عون يطرح ملامح التأسيس لجمهورية جديدة في
مواجهة الأزمة المستعصية |
د. جوزف عبدالله
يتصرف
اللبنانيون جميعاً على قاعدة أن لبنان دخل في أزمة بنيوية مستعصية لم يعد ينفع معها
اعتماد الحلول "الترقيعية". فالمؤسسات الدستورية الناظمة للحكم معطلة وعاجزة عن
الفعل، وباتت بالتالي فاقدة لشرعيتها، أو على الأقل فاقدة لإجماع الاعتراف الوطني
بها. ومن ذلك أن رئيس الجمهورية لا يجمع اللبنانيون على الاعتراف بشرعيته ويقاطعه
فريق منهم كان يدعو إلى إسقاطه: الأكثرية النيابية". ويختلف اللبنانيون اليوم على
شروط انتخاب رئيس جديد خلافاً لا يبدو حله متوفراً حتى اليوم. والحكومة تعيش أزمة
شرعية بخروج مجموعة من الوزراء من صفوفها، وبما تعانيه من ممارسات ليس أقلها
استقالة الوزير السبع وعودته إليها بعد بضعة شهور وكأن شيئاً لم يكن. ورئاسة مجلس
النواب تقاطع "الأكثرية النيابية" على قاعدة رفض التعامل مع قرارات حكومة مبتورة
وغير شرعية ولا تعترف في ممارستها بموقع ودور رئاسة الجمهورية، وبالتالي يغيب
المجلس النيابي عن أي فعل في التشريع والمحاسبة.
و"الأكثرية النيابية" الفاقدة للأكثرية الشعبية والمشكوك بشرعيتها (خصوصاً بتعطيل المجلس الدستوري المطلوب منه النظر بالطعون) تمارس على أساس أن الدولة اللبنانية عاجزة عن إدارة شؤون الوطن في الحكم والقضاء وإدارة الاقتصاد، وتعمل على تفويض المؤسسات الدولية (الأمم المتحدة ومجلس الأمن والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي... حيث تهيمن الولايات المتحدة الأميركية) لرسم وإدارة الشؤون الوطنية من الاقتصاد إلى الأمن مروراً بالقضاء، ما يعني وضع لبنان عملياً تحت وصاية انتداب دولي (أميركي أساساً).
والمعارضة (على شتى أطيافها) تمارس المقاومة المدنية، عبر أطول اعتصام عرفه العالم بوجه سلطة مرفوضة، وتطالب بإجراءات من شأنها إحداث انقلاب جذري يستجيب لطبيعة موازين القوى الشعبية والسياسية، ويؤدي إلى تحول في وظيفة لبنان الإقليمية وفي العلاقة بين المواطنين اللبنانيين. وما تقوم به المعارضة جعل الحكومة و"الأكثرية النيابية" في موقع العاجز عملياً عن الحكم وممارسة السلطة، ولهذا تلجأ هذه "الأكثرية" إلى تفويض السلطات الوطنية ومصير لبنان للخارج الغربي، والاستعانة بأجهزة أمنية وعسكرية وقضائية واقتصادية دولية تابعة للولايات المتحدة في نهاية المطاف.
موقع الأزمة اللبنانية في الصراع على الشرق الأوسط
نخطئ الظن عندما نعتبر الأزمة اللبنانية مجرد شأن لبناني داخلي صرف، ولا علاقة للخارج بمصيرها وباستخدامها، عربياً كان هذا الخارج أو شرق أوسطياً أو عالمياً. ومن هنا لا بد بداية في قراءتنا لهذه الأزمة من تحديد موقعها في سياق الصراع العالمي ("النظام العالمي الجديد") والصراع الإقليمي (النظام الإقليمي العربي والشرق أوسطي).
