القمة الروسية الأميركية: العالم إلى أين؟ |
د. جوزف عبدالله
في أجواء تدهور العلاقات الروسية الأميركية خصوصاً في الفترة الأخيرة، التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي جورج بوش الابن في الأول والثاني من تموز في مقاطعة ماين Maine (شمال شرق الولايات المتحدة). لم يعلن الرئيسان، وفي ذلك شاركتهما كل التوقعات، أنهما سينتهيان إلى إقرار حلول للخلافات العميقة بين موسكو وواشنطن. ولكن الجميع اتفق على وجود هدف أساسي واحد: إعادة إطلاق التعاون الثنائي الذي بدأ بعد صدمة 11 أيلول 2001. هذا مع العلم أن هذا اللقاء يشكل الفرصة الأخيرة للرئيسين لوقف انحدار العلاقات المتزايد بين بلديهما. فهل تمخض لقاء القمة الروسي الأميركي عن تبديد مظاهر الحرب الباردة التي تلوح حول العلاقات بين موسكو وواشنطن؟ وماذا أراد كل من بوتين وبوش من لقائهما هذا؟
مكان اللقاء وطبيعته
يعود اختيار مكان اللقاء في ملكية العائلة التراثية، كينيبانكبورت Kennebunkport، حسب ساره مندلسون Sarah Mendelson، من مركز الدراسات الدولية والإستراتيجية Centre d'études internationales et stratégiques CSIS، إلى رغبة الرئيس بوش الابن في خلق جو من الانفراج في العلاقات مع الرئيس الروسي وتعميق جو الصداقة الشخصية التي بدأت معه منذ ست سنوات في اللقاء الودي الذي جمع الرئيسين في سلوفانيا قبل ثلاثة أشهر على صدمة 11 أيلول. وكان بوش يتباهى، إثر هذا اللقاء، أنه "أدرك ما يجول في خاطر بوتين". ولعله، على حد قول ماندلسون، أراد مجدداً تمتين العلاقة الشخصية في جو عائلي".
جاءت القمة كزيارة غير رسمية يقوم بها بوتين إلى منزل عائلة بوش. وحصلت في جو من الاسترخاء والصداقة الحميمة، تخللته رحلة لصيد السمك في الأطلسي على يخت يقوده الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب. وفي العادة يتم استقبال الحلفاء المميزين في كامب ديفيد، ويتم تكريم الشركاء باستقبالهم لأسبوع في مزرعة كراوفورد (تكساس). ولكنها المرة الأولى التي يستقبل فيها جورج بوش الابن أي رئيس في هذا المنزل العائلي التاريخي الذي بناه بوش الجد، وذلك بحضور بوش الأب، لمزيد من الملاطفة أو التملق.
لا يتوقع البيت الأبيض الكثير من نتائج هذا اللقاء، ولكنه ينتظر تحسناً في أجواء العلاقات الروسية الأميركية التي تدهورت في السنوات الأخيرة. فبعد أن كانت العلاقات في بداية الولاية الأولى لكل من الرئيسين حميمة لدرجة دفعت بوش إلى التصريح في أيار 2002: "اليوم، الولايات المتحدة وروسيا صديقتان"، كانت اللقاءات اللاحقة تشهد المزيد من تراجع التفاهم ليحل مكانه اتساع الهوة والتناقض في المواقف، خصوصاً منذ غزو العراق. وفي تشرين الأول الماضي كتب جيم هوغلاند Jim Hoagland، واضع افتتاحيات واشنطن بوست، تصريحاً أسر به الرئيس بوش للمقربين منه: "لقد خسرنا بوتين. وأخشى ما يخشاه الرئيس الروسي هو الديمقراطية". ولهذا يرى السفير السابق، ستيف بيفر Steve Pifer: "تشكل كينيبانكبورت الفرصة الأخيرة الحقيقية لوقف هذا الانحدار السلبي".
قمة رئيسين على شخصيتين نقيضتين
إنه لمما عقد وضع هذه القمة والنتائج التي تمخضت عنها التناقض الصارخ بين وضع كل من بوتين وبوش داخل دولته ومجتمعه. فالرئيس بوش يعاني وضعاً صعباً لصراعه مع الغالبية الديمقراطية في الكونغرس بمجلسيه، ولتراجع شعبيته إلى حدود دنيا، خصوصاً بفعل نتائج غزو العراق الكارثية على الجميع، وهو يحاول بشق النفس الاستمرار في الإدارة لمدة التسعة عشرة شهراً المتبقية له. وبالتالي لا جدوى من الرهان على التوافق مع رئيس، كبوش، تشرف ولايته على نهايتها، ولا تملك سياسته حظاً في استمرارها من بعده. هذا فضلاً عن أن هامش المناورات العسكرية والدبلوماسية باتت محدودة أمام الولايات المتحدة بفعل نتائج غزو العراق وأفغانستان...
