في فلسطين: المطلوب مهمة إنقاذ وطني شاملة

خالد أحمد أبو حيط
abouhait@hotmail.com


الأعمى وحده تفاجأ بما يجري اليوم في غزة. كل المؤشرات، منذ وصول حماس الى السلطة في انتخابات المجلس التشريعي وما أعقبها من تشكيل الحكومة الأولى ثم الثانية، مروراً باتفاق مكة، وما بين ذلك وما تلاه، كان يؤشر الى أن الساحة الفلسطينية مستهدفة من الداخل والخارج على حد سواء. الاقتتال الذي يجري في شوارع غزة وأزقتها ما هو إلا تظهير للأزمة وفق أحد السيناريوهات المعدّة لتفجير القضية الفلسطينية! أجل القضية الفلسطينية وليس حماس ولا الحكومة الفلسطينية ولا حتى السلطة الوطنية الهشة والمنهارة أصلاً...

اليوم، يمكن القول أن الخطة التي استهدفت تصفية القضية الفلسطينية، والتي ابتدأ تنفيذها منذ حصار الرئيس الراحل ياسر عرفات في مقر المقاطعة في رام الله، مروراً بكل المآسي الأخرى من اجتياح للضفة الغربية، وتصفية الرئيس عرفات، والانسحاب من غزة، تمهيداً لحصارها، قد وصلت الى ذروتها في مشهد درامي مأساوي متكرر: مسلحون فلسطينيون يتقاتلون في حين تقصف الطائرات الإسرائيلية غزة من الجو... والنتيجة: مواطن فلسطيني مقهور بات يرى أن إعادة إحتلال غزة أرحم من الوضع المأساوي الذي يعيشه!  فهل هذه نتيجة مرضية للأخوة في حركتي حماس وفتح؟

وإنه لمن السخف بمكان تحميل المؤامرة الخارجية كل أوزار الجرائم التي تصنعها أيدينا... فمن هو هذا الذي لا يظن للحظة أن القضية الفلسطينية مستهدفة، وأن النضال الفلسطيني يتم تطويقه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني والكثير من الأنظمة العربية؟ هذا ليس اكتشافاً، بل سذاجة وسخافة في التحليل السياسي لا يقل عنه سخفاً تحميل هذه المؤامرة مآسي الشعب الفلسطيني وفشل الحكومة وهشاشة السلطة.

فهل يظن أحد أنه يستطيع ممارسة النضال والسلطة بشروط مسبقة ومحددة تفترض من الأعداء والخصوم تخلية الساحة ورفع الراية البيضاء؟ إن ما يجري في غزة اليوم هو من صنع أيدينا نحن الفلسطينيين قبل غيرنا. إنه علامة إفلاس كبرى، وعلامة خزي وعار. وإعلان فشل ذريع لكافة الاطروحات السياسية: اليسارية والعلمانية والوطنية وأخيراً الإسلامية. إنه تعبير عن مأساة قيادات فاشلة لشعب عظيم، وعقم اطروحات شعاراتية تعجز عن تحويل النضالات والدماء ودموع الأيتام والأرامل وعذابات الجرحى، وآلام الأسرى الى انجازات وطنية حقيقية. منذ أوسلو المشؤوم انقسم الشارع الفلسطيني الى فريقين: فريق يفاوض إسرائيل، وفريق يقاتل من يفاوض إسرائيل. وبهت حتى الغياب الفريق الثالث: الفريق الذي يقاتل إسرائيل. فهذا بكل بساطة التعبير الأدق عن أزمة الخطاب السياسي الفلسطيني وعقم الفكر السياسي النضالي الفلسطيني الذي وصل الى حد ارتكاب الموبقات: خطف الأطفال، هدم البيوت، اقتحام المساجد، اقتتال في الشوارع. ثم يطلع عليك أحدهم بكل الصفاقة الموجودة في العالم يريد تحديد المسؤولية والمسؤول!

