من نكسة
حزيران 1967 الى انتصار تموز 2006 |
إبراهيم ياسين
"هذه ساعة للعمل وليست ساعة للحزن... وهو موقف
للمثل العليا وليست لأية أنانيات أو مشاعر فردية. إن قلبي كله معكم وأريد أن تكون
قلوبكم كلها معي، وليكن الله معنا جميعا أملا في قلوبنا وضياء وهدى".
المعلم الخالد جمال عبد الناصر
تماما كما ظل الوطن العربي كله، ردحا طويلا من الزمن خاضعا ومقسما إلى ولايات وإيالات تابعة للسلطنة العثمانية، يُعين ولاتها ويُعزلون بفرمان يصدر عن الباب العالي في القسطنطينية... فأنه يجري على قدم وساق، وبتخطيط محكم وخطوات لم تتراجع أبدا، إعادة هذا الوطن الى حالته التي كان عليها قبل المشروع النهضوي العربي الذي قاده رائد القومية العربية جمال عبد الناصر. ولكن يتعين هذه المرة أن يكون مقسما الى ولايات وإيالات تابعة للسلطنة الأميركية، يُعين أيضا ولاتها ويُعزلون بفرمان يصدر عن الباب العالي في واشنطن، ولا نقول حتى الآن عن الباب العالي في تل أبيب!
نحن الناصريين... أول من يقر بأن ثمة هزيمة عسكرية وسياسية قد حاقت بالأمة العربية
في حزيران 1967... ونحن في ذات اللحظة أول من يصر إصراراً لا يلين على التقييم
العلمي والمنطقي والواقعي لما حدث، وقياسه على مقياس التاريخ ووقائعه، حتى يتبين
لشباب هذه الأمة حقيقة تاريخهم بهدف تعظيم ايجابياته، والتخلص من نقائصه، وذاك هو
ديدن البناء الحضاري على مدى التاريخ كله منذ أن اخترع الانسان الوطن... حيث كان
بناء هذا الوطن، والدفاع عنه، والموت دونه يعلو فوق كل الفرائض والعقائد.
وفي حزيران من عام 1967... من المؤكد أنه وخلال ساعات قليلة، ونتيجة تآمر كل القوى
المضادة للثورة العربية الناصرية، إن في داخل الوطن العربي أو في خارجه... تم تدمير
المفاصل الفاعلة للبنية العسكرية الأساسية للقوات المسلحة في كل من مصر وسوريا...
وفقدت بذلك الثورة ونظامها التقدمي ذراعهما العسكرية القادرة على حماية... الوطن
والأمة، الذي انكشف أمام العدو الصهيوني... والأميركي، بحدود ما.
وتصور البعض، وتمنى البعض الآخر أن التاريخ قد انتهى، وأن خط النضال قد انكسر، وأن
الثورة وقيادتها قد سقطا الى ما لا قيام بعده...الا أن التدمير الذي كان قد نال من
المفردات المادية، لم ينل من ارادة الثورة، ولا من الإصرار على مقاومة الهزيمة
والخروج إلى خارج دائرتها الخانقة.
إن شعبا يعي مغزى تجربته لا يمكن، على المدى الطويل، أن يُغلب، بل سيجعل من الهزيمة
محركا نضاليا، عبر عملية مراجعة لكل المواقف والقرارات التي أدت الى هذه الهزيمة
والعمل على تجاوزها. والحقيقة الواقعة ثورية دوما، لذا فإن بسطها أمام الشعب
وتحليلها والعمل بها لتجاوز الهزيمة هي الخطوة الأساسية التي يجب القيام بها. وهذا
بالضبط ما قام به جمال عبد الناصر.
ما أن تقدم عبد الناصر الى الأمة بسلوك هو فقط سلوك الأبطال الكبار، ويعلن مسؤوليته
الكاملة عما حدث، فإذا بالجماهير العربية من المحيط الى الخليج تخرج فجأة، وفي وقت
واحد يومي التاسع والعاشر من حزيران لتعلن رفضها للهزيمة، وتعلن تمسكها الواعي
واليقيني والأسطوري بقائدها، وأعلنت الجماهير بحسها الثوري، وطبيعتها الخلاقة
الرافضة للأنهزام والاستسلام... أن خسارة معركة ليست النهاية... وجددت ثقتها بقيادة
جمال عبد الناصر الثورية وعاهدته على البقاء وفية للثورة ومبادئها حتى تحرير الأرض
والإنسان معا... واستجاب القائد لإرادة الجماهير، وعاهدها بدوره على البقاء حرا
وفيا للمثل العليا للأمة والثورة... مستعدا من أجل الاستشهاد في سبيل تحقيق هذه
المثل الانسانية.