أن المستوى السياسي اللبناني يتحدد، بمجمله، على ضوء جدل العلاقات (من الصراع إلى التوافق وما بينهما) الدائرة بين النظام الإقليمي العربي (خاصة المشرق العربي، والعراق وفلسطين وسورية تحديداً)، واستطراداً النظام الإقليمي الشرق أوسطي بما فيه إيران (وتركيا لحد ما)، من جهة، والنظام العالمي الجديد (بقيادة الولايات المتحدة وتوافقاتها مع الاتحاد الأوروبي، خاصة فرنسا) من جهة ثانية. وإذا كان هذا الأمر يصح على الكثير من بلدان العالم الصغيرة الحجم والفعالية التي تتراوح التأثيرات الخارجية عليها وفق آليات الصراع والتوافق بين وسطها الإقليمي والوضع الدولي، فإنه في لبنان يتخذ صيغة نموذجية وبالغة التأثير نظراً لطبيعة البنية الاجتماعية والسياسية اللبنانية.
فلبنان يرتبط بالخارج لحد كبير، بحكم تراث وراهن التكوين الاجتماعي لطوائفه، كما بحكم تراث وتكوين بنية أحزابه السياسية ونخبه. من المعروف أن لكل طائفة من الطوائف اللبنانية (وللأحزاب السياسية بدرجات متفاوتة) ميولاً قوية نحو مرجعية خارجية (هي سياسية في نهاية المطاف) تشكل مصدر وحي وتوجيه وحماية للكثير من سياساتها. ولما كانت هذه الميول والمرجعيات السياسية موزعة بين الوضع الإقليمي العربي والشرق أوسطي والوضع الدولي كانت هناك على الدوام، عند كل مفصل أساسي في الحياة السياسية اللبنانية، تناقضات ونزاعات أو توافقات داخلية تعكس مدى التناقض والتوافق أو الصراع بين الوضع الإقليمي والوضع الدولي.
هذا ناهيك عن طبيعة الموقع الجغرافي للبنان بالنسبة للجغرافيا السورية والفلسطينية، ومدى التشابك التاريخي والاجتماعي والتداخل الاقتصادي والسياسي، وما سوى ذلك من علاقات جذب متبادلة (وعلاقات طرد أحياناً) بين لبنان وسورية وفلسطين. وتأثير هذه العلاقات على صياغة الوحدة والصراع في لبنان. فالتداخل السياسي بين سورية ولبنان أمر في غاية الوضوح وحقيقة تاريخية لا يمكن التنكر لها، كذلك هي الحال بشأن التداخل اللبناني الفلسطيني. وليس من العبث القول، تكثيفاً للتاريخ، أن لبنان كان على الدوام (لا سيما في زمن الإمبراطورية العثمانية) محكوماً بالعلاقة مع والي عكا أو والي الشام، ومن حين لآخر كان يُلحظ دور ما "للردع" المصري. وذلك قبل أن تأتي الحرب العالمية الأولى باتفاقية سايكس بيكو لاقتسام "تركة الرجل المريض" (الإمبراطورية العثمانية) بتمزيق وحدة بلاد الشام التاريخية واختلاق كيانات سياسية ما تزال في حال من القلق الدائم.
وإذا كان "الردع" المصري يكاد يكون اليوم معدوماً لانشغال الإدارة المصرية بمواجهة حركة الإخوان المسلمين بعدما خرج النظام المصري من حلبة الصراع العربي الصهيوني والتحق بمشاريع الإدارة الأميركية، فإن الدور السوري (والي الشام) يزداد فعالية على قاعدة موقف الممانعة للمشاريع الأميركية- الأوروبية، وموقف الطموح الدائم لمواجهة مفاعيل سايكس بيكو، بصرف النظر عن الجدية في ترجمة هذا الطموح. بينما ازداد تأثير الموقع الفلسطيني بحكم وجود حوالي 400 ألف فلسطيني يقيمون كلاجئين في لبنان، وباتوا أقرب إلى النسيج الاجتماعي اللبناني، ويمثلون نوعاً من التكثيف لفلسطينيي "خارج فلسطين" الذين يقاربون أربعة ملايين، وذلك بحكم وجود فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في مخيمات اللجوء المتمتعة بنوع من الإدارة الذاتية، وبحكم رفض التوطين (بالمعنى المؤشر لحق العودة) فلسطينياً، ولبنانياً كموقف مبدئي وحرصاً على التوازن الطائفي في لبنان.
