مسار وآفاق الصعود الروسي في ترتيب النظام العالمي
وانعكاساته على القضايا العربية والإسلامية
(الحلقة الثانية)

جوزف عبدالله

تناولنا في الحلقة السابقة كيفية تجديد الدور الروسي مع مجيء الرئيس بوتين إلى السلطة في العام 2000. وفي سياق ذلك استعرضنا تناقضات السياسة الخارجية الروسية في الولاية الأولى لبوتين (2000-2004)، وآفاق الولاية الثانية (اعتباراً من العام 2004) مع اصطدام هذه السياسة بسياسات المحالفة الأوروأطلسية. وسنحاول في هذه الحلقة استكمال عرض العناصر الأساسية في الصعود الروسي، بحيث نبدأ بتعيين المجالات الإستراتيجية في السياسة الخارجية الروسية، وعناصر الصعود الروسي باتجاه القطيعة مع الماضي الروسي القريب اعتباراً من العام 2006، على الصعيد الداخلي والخارجي، ومن ذلك اعتماد روسيا سياسة خارجية نشطة للغاية تستند إلى عقيدة عسكرية تقترب من ملامح "الحرب الباردة"، وتنادي بالتعددية القطبية وبالعودة إلى الأمم المتحدة بديلاً عن سياسة التفرد الأميركي، وما يستتبع ذلك من احتمالات استفادة الشعوب العربية والإسلامية من هذا الصعود، وكيفية العمل لبلوغ ذلك.

 مجالات إستراتيجية في السياسة الخارجية

أولاً، في مجال "رابطة الدول المستقلة" ومجال الاتحاد السوفييتي السابق: محاصرة "الثورات الملونة" (أوكرانيا وجيورجيا) ومنظمات المجتمع الأهلي المعتمدة لتفكيك بنيات هذه الدول وتعديل سياساتها واستهداف الاتحاد الروسي بالذات، مقابل ترسيخ التحالفات (كازاخستان وأوزبكستان)، وفي سبيل ذلك اعتماد دبلوماسية نشطة في مجال الطاقة، بغية إعادة تركيب بنية "رابطة الدول المستقلة"، عبر إقامة منظمات سياسية عسكرية واقتصادية.

ثانياً، في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي:  تطمح روسيا إلى علاقة وثيقة ومستقرة بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي تبني نوعاً من الشراكة الأوروبية الروسية، ما يمكنها من المشاركة في القرارات والسياسات الأوروبية، خصوصاً ما تعلق منها بأوروبا الشرقية، وبمجال الاتحاد السوفييتي سابقاً. ومواجهة إشكالية توسع الاتحاد الأوروبي والمزيد من انخراطه في بنية الحلف الأطلسي والتبعية للولايات المتحدة.

ثالثاً، في العلاقة مع الولايات المتحدة: بينما كان الاتحاد الروسي يطمح بعلاقة مع الولايات المتحدة سمتها العامة "شراكة إستراتيجية" محورها مكافحة الإرهاب والحد من تطوير أسلحة الدمار الشامل، وجدت روسيا نفسها مضطرة إلى خوض سباق التسلح وحماية كل مجالاتها الحيوية، أو العودة إلى ملامح الحرب الباردة، خصوصاً مع توسيع الحلف الأطلسي، وحملات الولايات المتحدة المعادية لروسيا تحت شعارات ترويج الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما جاءت مثلاً في خطاب نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني في فيلنيوس Vilnius في الرابع من أيار 2006، وما سبقه من دعم وتأييد "الثورات الملونة"، وما أعقبه من نشر الصواريخ في أوربا الشرقية.

رابعاً، في الشرق الأوسط: تسعى روسيا إلى فرض نفسها كوسيط ومقرر في المبادرات والمشاريع الأميركو أوربية، لا سيما ما تعلق منها بالملف النووي الإيراني وبالصراع العربي الصهيوني، وبالغزو الأميركي للعراق وارتداداته في المنطقة. وذلك من أجل المحافظة على ما لها من مصالح إستراتيجية تقليدية في الشرق الأوسط، وتوسيع هذه المصالح وتنويعها مع بلدان لم تكن لها صلات سابقة بها، كالسعودية وبعض بلدان الخليج.

خامساً، تطوير منظمة شنغهاي: تعمل روسيا على ترسيخ التعاون والتحالف مع الشرق، بغية مواجهة التحالف الأميركو أوروبي. ولقد  شكل اجتماع وزراء خارجية روسيا والصين والهند في نيودلهي في 14 شباط 2007، خطوة متقدمة عن اللقاءات السابقة لعمالقة آسيا (أوراسيا) في منظمة شنغهاي للتعاون، وذلك نظراً للسياق الإستراتيجي الذي حصل فيه اللقاء. لقد جاء هذا اللقاء بعد مؤتمر ميونيخ حول الأمن حيث ألقى الرئيس بوتين خطاباً مميزاً، وبعيد التجربة الصينية للصاروخ المضاد للأقمار الاصطناعية في 11 كانون الثاني 2007، ومع قبول الهند كعضو مراقب في المنظمة. وباتت هذه المنظمة تضم إيران وباكستان ومنغوليا، كأعضاء مراقبين، علاوة على عضوية كازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان طاجيكستان.