وانتصب القائد والمعلم والثائر والمقاوم... ليعيد للأمة ذاتها الرافضة للأنكسار
وللموت، ويعيد للتاريخ العربي استقامته..فبدأت بعد أقل من أسبوع واحد على الهزيمة،
عملية ثورية وفذة ونبيلة، لإعادة ترميم تداعيات الأنكسار... وفي مقدمتها إعادة بناء
وتدريب وتسليح القوات المسلحة، على قاعدة "أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة"
وأن "العدوان قائم، والمعركة مستمرة، وعلينا المواجهة". ولم تكن تلك العملية
الثورية الفذة والنبيلة هي فقط ما كشف عن التكوين المقاوم لقيادة الثورة، وعن
مصداقيتها الثورية، وعن زهدها في كل شيء وأي شيء سوى حاضر هذه الأمة ومستقبلها...
فإذا بعبد الناصر، البطل النبيل، يزأر في وجه أمريكا والصهيونية العالمية، والرجعية
العربية الخائفة والخائنة، خلال مؤتمر القمة العربية في الخرطوم عام 1967... ورغم
الهزيمة: "لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل... ورددت معه الأمة بإصرار وعناد
هذه "اللاءات الثلاث"، وكان ذلك تجليا لأنفصال الجماهير عن آليات الحكم الرجعية
التي تسيطر عليها، وإدراكها لكل القوى المعادية والمتآمرة على الأمة والخائنة
لها... ولثقة الجماهير بحكمة وقيادة جمال عبد الناصر الثورية.
لقد كان الهدف الأساسي للعدوان الاسرائيلي على مصر والأمة العربية، رأس عبد الناصر
العربي، أي المحتوى العربي للسياسة التي ينهجها عبد الناصر، ثم الأهداف التوسعية
الصهيونية الضمنية، وتكريس التفوق الاسرائيلي الدائم على الشعب العربي في كل
الميادين العسكرية والعلمية، وكذلك إبقاء شعبنا في حالة من التأخر والتخلف والضياع
عبر نشر المزيد من الأفكار الطائفية والمذهبية والعشائرية... من خلال أحزاب وجمعيات
وحكام ومثقفين مرتبطين بالامبريالية ودوائرها في بقاعنا العربية أو في العالم.
وبالنسبة للإمبريالية الأميركية، فأن سقوط عبد الناصر يطفيء الى أمد غير محدود بؤرة
تشكل مصدر ازعاج تارة وتهديد تارة أخرى "لأمن" الامبريالية وهدوء المنطقة، ويوطد
مراكزها السياسية والاقتصادية.
إن الإمبريالية الأميركية، في هجمتها الممعنة الشاملة على العالم الثالث، رأت في
تحركات اسرائيل العدوانية منفذا لتحقيق أحد أهداف هجمتها ووسيلة لها، وبخاصة بعد أن
فشلت في "تدجين" عبد الناصر عبر المساعدات والقروض...
مع بقاء عبد الناصر على رأس السلطة، وأسلوبه الشفاف في اعادة البناء، استردت الثورة
ثقتها بنفسها، واستردت الأمة روحها، واسترد التاريخ استقامته التي لا تأبه
بالخائفين ولا بالمرتعشة أيديهم ولا بالأنهزاميين. لأنه التاريخ الذي لم يكن ألا
تاريخ مقاومة العدوان والقهر... وذاك كان المحور الأوحد الذي شيد عليه البناء
الحضاري الانساني كله..
وظلت جهود "إزالة آثار العدوان" تتوالى بدأب وإصرار عنيد، حتى أمكن تمتين البناء
السياسي والاقتصادي والعسكري والنفسي للأمة وقواتها المسلحة.. الى أن رحل القائد
الى جوار ربه.. بعد أن كانت تلك الجهود قد أنتجت الأرضية الصلبة والأساسية التي
دارت عليها وبها أولا حرب الاستنزاف التي كانت من أعظم وأشرس المعارك التي خاضها
الجيش المصري ضد العدو الصهيوني وجيشه بعد النكسة مباشرة والتي أعادت للجندي العربي
المصري ثقته بنفسه وبسلاحه. والانتصارات التي حققها الجيش المصري خلال المواجهة في
هذه الحرب مع العدو أسقط مقولة "الجيش الذي لا يقهر"، والتي أدت بحق الى استنزاف
العدو وجره إلى معركة عسكرية استنزافية وطويلة، لا يستطيع أن يحتملها هذا العدو،
والتي لم يتعود عليها في تكتيكاته العسكرية، وهو المتمرس بالحروب السريعة والخاطفة،
وثانيا حرب أكتوبر عام 1973.
