الشرق الأوسط ورياح التغيير |
العرب والعولمة
عند بدايات القرن الحالي ظن العديد من المؤرخين أن القرن الجديد سيكون قرناً أميركيا بامتياز. فالقطب العالمي الثاني قد تقوض بفعل أزماته الداخلية، الاقتصادية والسياسية، تاركاً العالم تحت رحمة الولايات المتحدة بنظامها الرأسمالي وإيديولوجيتها الليبرالية الجديدة، الممثلة لمصالح الرأسمالية العالمية في مرحلتها الأكثر احتكاراً وعولمة. وطلعت علينا مراكز الثقافة الغربية بمقولات صراع الحضارات ونهاية التاريخ وأبدية هيمنة الثقافة الغربية على العالم وأمركته، هيمنة ثقافة الفردية المطلقة وقيم الاستهلاك، وأخلاقيات السوق الحرة المنفلتة من أي قيود. وتم إسقاط قيم العدل والمساواة، وإسقاط شرعة حقوق الإنسان، وقيم الثورة الفرنسية وعصر الأنوار كما عصر دولة الرعاية وحركات التحرر الوطني التي انبثقت بشكل خاص بعد الحرب العالمية الثانية.
ولكن سرعان ما تبين أن الإمبراطورية الأمريكية قد تجاوزت عصر شبابها رغم انهيار الاتحاد السوفييتي، وان أسباب قوتها وتفوقها قد بدأت بالتآكل منذ بداية الثلث الأخير من القرن الماضي. أما قوتها العسكرية المنفلشة في العالم بأكثر مما تسمح قواها الاقتصادية، فغير قادرة على التعويض عن ضعفها الاقتصادي النسبي.
وأتت اندفاعة المحافظين الجدد في أميركا في مغامراتهم العسكرية الامبريالية، وفي عودة الامبريالية الجديدة إلى طرق الاستعمار البائد، في احتلال الدول ونهبها المباشر، لتكشف مقدار ضعف هذه الامبريالية الجديدة، وعجزها عن تأبيد سيطرتها ونهبها لدول العالم الثالث. فوقوع أميركا في الفخ العراقي بشكل خاص، وبالرغم من الدمار الهائل الذي ألحقته وإذنابها بالعراق وشعبه واقتصاده، من دمار يفوق كل دمار لحق بأي دولة خلال الحرب العالمية الثانية، ويقارب ما وعد به بوش شغب العراق من إرجاعه إلى العصر الحجري، فإن عهداً جديداً قد فتح للعديد من شعوب العالم.
فرياح الفوضى الخلاَقة التي نفخت بها أميركا على المشرق العربي ومحيطها الإسلامي بشكل خاص، لم تخلق نظاماً من فتات الدول المذهبية والطائفية والإثنية، تدور في الفلك الإسرائيلي، بل خلقت موجات عارمة من الممانعة والمقاومة للهجمة الامبريالية الصهيونية. فقد استطاعت معظم دول أميركا اللاتينية من الانعتاق من القبضة الأميركية، مسقطةُ مبدأ مونرو الذي جعل من أميركا اللاتينية حديقة خلفية لها. ورغم حصار إيران وسوريا وكوريا الشمالية، فقد خرجت هذه الدول التي سموها "محور الشر" أقوى واصلب عوداً مما كانت عليه، فاندفعت أميركا إلى المساومة معها، بل عمدت إلى استرضائها لستر هزيمتها التاريخية في العراق وأفغانستان.
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أصبحت الإمبراطورية الأميركية بأمس الحاجة إلى اختراع فزّاعة جديدة لشعبها، لتثير لديه المخاوف والهواجس الوهمية التي تهدد أمنه ومصالحه، لتوجيه غضبه إلى الخارج بدل انفجار هذا الغضب ضد الطبقة الحاكمة، الممثلة لمصالح الشركات المعولمة والمؤسسات المالية، والمجتمع الصناعي النفطي العسكري. فمنذ بداية الثمانينات أخذت المداخيل الحقيقية للطبقات العاملة بالتدهور، واخذ نصيب هذه الطبقات من الناتج الأميركي بالتناقص، لمصلحة نمو الأرباح بمعدلات عالية.
ويشهد العالم الإسلامي بوادر نهضة حقيقية. لم يرهبه الإعلام الغربي ودعاته المحليون للمساواة بين الإسلام والإرهاب، بغية إسقاط الجهادية الإسلامية، وحركات الإسلام الشعبي المعادية للإمبريالية والصهيونية. فقد أثبتت الجماهير العربية والإسلامية تعلقها بقيم الإسلام ومثله، وظهرت قدرة العقيدة الإسلامية الجهادية والأخلاقية على حث الجماهير ودفعها على طريق النضال والتحرر. كما نمت إلى حد بعيد المصالحة بين التيارات الثلاث، الإسلامية والقومية واليسارية. فالعديد من الحركات الإسلامية الجهادية مثل حزب الله وحماس هم قوميون يساريون بشكل ما، ويمثلون يسار الحركات الإسلامية غير المتصالحة مع الإسلام اليميني الرسمي التابع لأنظمة تابعة والساعية إلى تحرير الأرض والأنظمة والإنسان.
كما تمثل حركية الإسلام التركي المنفتح والمعادي بجماهيره الواسعة للهيمنة الأميركية الصهيونية، نمطاً جديداُ من الإسلام المتصالح مع العلمانية، والقائد للنمو الاقتصادي والتحديث الشامل.
فهل يبشر قيام الثورة الإسلامية في إيران والتحولات التاريخية في تركيا، والتي ستعيد تركيا إلى محيطها الطبيعي وتراثها الإسلامي العميق، كما الحركات الجهادية في لبنان وفلسطين والعراق، والتي تلقى صدى عميقاً في طول الوطن العربي وعرضه، والتقاء هذه القوى الثلاث الإيرانية والتركية والعربية، هل تبشر هذه التحولات بقيام قطب عالمي جديد، لديه إمكانات مادية وروحية وأخلاقية كبيرة بإحداث تغيير في مسيرة الحضارات العالمية؟
العرب والعولمة