 

العام 2006: صعود روسي باتجاه القطيعة مع الماضي القريب

يعتبر إيفغيني بريماكوف[1] Evgueni Primakov أن روسيا بدأت في مجرى العام 2006 مرحلة جديدة في نهوضها سمتها القطيعة مع السياسات السابقة التي سادت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، على صعيد العلاقات الروسية الداخلية كما على صعيد العلاقات الروسية الخارجية. جاء ذلك في مقال له بعنوان معبِّر: "القطيعة الروسية مع الليبرالية المفرطة: بدء المرحلة الثانية في النهوض الروسي"[2]. وبرأي هذا السياسي الروسي المخضرم، فإن الرئيس بوتين انكب على أمرين أساسيين: الأول هو إحكام سيطرة الدولة على ثروات روسيا الطبيعية، ليقطع بذلك مع العديد من مكونات النظرية النيوليبرالية فيعيد للدولة دورها في تنظيم الاقتصاد وإدارة التنمية في الأقاليم؛ والثاني هو العمل على تجديد القدرة العسكرية الروسية، وعودنها إلى لعب دور متعاظم على المسرح الدولي بالاستناد إلى ثرواتها الطبيعية.

يشدد بريماكوف هنا على مفهوم القطيعة: استبدال الاتجاهات الأساسية التي سادت منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي (انهيار الاتحاد السوفييتي) في مجال السياسات العامة، خصوصاً دور الدولة، باتجاهات مناقضة لها. وتجلى ذلك أساساً في دور الدولة في ميادين: الاقتصاد (والتنمية)، والطاقة (تنظيماً، وتسعيراً)، والسلاح (إنتاجاً وتجارة)، ومن هناك باتجاه السياسة الخارجية.

 

قطيعة على صعيد دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي

أعاد الرئيس بوتين للدولة دورها في ترسيخ الاستقرار الداخلي، خصوصاً لمواجهة السياسات الأميركو أوروبية في اعتماد "الثورات الملونة" على الطريقة الأوكرانية والجيورجية، وذلك عبر:

أولاً، المزيد من تدخل الدولة في الحياة السياسية والاجتماعية، وتعزيز أجهزتها وقدرتها على التدخل في الحياة العامة. ومن ذلك القانون حول "المنظمات غير الحكومية" الذي اعتمد في مطلع العام 2006، بغية المزيد من مراقبة السلطات الحكومية الإدارية لهذه المنظمات واحتوائها وتقييد حركتها (الترخيص، الأنظمة، النشاطات، الأهداف، التمويل...)، وتشكيل "المجلس الاجتماعي" الذي يضم مؤسسات المجتمع المدني لتسهيل الحوار بين السلطات العامة والمجتمع.

ثانياً، توفير الاستثمارات اللازمة لتمويل المشاريع الكبرى التي تحتاجها البلاد.

ثالثاً، استخدام العائدات الناجمة عن ارتفاع أسعار الموارد الطبيعية في تنمية الاقتصاد ورفع مستوى معيشة المواطنين الروس. وذلك مقابل تخفيض الضريبة على منتجات التكنولوجيا الرفيعة والصناعة التحويلية والمنشآت الصغيرة والمتوسطة. ولقد كان ذلك بتعزيز تدخل الدولة الشديد في مجال النفط والغاز (حصول شركة غازبروم Gazprom على 72% من حصص سيبنفط Sibnef، وتصفية الأسهم الأساسية لشركة يوكوس Youkos لصالح روسنفط Rosneft)، وهذا ما أعطى الدولة الروسية دوراً أساسياً في المجال الاقتصادي، ومنحها أداة دبلوماسية بالغة الأهمية. وانعكس ذلك في دينامية كبيرة في الاقتصاد الروسي، نظراً لارتفاع الأسعار العالمية للنفط والغاز، ما مكن العملة الروسية من العودة إلى قيمتها قبل أزمة العام 1998، وحرر البلاد من دينها الخارجي (25 مليار $) ومنحها احتياطياً بالعملات الصعبة بلغ في أواسط العام 2006 قيمة 185 مليار $.

رابعاً، اعتماد سياسة اجتماعية نشطة للغاية بفضل فوائض النفط ما مكن الرئيس بوتين من تعزيز شعبيته المرتفعة دوماً (أكثر من 70% حسب الاستطلاعات). وهذا ما عبر عنه في خطابه أمام الكرملين في العاشر من أيار 2006، عندما طرح تطوير سياسات الحماية الاجتماعية والأمن بمثابة أولويات في سياسته الداخلية. وجاء توسيع سياسات الحماية الاجتماعية بتطوير أربعة برامج قومية تتعلق بالصحة والتعليم وبناء المساكن وتنمية الزراعة.

خامساً، الشروع بمكافحة الفساد من خلال الملاحقة القضائية لكبار الفاسدين، وسن التشريعات حول ضبط العلاقة بين موظفي الدولة ورجال الأعمال حيث ينمو الفساد والإفساد.

سادساً، والأهم من كل ذلك أن "الدولة استعادت السيطرة المباشرة على نمو الصناعات الإستراتيجية وعلى موقعها في الأسواق العالمية. ففي حزيران 2006 كانت المنشآت الإستراتيجية تعد 514 منشأة عامة فيدرالية و548 شركة مساهمة تسيطر عليها الدولة"[3]. وثمة تفكير بأن تؤسس الدولة في السنوات القادمة من 30 إلى 40 شركة هولدنيغ في أهم فروع الإنتاج الإستراتيجي تكون فيها حصة الدولة أكثر من 50 بالمائة.