ثلاث عصبيات ناظمة للحياة السياسية
ينتظم الاجتماع اللبناني اليوم على عصبيات أساسية ثلاث:
أولاً، العصبية الشيعية المكتملة لحد كبير والمنبنية في (والمعبرة عن) مشروع مقاوم للهجمة الأميركية الصهيونية بالاستناد إلى مرجعية فكرية دينية إسلامية (الشيعية السياسية) وإلى اندراج حميم في معسكر المواجهة الإقليمية (إيران وسورية والمقاومة الفلسطينية) لمشروع الهيمنة الأميركية.
ثانياً، العصبية السنية الباحثة عن هويتها بين: التحول إلى طائفة تغلق على نفسها داخل الكيان اللبناني (لبنان أولاً) الملتحق بمعسكر الاعتدال العربي (السعودية أساساً) والمندرج في المشروع الأميركي (الحريرية، أو تيار المستقبل)، أو العودة إلى مسار أهل السنة والجماعة لمواجهة العدوان على الأمة واسترداد مقدساتها وبناء وحدتها في مشروع الدولة الإسلامية (دولة الخلافة)، أو على الأقل دولة تسترد الأرض والمقدسات وتنتمي إلى العروبة...
ثالثاً، العصبية المسيحية القلقة والمتصارعة في داخلها على رسم دور أو موقع جديد لها وللبنان يصون وجودها واستمرارها في خضم المتغيرات الإقليمية والعالمية.
لا ينفي ما نقوله وجود عصبيات أخرى، كالدروز والعلويين وجملة من الأفراد الخارجين من طوائفهم...
هذا الاجتماع اللبناني يجعل نصاب السلطة السياسية قائماً على التوازن بين هذه العصبيات الأساسية الثلاث. ولما كانت هذه العصبيات على شيء من التكافؤ تستحيل معه غلبة الواحدة على غيرها يستلزم تأمين نصاب السلطة عاملاً خارجياً يضبط التوازنات. ومن هنا تنشأ المسببات الداخلية للأزمة السياسية الراهنة المتراكبة مع تعددية وتناقض العوامل الخارجية: معسكر المواجهة (إيران، سورية، المقاومات) من جهة، معسكر الاعتدال العربي المندرج في مشروع العدوان والهجمة الأميركية الصهيونية، من جهة أخرى.
في خضم هذا التناقض السياسي العام وهذا الاصطفاف الشعبي وهذا الخلل في بنية السلطة برز موقفان على درجة هائلة من الأهمية، ويؤشران إلى اختمار تحولات عميقة من شأنها إحداث تغيير جذري في لبنان ككيان سياسي ونظام حكم. المؤشر الأول تعبر عنه حركية العماد عون (التيار الوطني الحر)؛ وتعبر عن الثاني حركية أهل السنة في لبنان.
حركية مسيحية بقيادة العماد عون
برزت حركية المسيحيين بقيادة العماد عون في لحظة الانتخابات النيابية، عندما قاد العماد معركته الانتخابية بوجه "تحالف البترودولار" (تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية). بينما كانت "القوات اللبنانية" (ومعها "لقاء قرنة شهوان") هي المهيمنة تاريخياً في أوساط المسيحيين، فإن مسار الأمور منذ بضع سنوات، وخاصة في الأشهر الأخيرة قبيل الانتخابات النيابية، عدل موازين القوى، وخلق حراكاً داخل المسيحيين برز بموجبه "التيار الوطني الحر" بوصفه القوة المسيحية الأكثر نفوذاً، بل القوة الممثلة لشرعية المسيحيين باعتراف البطريركية وشتى اللبنانيين والقوى الإقليمية والدولية. وبالمقابل تراجعت "القوات" ومعها شخصيات وأحزاب "لقاء قرنة شهوان" تراجعاً ذريعاً، لدرجة أن نواب "القوات" الستة أتوا محمولين على أكتاف الطوائف الأخرى غير المسيحية، بينما سقطت شخصيات "القرنة" في الانتخابات وفي المركز المسيحي الأساسي.
