لبنان وطن... أم مزرعة |
محمد إبراهيم الصالح، طالب من لبنان
mohammad.elsaleh@gmail.com
لن أكتب اليوم بقلم المحلل السياسي أو الخبير الإستراتيجي، لأنني لست أهلاً لذلك. ولكنني سأكتب بقلم المواطن المحب لوطنه، والشاب الحالم بغد واعد ومستقبل باهر.
أكتب عن وطن تناهشته الوحوش الضارية وتقاسمته فيما بينها باسم الطائفية آنا، والمحاصة السياسية في اكثر الاحيان. وتناست ذلك المواطن العامل مستهزئة به وبكل جميل في حياته، ويبقى شغلها الشاغل كيف تدوس عليه لترتفع أكثر، وتحقق مكاسب شخصية ومآرب اكبر.
لن اقول انني ملاك طاهر، منزل من السماء، بل إني ابن لهذا الجيل، مره وحلوه. انا ابن لجيل شهد الموت قبل ان يفهم معنى الحياة. ورأى الدمار قبل أن يتمتع بمنظر العمران. اني ابن جيل فهم الشيء قبل أوانه، وتعلم الحرب في كتبه واحسها بين ألعابه قبل ان يعرف معنى السلم. اني ابن جيل ولد كي يرى كل شيئ غاضباً. والله سبحانه وتعالى غاضب من افعالنا. البشر بعضهم على بعض غاضب، تواقون للتطرف والحرب يدمرون كل شيء، حتى الطبيعة التي تطبعت بطباعهم ودافعت عن نفسها من طغيانهم أصبحت دائمة الغضب جائرة على الانسان متطرفة في معظم الاحيان.
انا ابن لحرب اهلية نتنة، بل وعفنة، قتلت كل عزيز ودمرت كل غال وثمين، استهدفت البشر والحجر على السواء، فدمرتهم ومزقتهم من الداخل. لم اشهد هذه الحرب بأم العين ولكنها ترعرعت معي، وكبرت في نفسي، واستقرت في عقلي وتفكيري فصارت تمثل الهاجس الأكبر عندي وعند الاخرين.
انا ابن لهذه المرحلة شهدت انتصاراتها وتجرعت مرارة هزائمها وانكساراتها. ومع ان المرحلة فيها الكثير من الهزائم المرة والكثير من المرارة والقليل من الانتصارات، إلا أن صمود المقاومين في افغانستان والعراق وفلسطين ولبنان ابقى لنا بعض الكبرياء حتى بين انياب الهزيمة كي نعد العدة للمضي قدماً في سبيل رفع الراية مجدداً.
الا ان الحرب اليوم تحمل شكلاً مختلفاً، مهما تعددت الأسباب أو اتخذت لها من الأشكال، تبقى هي تلك الحالة العفنة التي نخشاها جميعاً. انها صورة الاقتتال بين الأخوة، ذات الدم الواحد، واللون الواحد، والمعتقد الواحد، والطريق الواحد، كل شيء يوحدهم، إلا الكبرياء والغرور ونزعة الامتلاك. كلنا مخطئون حتى بالصمت المدوي، كلنا منجرفون الى بئر سحيق، متناسين أن هذه الحرب هي أشبه بالوباء، لا تملك قلباً ولا عقلا، ولا تفرق بين خير وشر، وحق وباطل، وكلنا فيها على باطل. كل ذنبنا اننا ابناء العجز والقهر، لا نملك رأياً ولا منطقا. كل جريمتنا أننا ابناء تلك البيئة النكراء او ذلك الدين او المذهب او تلك الطائفة. تبنى علينا وعلى بقايانا الانتصارات والمساومات، ونحن في كلتي الحالتين نخسر وندفع الثمن من ارواحنا واموالنا لسنوات وسنوات.
كل هذا لأننا لم نفهم معنى الوطن حقاً ومعنى انتمائنا اليه. واذكر هنا اني سألت مرة في المدرسة عن معنى المواطنية. فأجبت بعد تفكير بأنها الاحساس بالانتماء الى الوطن، وأن هذا الانتماء يتطلب قلباً وعقلاً في الآن عينه. فالأوطان لا يمكن ان تبنى بالحب او العقل كلاً منفرداً. لان الحب وحده يولد عندنا حب الامتلاك ونزعة العصبية العمياء التي تدمر الوطن، والعقل وحده يفقده أهميته ورونقه ويحكمه انطلاقاً من المصالح الشخصية. فهي تكامل بين قلب وعقل ينتج عقلاً محباً في وطن يجعلنا نضحي في سبيله في كل الميادين. فالوطن ليس مجرد أرض كانت جرداء أم خضراء وعليه بعض الاحجار والأشياء. إنما هو معنى جامع، فالوطن هو الاب والأم، والأخ والأخت، والزوج والزوجة، والصديق والصديقة، والحبيب والحبيبة، والولد والثروة. إنه كل غالٍ وثمين. إنه معنى السعادة والحب والعطاء. فكل خير هو أوله، وكل جميل هو آخره.
لكنا اليوم في وطن لا أدري إن كان غابة أو مزرعة، يأكل فيها القوي الضعيف. كلنا فيها كالقطعان يقودنا جرس العصبية النتنة، لا نعلم الى أين تقودنا لأننا لسنا حتى أهل لنفهم. قلوبنا اصبحت مريضة وعقولنا سخيفة. لم نعد نبتسم الا لنسخر من واقعنا الأليم، أو مستقبلنا المجهول في غياهب الاحزان.
ولكن هل نفقد الأمل؟... كلا، يجب علينا أن نبقي شعلة الأمل مضاءة في قلوبنا، فهي الخيط الفاصل بيننا وبين الموت. فالإنسان بلا أمل هو كأوراق الخريف تتهاوى مع أول نسمة.
يجب علينا ان نصرخ بالصوت العالي والمدوي لنهز عروش الطائفية، وننفض عنا غبار الأيام المشبعة بالذل والهوان كي نبني وطنا حرا يبنيه أحراره.
وهناك حبل سري ما بين الأم والأمة لا ينقطع، فالعبدة تربي العبيد، أما الحرة فتصنع الأحرار.
رحم الله شهداءنا الذين قضوا على مذبح العبودية لله، وهو يدافعون عن حياض الأمة، فكانت جماجمهم جسر العبور إلى دار السلام. وجعلوا من أجسادهم العارية غرساً أنبت سنابل ورياحين يصل أريجها الفضاء، فكانت رموزاً لا متناهية لعشق لا يضاهيه خيال، لترتفع فوق جثثهم هامات الانتصار. والله سيحق الحق بكلماته ويمحق دابر الكافرين.