سابعاً، تقييد حرية المستثمرين الأجانب، أو منعهم من الاستثمار في الصناعات الإستراتيجية: صناعات الفضاء، السكك الحديد، النووي المدني، المناجم، صناعة مدخلات إنتاج الأسلحة...

 

الطاقة: التسويق في خدمة السياسة

لم تكتفِ روسيا بتسويق النفط لجمع الفائض (لا سيما مع ارتفاع الأسعار) واستخدامه في السياسة الداخلية، بل سخرته لخدمة أهدافها الإستراتيجية، بالضغط على خصومها، أو باستمالة حلفاء وعقد محالفات وتعزيز موقعها الدولي. وأبرز مثال على استعمال روسيا الطاقة كأداة ضغط تجلى في علاقتها مع أوروبا والولايات المتحدة، بينما تجلى استخدامها لتعزيز المحالفات في العلاقة مع الصين والهند، وحتى مع الشرق الأوسط.

الطاقة الروسية والعلاقة مع أوروبا: في شباط 1970، في عز "الحرب الباردة" تم توقيع اتفاق بين موسكو وبون لتزويد أوروبا الغربية بالغاز من الاتحاد السوفييتي (السابق). ومنذ ذلك الحين صار تزويد أوروبا الغربية بالطاقة الروسية أمراً عادياً مكنها من مواجهة صدمتي النفط في العام 1973 (حرب تشرين) وفي العام 1979 (الثورة الإسلامية في إيران). وفي العقدين الأخيرين نشأت شبكة لإنتاج وتصنيع النفط اخترقت الحدود السابقة بين المعسكر الاشتراكي وأوروبا الغربية، ما جعل أوروبا الغربية على قناعة بأنها حصلت على أمنها في الطاقة.

ولكن في مطلع العام 2006 وجدت أوروبا أن هذا الأمن هو مجرد وهم عندما قطعت روسيا إمدادات أنابيب "دروجبا" Droujba التي تنقل الطاقة الروسية عبر أوكرانيا إلى أوروبا الوسطى (25% من مصادر الطاقة الأوروبية تمر عبر هذه الأنابيب). وفي مطلع العام 2007، قطعت روسيا للمرة الثانية الطاقة عن أوروبا عبر بيلاروسيا. لقد عمدت روسيا إلى استخدام الطاقة كوسيلة ضغط على أوروبا التي عادت لتتذكر تبعيتها إزاء روسيا التي يصعب توقع ممارستها.

ومن المعروف أن أوروبا تستهلك 15% من قيمة الاستهلاك العالمي للنفط، مع نسبة زيادة سنوية من 1 إلى 2%. بينما لا تلبي مصادرها الذاتية غير 2% من احتياطي الغاز، واحتياطي النفط ضعيف للغاية. وقد تبلغ تبعيتها للغاز حولي 70% في العام 2030، وتبعيتها للنفط حوالي 90%[4].

لمواجهة هذا الأمر على المدى القصير على الأقل، ترى "مديرة مركز أبحاث أوروبا" في "معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية" الفرنسي IRIS، سوزان ني Susanne NIES: "أن على أوروبا العمل بسرعة للتفاهم مع مصدرها الأساسي من الطاقة، روسيا"[5].

وبما أنه لا يمكن عزل مسألة الطاقة بين روسيا وأوروبا عن السياق العام للعلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية، بل بين روسيا والمحالفة القائمة حول حلف الأطلسي بمجملها، ومن ذلك العلاقات بين روسيا ومجال "رابطة الدول المستقلة" وسائر بلدان الاتحاد السوفييتي سابقاً، فإن روسيا بدأت، في العامين الأخيرين، باستخدام مواردها من الطاقة من بين أسلحتها لمواجهة سعي الولايات المتحدة لمحاصرتها بتوسيع حلف الأطلسي، ونشر الدرع الصاروخية على حدودها في بولونيا وتشيكيا. وهنا تركز روسيا ضغطها على أوروبا باللجوء إلى سلاح الطاقة لتدفعها إلى موقف ضاغط على الولايات المتحدة وعلى الدول الدائرة في فلكها في أوروبا الشرقية.

التراجع عن إقامة علاقة نفطية روسية أميركية: في خريف العام 2002 انعقد في واشنطن مؤتمر روسي أميركي حول مسألة الطاقة، تم فيه التوافق على إقامة محور للطاقة بين الولايات المتحدة وروسيا. وكان غرضه التعويض عن محور الولايات المتحدة- الخليج المهدد بحكم الأوضاع في الشرق الأوسط، في حال انهيار السعودية، ما يجعل الولايات المتحدة فاقدة لاستقلاليتها النفطية. ولكن الأمور تغيرت بحكم طموحات الهيمنة الأحادية على العالم من قبل الولايات المتحدة، والرد عليها بتعديل في السياسات الروسية الخارجية.