عون: إدراج المسيحيين في لبنان ومحيطه المقاوم
يكمن إبداع العماد عون و"التيار الوطني الحر" في الصيرورة التي سلكتها الغالبية المسيحية لتعيد صياغة علاقتها بالمكونات اللبنانية، بحيث يكون المسيحيون عنصراً فاعلاً في النسيج اللبناني استناداً لأصالتهم اللبنانية المنطلقة من مشرقيتهم، لا استناداً إلى قوى غربية عملت على تعزيز انعزالهم عن محيطهم. وتم ذلك على مراحل حتمتها تطورات الصراع اللبناني في مواجهة المشروع الأميركي (الغربي) الصهيوني.
المرحلة الأولى: "ورقة التفاهم"
رفض عون الظافر في انتخابات كسروان وجبيل وزحلة نتائج انتخابات بعبدا عاليه. ورفض المشاركة في الحكومة بغير الفوز بتمثيل المواقع المسيحية فيها. ودخل في حوار مع حزب الله انتهى بتوقيع "ورقة التفاهم" التي عجل في إقرارها ما حصل في الأشرفية في الخامس من شباط 2005.
ما حصل في الأشرفية كرس انهيار تحالف 14 آذار السياسي، ونقل الغالبية المسيحية إلى سياق "تعاون سياسي" على قاعدة "ورقة التفاهم" المعلنة بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله".
لقد قام تحالف "14 آذار"، انطلاقاً من الاستثمار بدماء الحريري، ليندرج في المشروع العدواني الأميركي الأوروبي والاستسلام لإسرائيل، واستغفال الناس وتعبئتها طائفياً بوجه طائفة أخرى، والمتاجرة بفقرها بالرشاوى لمزيد من تهميشها. إن هذا المنهج السياسي متفجر من داخله، لكون قاعدته العريضة معارضة في عمقها العاطفي والديني للمشروع الذي يسعى له هذا التحالف، وسينفجر بوجهه في كل لحظة مناسبة.
هذا بينما قام التحالف الثاني، وفق الوثيقة المعلنة، على وضوح في الحدود، لجهة القضايا الوطنية ومعالجتها، ويفتح باباً لبعض المعالجات في المسألة الاجتماعية، ومنها قضية المديونية. والأهم من كل ذلك، أنه استجاب لحاجة وطنية كبيرة، قام "التيار الوطني الحر" بتلبيتها، لجهة توفير المناخ للمسيحيين بحيث يعبروا عن انخراطهم في محيطهم الفعلي ليتشكل موقف لبناني موحد من وظيفة الوطن اللبناني، وكان في ذلك واحدة من أهم ضمانات الوحدة الوطنية، لمواجهة ما يعصف بالمنطقة من مشاريع تفتيتية يحملها مشروع "الشرق الأوسط الكبير". إن هذا التعاون هو بوابة التعبير عن أن المسيحيين استعادوا لبنانيتهم العروبية وباتوا ضمانة لوظيفة لبنان اللبنانية فعلاً من خلال دورهم في رفد مقاومة العدوان.