وهكذا، مهما كانت قسوة الهزيمة وفداحتها، فان الإرادة المصرة على المقاومة، والتي
جسدتها إرادة الأمة العربية كانا وبدون استثناء، عدا الخونة والرجعيين
والانهزاميين، وجسدتها إرادة جمال عبد الناصر وإبصاره حق أمته في أن تحيا وأن تتقدم
وأن ترد العدوان عنها... كانت الشرط الحاكم لرد العدوان مرة، ولاجتياز الهزيمة مرة
أخرى، وللإعداد لمنازلة ثالثة في أكتوبر 1973.
لعل الدرس الأكبر والأعمق للتاريخ، هو أن الشرط الحاكم للهزيمة هو نفسه الشرط
الحاكم للنصر! انه الإرادة الإنسانية التي إذا حضرت حضر النصر... وإذا غابت حضرت
الهزيمة، التي لاجتيازها لا بد من حضور الارادة الانسانية الرافضة لتلك الهزيمة...
أي إرادة النصر.
وهكذا، واتساقا مع التاريخ، احتفظ المشروع النهضوي العربي بزخمه واندفاعه، وظلت
الأمة قابضة على مواردها وطاقاتها وسيادتها وإرادتها، وتجرع العدو المر في حرب
الاستنزاف، واستمرت منظومة البناء والتشييد والتعليم والإسكان والعلاج كما هي،
وتضاعفت وتائر الإنتاج المدني والحربي، ونهض الأدب والفن والثقافة، ولم تهتز أو
تتخلخل قناعات الجماهير بأن مثلث العدوان التاريخي لهذه الأمة، إنما هو الامبريالية
العالمية والصهيونية والرجعية العربية.
ذلك كان مشهد الإرادة المقاومة، برغم الهزيمة... فما بال مشهد الخضوع، برغم النصر؟
كأن الأمة العربية الطافحة بالأمكانات والطاقات والموارد، قد خرجت من التاريخ!
وكأنها قد فقدت الذاكرة، فنسيت نفسها وتنازلت عنها، وكأن بصرها قد زاغ، فتساوى
لديها الصديق مع العدو، وكأن قواها قد خارت فرضيت بدور التابع، وقنعت بدور المهان!
وكأنها اختارت أن تنفس المكتوم فيها، في أن تقتتل هي مع نفسها، في فلسطين ولبنان،
لا مع أعدائها! وراحت هذه الأمة تتسول رضا الأعداء التاريخيين لها، فكان منها من
وقف على منصة الأمم المتحدة يرجو قوات الاحتلال الأمريكي ألا ترحل من الجزء الذي
أحتلته من جسد الأمة في العراق، ومنها من يتسول رضا العدو الاستيطاني العدواني
التوسعي في فلسطين، ومنها من يريد أن يؤجر لبنان منصة للأنقضاض على سوريا، ومنها من
قد عمى أو تعامى عما يجري في السودان وفي الصومال... وكان منها من تحالف مع العدو
لوأد أي مقاومة نبيلة يسمونها "ارهابا"! وكان منها من صاغ لها "مبادرة ذل وهوان
واستسلام" ترفع عنها العدو، وردها مرفوضة مقذوفة الى مكان اطلاقها وفي زمنه.