سياسة نفطية روسية باتجاه الصين والشرق عموماً: لقد نشأ محور نفطي روسي صيني. فالصين قدرة اقتصادية صاعدة بحاجة متزايدة إلى الطاقة. ولهذا فإنه من السهل على آبار سيبيريا الشرقية الضخمة أن تمد أنابيبها نحو الشرق (الصين) بدل توجيهها نحو الغرب. ولم يقتصر التوجه الروسي على تزويد الصين بالطاقة، بل تعداها إلى الهند، كما تعدى مصدر الطاقة المجال الروسي، ليشمل مصادر الطاقة في الشرق الأوسط، خصوصاً إيران. وفي هذا الصدد ذكرت وكالة نوفوستي، تحت عنوان "روسيا تمد الهند والصين.. بالغاز الطبيعي الإيراني"، في 8-5-2007: "اقترحت إيران قبل شهر على شركة الغاز الروسية غازبروم أن تشارك في مشروع إنشاء خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من إيران إلى الهند عبر باكستان. وأعطت الشركة الروسية قبل أيام ردا بلسان ممثلها في إيران الذي قال إن شركته غازبروم يمكن أن تشارك في هذا المشروع.

وتقدر حاجة الهند إلى الغاز بحوالي 140 مليون متر مكعب يوميا. وستحصل باكستان على 30- 35% من الغاز الذي سيضخ إلى الهند. ويتوقع الخبراء أن تواجه باكستان في وقت قريب نقصا في الغاز يتراوح بين 17 مليون متر مكعب و42 مليونا في اليوم...

ويقول الخبير الروسي سيرغي دروجيلوفسكي إن احتياطيات إيران المؤكدة من الغاز تبلغ 28 تريليون متر مكعب أو 18% من احتياطي العالم اليوم. وتصدر إيران فقط 1% من إنتاجها من الغاز. وقال ممثل غازبروم في إيران إن خط أنابيب الغاز المزمع إنشاؤه إلى الهند يمكن مده إلى الصين. ويشير الخبير دروجيلوفسكي إلى أن الصين سوف تصبح في هذه الحالة مدافعا غيورا عن إيران في مجلس الأمن الدولي في حين تتاح لطهران فرصة واقعية للانضمام إلى تكتل محتمل للغاز تعارض الولايات المتحدة قيامه لأن بمقدور منظمة تجمع البلدان المصدرة للغاز التحكم في أسعار الغاز في السوق العالمية".

لا شك بأن هذه السياسة النفطية تشكل واحداً من العناصر الأساسية في تعزيز منظمة شنغهاي. وتحاول روسيا التوسع في التواصل مع أسواق إنتاج الطاقة في كل مكان من العالم. وإذا كانت دعوة الرئيس بوتين للسعودية للتعاون في مجال إنتاج الطاقة لم تلقَ التجاوب المطلوب، فالأمر بخلاف ذلك في أمكنة أخرى. فإثر زيارة وزير الصناعة والطاقة فيكتور كريستنكو Viktor Khristenko، 21-1-2007، إلى الجزائر، أعلنت روسيا والجزائر قراراً مشتركاً بتطوير التعاون لترسيخ أمن الطاقة العالمي. وناقش الطرفان تطوير الشراكة بين مؤسسة صوناتراش الجزائرية وغازبروم الروسية، بعد أن تم الاتفاق على أن تقوم شركة روسنفط- سترويترانسغاز Rosneft-Sroytransgas الروسية بالتنقيب في حقل في جنوبي الجزائر، وذلك باستثمار قيمته بين 3 و4 مليار $. يعني كل ذلك سعي روسيا لمزيد من محاصرتها لأوروبا وللولايات المتحدة على صعيد موارد الطاقة.

 

تطوير الصناعة العسكرية وتجارة السلاح

قامت روسيا بتطوير تسليحها، وتطوير الأسلحة الصاروخية خصوصاً. ومن ذلك تصنيع صواريخ قادرة على اختراق أي شبكة مخصصة لاصطياد الصواريخ. وهي تمتلك اليوم صواريخ مخصصة لحمل الرؤوس المدمرة النووية، ومنها المعروف باسم "توبول- م" الذي ينطلق من منصات أرضية ثابتة أو متحركة، وقد دخل في الخدمة الفعلية في الجيش الروسي ما ينطلق منها من المنصات الثابتة، أما النوع الذي ينطلق من المنصات المتحركة فسيدخل الخدمة هذا العام. ومنها نوع ينطلق من الغواصات ويُعرف باسم "بولافا- 30". ولن يتوصل العالم إلى صنع صواريخ مماثلة إلا بعد حوالي 15 عاماً، حسب وكالة الأنباء الروسية، نوفوستي، في 25-5-2006.

هذا فضلاً عن تطوير الأسلحة الصاروخية المضادة للدروع، وقد كشفت المواجهات في عدوان تموز على لبنان، فعاليته في مواجهة أكثر الدروع تطوراً. بالإضافة إلى تطوير شبكات الصواريخ المضادة للطائرات والموجهة بالرادار. ناهيك عن تطوير صواريخ "إس 400" S 400 الشديدة الفعالية والمدى.