المرحلة الثانية: دعم المقاومة في عدوان تموز
لعب "التيار الوطني الحر" دوراً مركزياً في احتضان المقاومة سياسياً أبان عدوان تموز، فواجه الأبواق العربية واللبنانية التي نددت بالمقاومة الإسلامية ونعتتها بنعوت "المغامرة". كما لعب دوراً مركزياً، على قاعدة الموقف السياسي، لا على أساس النزعة الإنسانية والمجاملة الوطنية، في احتضان المهجرين من جراء وحشية العدوان. وكان بذلك يدرج عملياً المسيحيين في شراكة وطنية جدية مع المقاومين اللبنانيين وهو مدرك أنهم من البيئة الشيعية التي ترى مرجعيتها الروحية والمادية خارج حدود الكيان من سورية إلى إيران.
المرحلة الثالثة: الانخراط في المعارضة
ثم شكل "التيار الوطني الحر" القطب الثاني الأساسي في المعارضة اللبنانية، خصوصاً في اعتصامها في ساحتي رياض الصلح والشهداء، بغية إجراء التعديل الحكومي، وتصويب السياسة اللبنانية وإخراجها من المشاريع الطامحة إلى تحويل لبنان منصة لخدمة الكيان الصهيوني على حساب المصالح اللبنانية ولتهديد سورية وإيران والمقاومات المواجهة للعدوان الأميركي (الغربي) الصهيوني.
المرحلة الرابعة: إعلان إستراتيجية مسيحية جديدة
تتبلور في الأيام الراهنة إستراتيجية مسيحية جديدة ومبدعة هي على نقيض إستراتيجية الانعزال المسيحي التي لطالما اعتمدتها القيادات المسيحية، لا سيما القوات اللبنانية. فبدل أن يشكل المسيحيون امتداداً لذراع غربية (إسرائيلية، أميركية، أوروبية)، وتبرير ذلك بأن فيه خلاص المسيحيين وضمانة لهم، ما تبين عبر كل التجارب الوطنية أنه مجرد وهم عديم الفعالية، فضلاً عن كونه يشكل خيانة للوطن ولقيم المسيحية بالذات.
وإذا كانت المراحل السابقة لا تخرج عن ملامح هذه الإستراتيجية، فإن المواقف الأخيرة للعماد عون، خصوصاً خطابه في الأول من أيار 2007، خلال لقائه الحاشد هيئة المعلمين في قصر المؤتمرات في الضبية، كشف الخطوط العريضة لهذه الإستراتيجية بكل وضوح.
علامَ تقوم هذه الإستراتيجية؟
- إدراج لبنان في محيطه المشرقي: إن أبرز ما تقوم عليه هذه الإستراتيجية لحماية المسيحيين تكمن في قول العماد عون: "نحن نحمي أنفسنا بالتناغم والتضامن مع مجتمعنا الصغير لبنان، ومجتمعنا الأكبر الشرق، محيطنا الذي نعيش فيه. أتوجه إلى المسيحيين في صورة خاصة، وأقول لهم نحن لم نزرع في هذه المنطقة... لسنا مستوردين والمسيحيون هنا ليسوا برسم العودة إلى أي مكان، هنا جذورنا وهي تسبق الدعوة الإسلامية ب600 سنة، علينا البقاء في هذه الأرض ومشاركة الآخرين الحياة عليها.
مقابل هذه الدعوة إلى التناغم والتضامن مع المجتمع الصغير لبنان والمجتمع الأكبر الشرق، هناك دعوة أخرى إلى رفض "الانسحاق أمام القوى الخارجية... يجب ألا نتبع كالقطيع، ولا أن نكون كصحون الكرتون للاستعمال مرة واحدة والرمي في مكب النفايات. كم مرة حصلت معنا هذه الأحداث منذ 40 سنة حتى اليوم؟".
ولعله غني عن البيان أن المقصود هنا بالتناغم والتضامن مع المجتمع الصغير لبنان، والمجتمع الأكبر الشرق، هو مواجهة عدوان الغرب، لا اللحاق به، وهو إدراج لبنان في سياسة متناغمة ومتضامنة مع الشرق.