ان الصراع بين النظام العربي ونظام الشرق الأوسط– القديم الجديد– هو تعبير بغير شك
عن الصراع الأساسي في المنطقة العربية، وهو الصراع العربي– الغربي، الأمريكي
بالأساس. إن أساس الصراع العربي– الأمريكي هو المنطلق القومي للأمة العربية. فلم
تكن مشكلة السياسة الأميريكية في الوطن العربي، في أي يوم، مع هذا الحاكم أو ذاك،
وإنما كانت دائما مع القومية العربية التي بادر الساسة الأميريكيون من البداية الى
اعتبارها راديكالية وتعادي مصالحهم في المنطقة. والقومية العربية بالنسبة الى
الساسة الأميريكيين ليست فقط مذهبا يؤمن به حاكم عربي أو آخر، وإلا- لو كان الأمر
كذلك– لانقسمت السياسة الأميركية إلى سياستين: سياسة أميركية صديقة، وسياسة أميركية
معادية. ولكن السياسة الأميركية تعتبر القومية العربية أعمق وأشد خطرا من كونها
مجرد مذهب أو أيديولوجية يؤمن بها بعض الحكام العرب، ويحاربها البعض الآخر. لقد
أثبتت الولايات المتحدة الأميركية أنها أبعد نظرا وأكثر فهما لأمور العرب من بعض
العرب أنفسهم. فالقومية العربية بالنسبة اليها مذهب وأسلوب عمل ووجدان أمة وهياكل،
وهي– كما يجتهد الكثيرون منا لأثبات ذلك– ماض وحاضر ومستقبل، وبالتالي لا يعني قيام
حاكم عربي بأختيار موقف العداء للقومية العربية، إن هذه القومية لم تعد قيدا على
تصرفاته، أو لم تعد مفجرا لسياسات وقرارات يتخذها ضد رغبته. فالولايات المتحدة تعرف
جيدا أن الرأي العام العربي– رغم كل القيود المكبلة له– يشكل قوة ضاغطة على كثير من
الحكومات العربية، حتى تلك التي لا تعترف بوجوده، أو تسمح له بالتشكل داخل حدود
سياداتها. وتعرف الولايات المتحدة أنه في حالات معروفة تهورت حكومات عربية واتخذت
قرارات غير قومية، وفي كل الحالات دفعت هذه الحكومات ثمنا غاليا- ولو بعد حين-
تراوح بين عدم الاستقرار الداخلي، والاغتيال السياسي.
في زمن عبد الناصر هزمت الأمة العربية في معركة بالسلاح قي حزيران 1967، ولكنها لم
تخسر ارادتها السياسية، ولا استقلال قرارها، ولا تراجعت حتى في مشاريع التنمية
والبناء... وأعادت بناء ذاتها وقواتها، وتمسكت بكل ثوابت مشروعها للنهضة... في حين
أن هذه الأمة قد كسبت معركة بالسلاح في أكتوبر 1973... ورغم ذلك فقد بدأت في اليوم
السابع من تشرين الأول، ثاني أيام الحرب وقبل مباحثات الكيلو 101، طريق خسارة
ارادتها السياسية، وفقدان شكل ومضمون قرارها السياسي، وتقويض مشروعها للنهضة...
وأضحت تنتظر رضا العدو الأمريكي والصهيوني عما تبديه من سعي وهرولة إليه، أو ما
تقدمه اليه من "مبادرات".
انتزع جمال عبد الناصر الانتصار في بور سعيد عام 1956، لأنه كان ملتزما بخط
الجماهير وبقضاياها اليومية، فاستطاع أن يعبأها للقتال، ولأنها بعفويتها الثورية
وإيمانها بعبد الناصر وبما يمثل من مبادئ قومية وحدوية تحررية، خاضت المعركة تحت
قيادته وانتصرت. ولأنه كان يجسد الألتزام الوطني والقومي لم يقبل على نفسه أن يكون
خارج إطار من يتحمل مسؤولية هزيمة يونيو 1967، التي كانت نتيجة تضافر مجموعة من
العوامل، التي كانت تشكل ثغرات استطاع العدو أن ينفذ منها، وعمل عبد الناصر على
تجاوز هذه الثغرات من خلال إعادة بناء القوات المسلحة، وبخطط إصلاحية شفافة،
وبمحاسبة المقصرين.
ولم يكتب لعبد الناصر أن يبقى على قيد الحياة، ليقود إلى جانب سورية الحرب العربية
الأولى ضد العدو الصهيوني، بأفق التحرير الكامل. فحصلت الثغرة الثانية عندما أقدم
السادات على خذلان سوريا خلال المعركة، والدخول في حلول استسلامية جعل سوريا تقاتل
لوحدها نيابة عن الأمة كلها، ضد العدو الاسرائيلي المدعوم أميريكيا. ولذلك لم يكتب
لهذه الحرب أن تحقق أهداف عبد الناصر المرسومة لها في تحرير الأرض واستعادة الحقوق
العربية المغتصبة. لكنها أسست لأعادة الثقة بقدرة الانسان العربي، والجندي العربي،
على مواجهة الجيش والجندي الإسرائيلي .
غير أن هذه التجربة لم تكتمل الا مع ظهور نموذج المقاومة اللبنانية، التي اقتدت
بتجارب الشعوب الثورية، إلى جانب ما تتمتع به من خصائص لبنانية عربية، وطنية
وإسلامية، إلى جانب قيادة حكيمة تتمتع بخصائص قيادية قل نظيرها على مستوى الأمة،
فتمكنت من تحقيق انتصارين كبيرين على الجيش الصهيوني، وتحطيم أسطورته التي لا يقهر.
الانتصار الأول "التحرير والمقاومة" في 25 أيار عام 2000، والانتصار الثاني "الوعد
الصادق" في تموز عام 2006.