واقترن تطوير روسيا للصناعة العسكرية بتطوير تجارة السلاح في الكثير من مناطق العالم. يقول جيسون بوش في مقال بعنوان "عادت روسيا إلى تجارة السلاح"، في "أسبوع الأعمال" Business Week، بتاريخ 13-4-2007: "يعتبر الرئيس بوتين أن تنشيط صادرات السلاح وسيلة جيدة لزيادة الاحترام الدولي لروسيا، فضلاً عن أنه تجارة رابحة". لقد تطورت تجارة الأسلحة الروسية تدريجياً منذ العام 2001، ومن شأنها أن تبلغ هذا العام حوالي 5.8 مليار ، بحيث تكون روسيا الرقم الثاني عالمياً في تجارة الأسلحة بعد الولايات المتحدة (16.3 مليار في العام الماضي). وعلى هذا يعلق فيكتور ليتوفكين[6] Viktor Litovkin، "كثير من البلدان يريد شراء أسلحتنا". ويتنوع زبائن روسيا من فنزويلا إلى الصين والهند وإيران وسورية... وهذا ما يقلق واشنطن ويثيرها في نفس الآن، ففي كانون الثاني من هذا العام سلمت روزوبورونكسبورت Rosoboronexport، الشركة الروسية لتصدير الأسلحة، إلى إيران 29 قاعدة لإطلاق صواريخ "تور إم وان" Tor M1 المضادة للطيران والشديدة الفعالية، وذلك من ضمن صفقة تبلغ قيمتها حوالي 543 مليون €. وهذا ما عزز القدرة الدفاعية الإيرانية في وقت تسعى فيه الولايات المتحدة إلى تضييق الخناق حولها في أزمة البرنامج النووي الإيراني.

كما عقدت روسيا صفقة مع الرئيس الفنزويلي شافيز الذي لا يخفي عداءه للولايات المتحدة بقيمة 2.3 مليار ، وتتناول شراء البنادق و24 طائرة مقاتلة وقاذفة من طراز سوخوي Su-30 و53 طوافة عسكرية. وهذا ما استنكرته الخارجية الأميركية، خصوصاً بيع الأسلحة لسورية، وقررت واشنطن منع الشركة الروسية المعنية وغيرها من شركات بيع الأسلحة من العمل داخل الولايات المتحدة أو توقيع العقود مع الشركات الأميركية. وتخشى واشنطن انتقال مثل هذه الأسلحة المتطورة من سورية وإيران إلى المقاومات في العراق ولبنان وفلسطين. وفي هذا يقول أندرو كاشنز Andrew Kuchins، مدير برنامج روسيا في "مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية" CSIS في واشنطن: "يكمن السؤال الأساسي في معرفة "هل الروس شركاؤنا أم لا؟". يبدو أن إدارة بوش تميل أكثر فأكثر إلى الإجابة السلبية على هذا السؤال".

وإذا كانت تجارة الأسلحة مع الهند تعود إلى ما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، إلى زمن الحرب الباردة، فهذه التجارة بدأت حديثاً نسبياً مع الصين، بعد منع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تصدير الأسلحة إليها، إثر حوادث ساحة تيانانمان عام 1989. وفي تشرين الأول الماضي وقعت الصين عقداً بقيمة 776 مليون € لشراء صواريخ إس- 300 S-300، كما اشترت الهند 40 قاذفة مقاتلة من طراز سوخوي Su-30. وعلى العموم تشكل صادرات الأسلحة إلى الهند والصين حوالي 70 بالمائة من حجم الصادرات الروسية من الأسلحة.

وعلاوة على ذلك ثمة عقود للصيانة في تلك البلدان. كما كان للصفقة التي عقدت مع فنزويلا أثرها في اجتذاب صفقات أخرى في أميركا اللاتينية، الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، بحيث أنه بعض الصفقة الفنزويلية عقدت صفقة أخرى، في تموز الماضي، مع المكسيك، وتجري مفاوضات مع الأرجنتين لنفس الغرض.

إن تجارة الأسلحة الروسية ليست مجرد نشاط تجاري، بل هي واحدة من الأدوات التي تعتمدها موسكو للحد من الاستفراد الأميركي. وعندما تهدد الولايات المتحدة بشن الحروب، مباشرة أو بواسطة أتباعها، وتقوم موسكو بتزويد الدول المحتمل تعرضها للعدوان بأسلحة دفاعية على قدر من الفعالية، فذلك يعني أن موسكو تواجه واشنطن بطريقة غير مباشرة، وتحشد إلى جانبها المزيد من الحلفاء. وهذا ما حصل إثر عدوان تموز 2006 على لبنان، حيث تمكنت المقاومة الإسلامية (حزب الله) من هزيمة آلة الحرب الإسرائيلية ودحر العدوان، بفضل (من بين أسباب أخرى) قاذفات الصواريخ المضادة للدروع الروسية الصنع. وعلى هذا يعلق فيكتور ليتوفكين: قضى حزب الله، على الأقل، على واحدة من الفرق المدرعة الإسرائيلية السبعة الموجودة لدى الجيش الإسرائيلي، ما خرّب كل إستراتيجية هيئة الأركان الإسرائيلية، ومنعها من التقدم البري. لقد كانت المقاومة اللبنانية تستخدم القاذفات الروسية المضادة للدروع "آر بي جي 29" RPG-29  غير القادرة على خرق الميركافا الإسرائيلية فحسب، بل والدبابات المتطورة الأميركية الصنع أيضاً.

 

روسيا: سياسة خارجية على تنافسية قصوى

في مقال بعنوان[7] "التعاون بين روسيا والولايات المتحدة في المجال ما بعد السوفييتي، الأوهام تخلي المكان للواقعية" يلخص ألكسندر كارافايف Alexandre Karavaïev (مركز أبحاث المجال ما بعد السوفييتي، في وكالة الأنباء الروسية، نوفوستي) واقع التحول الروسي مع مجيء بوتين إلى السلطة بقوله: "كان فريق بوريس يلتسين يعتبر التعاون مع الولايات المتحدة بمثابة نعمة. فتأثير واشنطن في المجال السوفييتي السابق يحرر موسكو من مسؤوليات لا ترغب بتحملها. ولكن النهضة التي خلقها الرئيس بوتين في البلاد أعادت إلى روسيا دورها الطبيعي في المنطقة. ومن هنا تراجع التعاون لتحل مكانه المنافسة".