- الاتجاه نحو إلغاء الطائفية السياسية: يقول العماد عون: "يجب العودة إلى الشعب عندما تقفل كل المخارج بين المؤسسات الدستورية التي تمارس الحكم... نحن نعود إلى الشعب اللبناني ونطلب منه أن يعطينا رأيه في الخيارات المفروضة علينا اليوم... إذا وجدوا أن هناك تعذراً لقيام انتخابات نيابية، نطرح عند ذاك انتخابات رئاسية من الشعب مباشرة لمرة واحدة، ولن نقبل بأي شكل من الأشكال أن تأتي كلمة السر من سفارة ليصبح لدينا رئيس للجمهورية". دعوة العماد عون هنا هي لممارسة الاستفتاء من الشعب مباشرة، بصرف النظر عن الكلام على أكثرية مسلمة وأقلية مسيحية. وفي مناسبة ثانية في السابع من أيار 2007، يعود العماد عون إلى هذا الأمر بمزيد من الوضوح، بمناسبة اجتماع "تكتل التغيير والإصلاح": "مثلاً يتحدثون عن 60% من المسلمين و40% من المسيحيين، فكم هي مساهمة المسيحيين في الانتخابات في هذا المجلس؟ 16% من الطاقة الانتخابية للمسيحيين انتخبوا النواب، وفي الشمال والجنوب والبقاع هناك ثلاثة نواب من خارج تكتل التغيير والإصلاح يملكون لأكثرية المسيحية في أقضيتهم. من يخاف اليوم ويتكلم عن الصوت المسلم من أن ينتخب الرئيس، فهم وصلوا بقوة الصوت المسلم...". يعني ذلك توجه العماد عون إلى القبول بمبدأ الانتخاب والاستفتاء من الشعب مباشرة، بصرف النظر عن الخلل في أحجام الطوائف العددية. أو على الأقل اعتماد هذا المبدأ في لحظات الأزمات المستعصية الحل، كما هي الحال اليوم.
خلاصة الأمر: يتجه العماد عون إلى الدعوة لأمرين: إدراج لبنان في محيطه العربي المقاوم، ما يعني الدعوة إلى تغيير وظيفة الكيان اللبناني (التناغم والتضامن مع "المجتمع الأكبر الشرق")؛ الدعوة على تجاوز الطائفية السياسية بالعودة إلى الاستفتاء الشعبي المباشر أو إلى انتخابات رئاسة الجمهورية من الشعب اللبناني مباشرة. ومن المعلوم أن المسيحيين كانوا الأكثر معارضة لإلغاء الطائفية السياسية ويواجهونها بالدعوة إلى العلمنة الشاملة، ولو من باب المزايدة. وفي هاتين الدعوتين اتجاه لإجراء تغيير جذري في بنية السلطة السياسية وفي وظيفة الكيان. وهذا ما يعبر عن نضج الشروط الموضوعية لإجراء هذا التغيير، هذا النضج الذي يكشفه استعصاء الخروج من الأزمة الراهنة بالوسائل الترقيعية وتحت مظلة المؤسسات الدستورية العاجزة.
وإذا كانت الشيعية السياسية (أمل وحزب الله) استكملت مشروع ومؤسسات اندراجها في "المجتمع الأكبر الشرق"، ولا تتردد عند الاقتضاء بالقبول بتغيير جذري باتجاه إلغاء الطائفية السياسية؛ بينما غالبية المسيحية السياسية (التيار الوطني الحر، تيار المردة...) تسعى للتكيف مع هذين الأمرين، فهل يعني ذلك لأن لبنان على أبواب تحول جذري في بنيته السياسية ووظيفته الكيانية؟ سؤال الجواب عليه يحتاج إلى استطلاع موقف السنية السياسية. فما هو عليه موقف الحركية السياسية السنية؟ هذا ما سنتناوله في العدد القادم.
د. جوزف عبدالله