إليه الولايات المتحدة في العشرينات من القرن الماضي، يعاد إنتاجه في بداية القرن الحادي والعشرين. فكما في العشرينات، نمت فقاعة الموجودات الحقيقية Equity Bubble والتي لم يتم خلقها بنمو الأجور لتواكب نمو الإنتاجية، بل عبر زيادة المديونية الخاصة. وإنخفض نصيب القوى العاملة من الناتج المحلي القائم إلى معدلات تاريخية، بينما إرتفعت الأرباح بمعدلات مرتفة جدا. ونمت الفروقات الطبقية وإتسعت كثيرا بين مداخيل المدراء ومداخيل العمال والموظفين. يضاف إلى ذلك أن الإقتصاد الأميركي في العشرينات كان إقتصادا صاعدا، بينما هو الآن إقتصاد ينزلق إلى التخلف النسبي ويفقد مقومات نموه الأساسية. فنصيب أميركا من الواردات العالمية إنخفض من 21% إلى 16% خلال السنوات الخمس الأولى من هذا القرن. وإنخفضت الصادرات الأميركية خلال هذه الفترة من 14% إلى 10% من الصادرات العالمية، وأصبحت تمثل 3% من الناتج الأميركي. وفي سنة 1970 كان نصيب أميركا من المجموع العالمي من الطلاب الجامعيين 30%، وإنخفضت هذه النسبة حتى سنة 2005 إلى 12% فقط. وبلغ عجز حساب المدفوعات الجاري أكثر من 6% من الناتج المحلي القائم. وتخفيض هذا العجز بنسبة 2% من الناتج يستوجب خفض سعر صرف الدولار بنسبة 20% كما يقدر أحد الخبراء الإقتصاديين الأميركيين. وبالتالي، ولتصحيح هذا العجز، يجب خفض سعر صرف الدولار بحوالي 60%، ولكن ذلك يعني خروج الدولار من كونه عملة عالمية تبتز به أميركا معظم دول العالم، وهذا ما لا يتحمله الإقتصاد الأميركي.

 

  وفي الوقت ذاته، يتم رفع إنفاق الموازنة، وخاصة إنفاق البنتاغون على حروبه الإمبريالية، وعلى شراء أجيال جديدة من الأسلحة الباهظة الثمن، بدفع من المجمع الصناعي-العسكري-النفطي. فقد بلغ الإنفاق على حربي أفغانستان والعراق حتى نهاية سنة 2006 661 نليلر مليار دولار بالقيمة الحقيقية لدولار الستينات من القرن الماضي، كما تقول مجلة الإيكونوميست. أي أن كلفة هاتين الحربين قد فاقت كلفة حرب فيتنام بالقيمة الحقيقية. وفي الوقت الذي تطالب فيه الولايات المتحدة دول العالم بفتح أسواقها في وجه الصادرات الأميركية، فإنها ترفع حمائية أسواقها الداخلية بأعذار وقوانين شتى. ولا يسمح الساسة الأميركيون للشركات الصينية والروسية والعربية بإمتلاك أكثرية الأسهم في الشركات الأميركية. وأصبحت معدلات حماية الإنتاج المحلي الأميركي تساوي ثلاثة أضعاف معدلات الحماية في دول العالم الثالث. إن أميركا تتجه إلى مزيد من الضعف ومزيد من الأزمات البنيوية، وربما ستتجه قريبا إلى مزيد من الإنغلاق الإقتصادي، وتلك بوادر أفول الإمبريالية الأميركية وسقوطها.

 

 غالب أبو مصلح

عين كسور في 21/5/2007

 

المراجع


[1] Paul Kennedy, The Rise and Fall of the Great Powers, Random House, New York 1987, p.329

 [2] Mike Whitney; The Second Great Depression, Information Clearing House

 [3] Ibid.

[4] The Economist, A Survey of World Economy, October 2, 2004

[5] Paul Sweezy, Modern Capitalism and Other Essays, Modern Reader, New York and London, 1972, p.74-75

[6] The Economist, October 2, 2004

[7] The Economist, January 6, 2007

[8] The Economist, October 2, 2004

[9] The Economist, August 26, 2006

[10] Joseph Stiglitz, Foreign Affairs Vol. 84, no. 6

 [11] The Economist, February 28, 2007

[12] Ibid.

[13] Mike Whitney, ob. Cit.

[14] The Economist, March 24, 2007

[15] Ibid.

[16] The Economist, January 14, 2006

[17] The Economist, A Survey of World Economy, September 15, 2006, p. 14

[18] The Economist, June 17, 2006

[19] The Economist, November 26, 2005

[20] جريدة الحياة، 26/2/2007

[21] The Economist, November 25, 2006

[22] Jeffrey Gorten, The Global Economic Challenge, Foreign Affairs, January-February 2005