لاحظت الإدارة الروسية خطورة مشاريع الهيمنة الأميركية ونزعتها الأحادية في السيطرة والتحكم والانفراد، كما لاحظت السعي الأميركي لتفريغ الأمم المتحدة من مسؤولياتها وتهميش دورها، واستبدال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بمنظمة حلف شمالي الأطلسي، والسعي لتوسيع مجال فعاليته. فبعد تدخله في أوروبا الشرقية، ها هو اليوم ينشر جنوده في أفغانستان. وتهدد الولايات المتحدة، على ما تنشره بعض وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث، بشن العدوان على إيران وسورية بالاستناد إلى قوات حلف الأطلسي (بصرف النظر عن القدرة على ترجمة فرضية العدوان هذه). ويستمر حلف الأطلسي بضم بلدان جديدة، وعلى حد عبارات بريماكوف: "اقترب من حدودنا، ما يثير بالضرورة قلقنا، خصوصاً أن هذا التوسع يترافق بدعاية معادية لروسيا وبسياسة أميركية هجومية في الجمهوريات السوفييتية السابقة"، فكأن ذلك يعبر عن محاولة لتطويق استعادة روسيا لمكانتها الدولية كقوة عظمى.

وعلى هذا يعلق بريماكوف بقوله: "في هذه الظروف شرعت بلادنا، إن جاز لي القول، بأقصى سياسة خارجية. إن روسيا الملزمة على تعزيز قدرتها العسكرية الإستراتيجية والتكتيكية تبرهن بكل الوسائل الممكنة عن إرادتها بأن تصبح واحدة من أهم قوى استقرار الوضع الدولي... وهي تسعى لاستخدام إمكانياتها الاستثنائية لوضع حد للنزاعات البالغة الخطورة في الشرق الأوسط... ولتبريد الرؤوس الحامية التي لم تتعلم شيئاً من العراق والمستعدة لتكرار الاستفراد بممارسة القوة بحق الأنظمة التي لا تروق لها".

 

العقيدة العسكرية الروسية الجديدة: وضع حد للولايات المتحدة

كشف الجنرال غارييف Gareev، مدير أكاديمية العلوم العسكرية، الخطوط الأساسية للعقيدة العسكرية الروسية الجديدة في تقرير قدمه لمؤتمر الأكاديمية المنعقد في وزارة الدفاع في موسكو في 20 كانون الثاني 2007، بحضور قادة الجيوش الروسية والخبراء، لمناقشته[8].

يلحظ التقرير أن روسيا ستعمد لمواجهة عدم الاستقرار في بعض البلدان، لا سيما التصدي للحروب التي ستلجأ إليها الولايات المتحدة في سعيها للحصول على المواد الأولية كالطاقة والمياه. لا يعني ذلك أن روسيا ستدخل في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، ولكنها ستعتمد سياسة دفاعية تجعلها حكماً عالمياً في الصراعات.

ففي حزيران 2005، طلب الرئيس بوتين في اجتماع لمجلس الأمن الروسي من قادة الجيوش وضع عقيدة عسكرية جديدة، تنسجم مع تصور جديد للأمن القومي الروسي. والمقصود بذلك تعبئة الدولة والمجتمع خلف السياسة الدفاعية والعقيدة العسكرية، كما حصل في العشرينيات من القرن الماضي مع الدولة السوفييتية الفتية عندما اقترح ميخائيل فرونز برنامج الإصلاح العسكري ليتفهمه القادة السياسيون والعسكريون، والجنود والمواطنون البسطاء. تهدف هذه العقيدة العسكرية إلى وضع خطة عشرية (حتى العام 2015) يتم فيها تحديد طبيعة التهديدات الموجهة للأمن الروسي، والمهام المطلوبة لمواجهة هذه التهديدات، وتعيين طبيعة المؤسسة العسكرية التي تحتاجها الدولة للمواجهة عند الضرورة، وذلك على المستويات الاقتصادية والصناعية- العسكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية.

عناصر العقيدة العسكرية الروسية: تعتبر هذه العقيدة العسكرية:

أولاً، الصراع على الطاقة: إن الطاقة والبيئة ستشكلان، على مدى عقد ونصف من الزمن، السبب الأساسي للنزاعات السياسية والعسكرية. وستسعى بعض الدول إلى السيطرة على مصادر الطاقة، كما حصل مع العراق، بحيث لا يكون أمام الدول الأخرى غير الفناء أو المقاومة. ولهذا على الجماعة الدولية أن تواجه عاجلاً أو آجلاً ضرورة الحد من استهلاك الطاقة أو تنظيم إنتاجها واستهلاكها أو إيجاد مصادر بديلة عنها.

وإذا لم تتوصل الأمم المتحدة والدول الكبرى والشركات العملاقة والأجهزة الدولية إلى الوسائل والطرق لتنسيق الإنتاج والاستهلاك وتنظيمه فإن مسألة بقاء العديد من الشعوب تصبح مطروحة بشدة. وعليه فالصراع للحصول على موارد الطاقة سيبلغ الذروة ما سيؤدي إلى مواجهة سياسية واقتصادية، لا يمكن استبعاد تحولها إلى مواجهة عسكرية.