إن أعظم انجاز حققته المقاومة في تاريخ الأمة الحالي هو اجبار العدو الصهيوني على
الانسحاب من الجنوب اللبناني ومن البقاع الغربي بعد احتلال استمر 22 عاما، ولم
يتراجع العدو الا تحت ضربات وتضحيات متواصلة من المقاومة الوطنية ومن الشعب الذي
أحتضن هذه المقاومة ودافع عنها، وآمن بها. وتكرر هذا الاحتضان في تموز 2006 عندما
اعتدت دولة الغدر الصهيوني على لبنان المقاوم بدعم أميريكي ومحلي وربي معلن،
استطاعت المقاومة الصمود والانتصار على أعتى جيش في الشرق الأوسط بفضل تضحيات
المقاوم اللبناني الذي كان متسلحا بقوة الإيمان والصبر والإرادة والفداء. إن هذا
الانتصار لم يكن ليتحقق لولا هذا الاحتضان الجماهيري المتكلل بثقة بالغة وبقيادة
حكيمة وطنية مؤمنة بخط ثوري جماهيري ملتزم بقضاياها، وإرادة شعبية مصممة على الدفاع
والانتصار. لقد كانت المرة الأولى التي تجلو فيها اسرائيل عن أرض عربية بالقوة، كما
كانت المرة الأولى التي أخلت فيها اسرائيل أرضا عربية، من دون أن تخلف وراءها علما
يخفق فوق سفارة، أو فوق أرض عربية أخرى. لقد كان الجلاء بقوة الحديد والنار
وبالتضحيات التي قلّ مثيلها و"بلا قيد أو شرط". إن هذا الانتصار قد فرض معادلات
ميدانية جديدة على أرض الواقع، سياسيا وعسكريا. وبالتالي نستطيع أن نؤكد بأن العد
العكسي للتفوق الاسرائيلي في المنطقة قد بدأ بالتراجع، وبزغ من جديد "عصر الشعوب
المقاومة".
وبعد مئات السنين، وحينما يكتب التاريخ بشرف وأمانة، وبغير أحقاد وعقد، فإن التاريخ
سوف ينصف جمال عبد الناصر حتى في هزيمة يونيو1967... أبسط ما سوف يقال عنه: أنه كان
رجلا... تحمّل مسؤوليته بشجاعة، وتقبل الحساب عنها في كبرياء... ومثّل كرامة وإرادة
أمة بأسرها في يوم من أحلك أيامها... وكان وسط الظلام والعواصف والمؤامرات الدولية،
آمن بوطنه وأمته وبمثلها العليا، وأعطى حياته لخدمة هذه المثل بشرف. فقد أصاب مرات،
وأخطأ مرات... لكنه حارب طوال الوقت، بأيمان ويقين، ولم يستسلم حتى النفس الأخير...
وهكذا يفعل الرجال!
الهوامش
1 - المؤتمر الناصري العام، بيان إلى الأمة العربية، "ولايات السلطنة
الأمريكية.
2 – المؤتمر الناصري العام، بيان إلى الأمة العربية، "يونيو 67" ارادة المقاومة..
ومأتم الانهزاميين!
3 – فلسفة الثورة.
4 – ثورة 23 يوليو 1952، الدكتور مجدي حمّاد، مركز دراسات الوحدة العربية.
عبد الناصر... العرب
لم يشهد تاريخ الأمة العربية المعاصر رجلا أعظم وأقوى وأصلب وأكثر إخلاصا من جمال
عبد الناصر، ولم يحب العرب المعاصرون زعيما ويخلصوا في حبه كما أحبوا جمال عبد
الناصر.
ومنذ مئات السنين عندما اتجه خط سير الحضارة العربية نزولا، ومرت على أمة العرب
عصور الانحطاط السياسي والفكري والاقتصادي، لم يولد زعيم يمسك بيده راية القومية
العربية، ويقاتل تحتها حتى يسقط شهيدا من أجلها غير جمال عبد الناصر.
وإذا جعلنا صلاح الدين الأيوبي رمزا للبطولة والانتصار في العهود الصليبية، فأننا
لا نستطيع الا أن نجعل جمال عبد الناصر بطل هذا العصر العربي، ورمزا للبسالة
والجرأة فيه، ومقارعة قوى الاستعمار.
رغم كل ما حصل فان القرن العشرين هو غير القرون السالفة، انه قرن جمال عبد الناصر
العظيم، وبلا منازع. هنيئا لمن ولد وعاش في زمن جمال عبد الناصر.