ما يجري في غزة يدفعنا الى التفكير الى أعمق بكثير من مجرد مناقشة الاطروحات السياسية والنضالية الفلسطينية. فهذا الاقتتال (...) يكشف ويعري الحالة الاجتماعية المأساوية التي وصلها المجتمع الفلسطيني: جرائم قتل، انهيار أخلاقي، فساد، رشاوى، اختلاس، ميليشياوية معززة عشائرياً... باختصار حالة مريعة من تفكك النسيج الاجتماعي. بالتأكيد فإن الأسباب التي أدت الى ذلك معروفة جيداً: الاحتلال، الاخفاق السياسي، الفقر، الحصار، الفلتان الأمني، انعدام الأفق السياسي... الخ. غير أن تحديد الأسباب والمسؤولية لا يكفي وحده، بل يفقد قيمته إذا تم التركيز عليه دون وضع حلول مناسبة وملائمة. كما أنه لا يكفي ولا يجوز الاختباء وراء الأصبع والتغني بالنضالات وصم الآذان عما يجري في المقلب الآخر من الصورة. لا شك أن الشعب الفلسطيني شعب عظيم أدهش العالم بنضالاته، وقد أبلى أكثر بكثير مما يستحق قادته أو استطاعوا تحمله. وهنا تكمن مأساته الحقيقية. أنه شعب تقدم على قياداته جميعها! ولكنه في نهاية المطاف شعب تجري عليه قوانين المجتمعات: فصور البطولة والفداء والنضال لا ينبغي بحال أن تعمينا، لأسباب بحت دعائية وإعلامية، عن حقيقة المعاناة التي يكابدها هذا الشعب، وتأثير تلك المعاناة على نسيجه الاجتماعي. بكلمة أخرى: أحداث غزة تدق ناقوس الخطر بأن الوضع الفلسطيني يحتاج الى مهمة انقاذ وطني واجتماعي بصورة أكثر إلحاحاً من الانقاذ السياسي ذاته، مع الاقرار بوجود علاقة جدلية بين المهمتين.

وبتسليط الضوء على المشهد السياسي، ثمة أكثر من تساؤل لم يقدم حتى الآن أحد إجابة شافية عن أي منها: ما هي الفائدة التي جناها الشعب الفلسطيني من التحول في مسيرة حركة حماس من حركة مقاومة للاحتلال الى حركة تقاتل للاحتفاظ بالسلطة؟ بل ما هي الفائدة التي جنتها حماس نفسها من ذلك؟ وما هي الفائدة المرجوة من استمرار وجود السلطة الوطنية الفلسطينية ذاتها؟ ليست الأحداث في غزة هي التي تثير هذه الأسئلة، ولكنها بالتأكيد تجعل المطالبة بالأجوبة عليها أكثر إلحاحاً. لا أحد يشك أن حركة حماس مستهدفة ومطلوب اسقاطها وإفشالها. ولكن: أين الاكتشاف العبقري في هذا؟ فهذه حجة واهية لا تصلح حتى لتلميذ رسب في الامتحان لأن الأسئلة كانت أصعب مما تصوره، فكيف بحركة سياسية نضالية عريقة كان ينظر إليها قطاع كبير من المجتمع الفلسطيني على أنها إحدى الضمانات لاستمرار قضيته ونضاله؟

وبكل الأحوال، فإن البكاء والعويل لا يجدي أحداً. والمطلوب الآن أصبح مضاعفاً: مهمة انقاذ وطنية على مستوى اجتماعي تمنع انهيار المجتمع الفلسطيني، ومهمة انقاذ سياسية تتجاوز تراكم الفشل في الأجندات السياسية الفاشلة لكل الطروحات العقيمة والعاجزة. وهنا يكون الرهان على التنظيمات والأحزاب وحدها رهاناً خاسراً. المطلوب اليوم هو تحرك الشرائح الاجتماعية المكونة للشعب الفلسطيني، وإعلان حالة استنفار قصوى لانقاذ شعب كامل من الضياع وعقم ساسته. المطلوب تحرك النخب الفلسطينية في الداخل والخارج، طلاب وأساتذة جامعات في كل مكان في المهجر واللجوء والداخل بشقيه 48 و67. المطلوب تحرك اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات في كل الدول العربية. المطلوب حركة جماهيرية فلسطينية ترفع صوتها عالياً في وجه كل هذه العبثية المخزية والتي ستسير بالشعب الفلسطيني حتماً نحو الانهيار الكامل إذا استمر الوضع على ما هو عليه.

الوضع الفلسطيني الحالي يتطلب أن يخرج كل فلسطيني من بيته الى الشارع، وأن تفتح كل الجبهات دفعة واحدة: على البنادق القليلة المتبقية في مواجهة إسرائيل أن ترفع صوتها أكثر لتصحيح بوصلة النضال باتجاه العدو الحقيقي لتعيد رص صفوف المجتمع. على اللاجئين التحرك في مظاهرات مطالبة بإيقاف المهزلة. على النقابات والجمعيات أخذ المبادرة في إطلاق مهمة الانقاذ الوطني الشامل، وعلى الطبقة المثقفة إيجاد وابتداع واختراع المعادلة السياسية التي تنقذ الوضع السياسي وتمنع تصفية القضية الفلسطينية. الشعب الفلسطيني أثبت أنه شعب يستحق الحياة في كل مرحلة تاريخية، وهو اليوم قادر على اثبات نفسه من جديد!