ثانياً، رفض الهيمنة الأحادية على العالم: إن طابع التهديدات يتعلق لحد كبير بطبيعة النظام السياسي العالمي. لقد أصبح جلياً أكثر فأكثر أن قيادة العالم الأحادية التي تنطحت لها الولايات المتحدة شكلت عبئاً تنوء تحت ثقله الإدارة الأميركية، مهما كانت قوتها.

ثالثاً، أي علاقة أميركية روسية؟ على الولايات المتحدة أن تختار بين سياسة الشراكة مع روسيا وسياسة اعتبار روسيا عدواً يجب تحييده. ولقد بات واضحاً أنه لا يمكن حل أي قضية جدية اليوم بدون روسيا التي لا تحتاج إلى أي مواجهة لا مع الولايات المتحدة ولا مع الغرب عامة ولا مع الشرق.

رابعاً، إقامة نظام التعددية القطبية: لا مناص أبداً من خيار نظام عالمي قائم على التعددية القطبية: الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا، الصين، الهند. إن التعددية القطبية والسعي لتسوية العلاقات الدولية بشكل سلمي يمكنه أن يحظى بتأييد الكثير من البلدان والأوساط الاجتماعية في كل مكان.

خامساً، إعادة الحياة للأمم المتحدة والتعاون الدولي: نظراً لطبيعة ميزان القوى العالمي فما ترغب به روسيا هو التعاون، باستنادها إلى منظمة الأمم المتحدة، مع حلف الأطلسي ومنظمة التعاون والأمن الأوروبي والاتحاد الأوروبي والصين والهند وباقي البلدان المعنية، والتدخل بإصرار على المسرح الدولي لوقف سياسة المواجهة، واعتماد معايير في القانون الدولي تمنع العدوان على باقي الدول وتخريب أوضاعها.

سادساً، شروط ملائمة لدور روسي عالمي: يبين تحليل اتجاهات الوضع العالمي أن سياسة الولايات المتحدة ستؤدي بالضرورة إلى مواجهة مع قسم واسع من العالم. وهذا ما يخلق الشروط الموضوعية لتتدخل روسيا كحكم جيوسياسي. ومن هنا ضرورة التأني في تحديد المصالح القومية الحيوية فعلياً، وتحديد ضرورة الدفاع دفاعاً صارماً عن هذه المصالح الحيوية الفعلية فقط.

العقيدة العسكرية الروسية الجديدة وتعيين مكامن تهديد الأمن القومي الروسي: تتحدد أهداف القوات المسلحة الروسية على ضوء تعيين التهديدات الموجهة لروسيا. ثمة وجهتان في النظر إلى التهديدات:

الأولى، التهديدات العسكرية بكل معنى الكلمة التي من المفترض مواجهتها بالوسائل العسكرية. وهذا ما تعتمده العقيدة العسكرية الراهنة.

الثانية، تستند إلى التحولات العسكرية- السياسية في العالم، وتأخذ بعين الاعتبار مروحة واسعة من التهديدات تحصل بوسائل عسكرية وأخرى غير عسكرية: منها ما هو سياسي- دبلوماسي واقتصادي ومعلوماتي. فتجربة تفتيت الاتحاد السوفييتي، ويوغوسلافيا، و"الثورات الملونة" في جيورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا، وغيرها من مناطق العالم تبرهن أن اخطر التهديدات تتم ترجمتها بوسائل غير عسكرية أكثر من اعتماد الوسائل العسكرية. وعليه يستحيل الفصل بين التهديدات العسكرية والتهديدات غير العسكرية، بل يجب تحليلها في وحدتها العضوية. فالتناقضات الاجتماعية- السياسية والاقتصادية والمناطقية والدينية والإتنية- القومية وغيرها في شتى المناطق والدول تبقى فعلياً من المصادر الأساسية لتعقيد الوضع السياسي- العسكري في روسيا.

وعلى العموم فإن التهديدات الأساسية موجهة لروسيا هي:

أولاً؛ سياسة بعض المؤسسات والقوى العظمى التي تتآمر على سيادة روسيا والإساءة إلى مصالحها الاقتصادية وغيرها. ومن ذلك شتى أشكال الضغط السياسي والإعلامي وأعمال التخريب، كما حصل في أوكرانيا وجيورجيا وقرغيزيا وغيرها. ومن ذلك المطالبة بسلخ مناطق منتشرة على مجمل حدود روسيا. وتهديد أمن الطاقة يتخذ بنظر الروس طابعاً حاداً للغاية. فقادة حلف الأطلسي يميلون إلى اعتبار تعديل أسعار الطاقة بمثابة العمل العدواني. ومن هنا تنبع مسؤولية روسية لتعيين سياسة دفاعية تنجم عن هذا التهديد: توقع، وموضعة، وتحييد هذا النوع من التهديدات بوسائل سياسية- دبلوماسية واقتصادية وإعلامية ووسائل أخرى غير عسكرية.

ثانياً؛ إن استخدام السلاح النووي ضد روسيا والإكثار من أسلحة الدمار الشامل يشكلان تهديداً لروسيا. إن الأسلحة النووية التي تمتلكها الدول الكبرى موجهة جميعها عملياً على روسيا، سواء قبلت موسكو ذلك أم لا. ولذلك فإن مهمة الدفاع المرتبطة بالردع النووي الإستراتيجي لاحتمال العدوان تتخذ اليوم أهمية أكبر مما كان الأمر عليه سابقاً.

ثالثاً؛ تبقى التهديدات العسكرية ضاغطة على روسيا، وثمة مخاطر من نشوب نزاعات مسلحة، وقد تتحول في ظروف معينة إلى حرب شاملة. وتكشف الدول العظمى عن سعيها الفعلي لتحقيق قفزة نوعية لتبلغ تفوقاً عسكريا- تقنياً، ويتم نشر قدرات عسكرية على أبواب روسيا تؤدي إلى خلق خلل كبير في التوازن العسكري. ولا يمكن روسيا أن تتجاهل أن حلف الأطلسي يمد مجال نشاطه ويسعى ليصبح قادراً على الحركة على المستوى العالمي.

رابعاً؛ إن أخطر التهديدات الداخلية هي النزعة الانفصالية التي يتم تشجيعها من الخارج لضرب سيادة روسيا ووحدة أراضيها.

 

خلاصة واستنتاجات

أولاً، من الواضح أن روسيا بوتين تصعد كقوة عظمى ساعية لاستعادة موقعها الذي لعبته في زمن الاتحاد السوفييتي. وهي دولة على قدر كبير من القدرة الاقتصادية (مصادر طاقة، ثروات طبيعية، معلوماتية...) والفعالية (العسكرية والسياسية) المتناقضة، حتى الآن، مع الكثير من عناصر وسياسات إيديولوجيا النيوليبرالية التي دفعت بالدول الصناعية المتقدمة إلى بناء وتسريع مفاعيل العولمة الرأسمالية المدمرة لدول واقتصاد بلدان العالم الثالث، ومنها العالم العربي والإسلامي.

ثانياً، تنهض روسيا كدولة تخوض صراعاً بوجه نزعة الهيمنة الأحادية الأميركية، خصوصاً وأن هذه النزعة هددتها وما تزال تهددها في مجالها الحيوي المباشر (مجال الاتحاد السوفييتي السابق، بلدان المعسكر الاشتراكي في أوراسيا).

ثالثاً، يقوم المشروع الروسي على مواجهة مشروع الأحادية الأميركية بالعمل وبالدعوة لإقامة نظام عالمي يقوم على التعددية القطبية، وعلى إحياء دور منظمة الأمم المتحدة ومؤسستها الأمنية الأساسية مجلس الأمن، كبديل عن اعتماد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على منظمة حلف الأطلسي.

رابعاً، تعتمد روسيا على تأسيس محالفات جماعية وثنائية (اقتصادية و/أو سياسية و/أو عسكرية) أبرزها منظمة شنغهاي، والسعي الروسي لمزيد من ترتيب العلاقات مع إيران وسورية.

خامساً، ثمة علاقات وثيقة بين روسيا والعالم والعربي والإسلامي (فضلاً عن توجه روسي لنسج علاقات جديدة مع هذا المجال الملتهب)، كالعلاقة مع إيران وسورية والمقاومة الفلسطينية (الاستقبال المبكر لحركة حماس بينما واجهتها مقاطعة أميركو أوروبية)... من شأن التوجه الإسلامي والعربي في ترسيخها أن يأتي بفائدة كبيرة لخدمة قضايا العرب والمسلمين. فالمجال الروسي والمجال العربي- الإسلامي يعانيان من سياسات الهيمنة الأحادية والعدوانية الأميركية، ومنطق الأمور يفترض بقيادتي المجالين المزيد من التنسيق والتعاون لمواجهة عدو مشترك.

 

[1]  سياسي روسي مخضرم، كان رئيساً سابقاً لجهاز المخابرات السوفييتية كي جي بي KGB، وعلى التوالي زيراً للخارجية ومن ثم رئيساً للوزراء، وهو اليوم أكاديمي ورئيس لغرفة التجارة والصناعة في الاتحاد الروسي.

[2]  راجع: Evgueni Primakov: La Russie rompt avec l’ultra-libéralisme; la seconde phase du redressement russe a commencé. Réseau Voltaire, voltairenet.org, 9 février 2007

تمت صياغة هذا المقال استناداً لمداخلة بريماكوف في ندوة "ميركوري كلاب" Mercury Club السنوية، في 12 كانون الثاني 2007، وبعد مراجعته بالروسية من قبل بريماكوف ترجمته وكالة الأنباء الروسية نوفوستي، ونشرته شبكة فولتير.

 

[3]  راجع: Russie: le retour de l’Etat dans l’économie, RIA NOVOSTI, 12 décembre 2006

[4]  تقدير الأرقام للمفوضية الأوروبية، أوروبا والطاقة: http://ec.europa.eu/cgi-bin/etal.pl

[5]  راجع: Susanne NIES, “La double contrainte qui pèse sur l'Europe de l'énergie”, ACTUALITÉS EUROPÉENNES, n°3, 23 février 2007, IRIS.

[6]  المعلق العسكري في وكالة الأنباء الروسية، نوفوستي، ومساعد رئيس التحرير في Independent Military Review "المجلة العسكرية المستقلة" الروسية.

[7]  راجع: voltairenet.org, 9 mai 2007

[8]  راجع حول هذا الموضوع: “La nouvelle doctrine militaire russe”, Général Gareev: “la Russie sera l’arbitre géopolitique des conflits à venire”, par Viktor Litovkine, Commentateur militaire de l’Agence RIA Novosti. Réseau Voltaire, Voltairenet.org, 26 janvier 2007