هذا بينما يتمتع الرئيس بوتين الذي ستنتهي ولايته في العام 2008 بوضع ممتاز يجعله متأكداً من استمرار سياسته، لأنه يشرف عملياً على انتخاب خلفه. وما ذلك إلاً لأنه نجح في عودة روسيا بقوة إلى الساحة الدولية بفعل السياسات التي اعتمدها في الداخل والخارج، وهو يستند إلى ما في روسيا من ثروات طبيعية، خصوصاً الطاقة، وما لديها من استعدادات عسكرية وطموحات تاريخية، فضلاً عن ضبطه لتطور روسيا الاجتماعي بابتعاده عن الليبرالية المفرطة، ومراعاته للشعور القوي الروسي، ما جعل شعبيته في ارتفاع مستمر.
يعني كل ذلك أن لبوتين قدرة أكبر من بوش على المناورة والضغط على خصمه في جميع المفاوضات التي يخوض فيها.
قمة تصورين نقيضين للعلاقات الدولية
يتصف لقاء بوش وبوتين بأنه لا يجمع رئيسين متناقضين في الوضعية الشخصية لكل منهما فحسب، بل إنه يشكل حواراً بين تصورين متناقضين للعلاقات الدولية. صحيح أن روسيا والولايات المتحدة دولتان رأسماليتان، وبالتالي فالحوار، أو التوافق والاختلاف، بينهما يختلف عما كانت عليه حال الحوار في زمن روسيا السوفييتية المتناقضة جذرياً في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة مع الولايات المتحدة. ولكن يجدر بنا التمييز بين طبيعة كل من الرأسمالية الأميركية وما ترسمه من سياسات داخلية وخارجية، والرأسمالية الروسية. كان المجمع الصناعي- العسكري- النفطي- المالي في الولايات المتحدة يسعى إلى توسيع رقعة هيمنته العالمية لتشمل الكرة الأرضية (العولمة النيوليبرالية العسكرية على الطريقة الأميركية)، ولكن مسعاه بدأ ينتهي بالفشل، ما جعل "الإمبراطورية الأميركية (في) بدايات السقوط" (عنوان دراسة صدرت على ثلاث حلقات في "العرب والعولمة، الأعداد 37 و38 و39). هذا بينما الرأسمالية الروسية تبدو صاعدة وعلى حيوية كبيرة، وتبحث في المرحلة الراهنة عن العودة بروسيا إلى موقعها الذي خسرته لعقد ونصف من الزمن تقريباً. وهذا ما يجعلها في تناقض مع طموح التفرد الأميركي، وداعية للتعددية القطبية، وبالتالي قادرة على محاورة الولايات المتحدة من موقع قوة صاعدة في مواجهة قوة هابطة.
إن هذه الحال تعني أن القمة تقوم بين عملاقين لكل منهما تصور للنظام العالمي يختلف عن تصور الآخر.
التصور الأميركي للنظام العالمي: يحمل الرئيس بوش تصوراً يستند إلى قناعة بالدور الرسولي الذي على الولايات المتحدة أن تلعبه في العالم، على قاعدة التدخل الأميركي المطلق في كل الأمكنة، باسم: "الحرب على الإرهاب"، وتنشيط الديمقراطية، وتطوير زعامة الولايات المتحدة على العالم بتعميم نموذجها ودورها في المجال الاقتصادي (النيوليبرالية) والسياسي (العولمة والعسكرة). وعليه ينطوي هذا التصور على الزعم بأن العالم لا يمكنه الاستغناء عن زعامة الولايات المتحدة الملزمة بالاستجابة لدعوتها في قيادته لما فيه مصلحة الجميع: وهذا ما يتم التعبير عنه بنزعة الهيمنة الإمبراطورية، أو الأحادية الأميركية، أو القطب الأوحد الهائل القدرة.
التصور الروسي للنظام العالمي: طورت روسيا مقاربة مختلفة ومناقضة للتصور الأميركي. هذا التصور الروسي بعيد عن النزعة الإيديولوجية، وأكثر التصاقاً بالقضايا الراهنة التي تعيشها الإنسانية، وتقوم دعوته على الشراكة والتفاعل مع الآخرين...، ما يجعله على نقيض التصور الإمبراطوري الأميركي. ويستند التصور الروسي إلى مبدأ الاحترام المتبادل لسيادة الدول وتطوير التعاون والشراكة بينها من أجل الصالح العالمي العام الذي تعمل جميعها معاً على تحديده. هذا بينما يقوم التصور الأميركي على تقديم الدروس وتعيين المسار الذي على الآخرين إتباعه. ويدعو التصور الروسي في حالات الخلافات الدولية إلى دبلوماسية الأمم المتحدة ومؤسساتها، بعكس النزعة الأميركية إلى تشكيل محالفات عسكرية تتجاوز المؤسسات الأممية.
وعلى العموم هناك تصوران: الأميركي وهو أبوي واستعماري فظ؛ والروسي يقوم على الاحترام المطلق للسيادة القومية مهما كانت طبيعة النظام القائم فيها.
موضوعات القمة
ماذا يريد بوش من بوتين، وهو يدعوه إلى هذا اللقاء؟ وماذا يريد بوتين من بوش، وهو يلبي الدعوة؟ وبالتالي ما هي الموضوعات التي طرحها الرئيسان قيد التداول في لقائهما؟
لا شك أن بوتين استحق هذا الاستقبال الحميم في منزل العائلة البوشية التراثي بفضل قدرته على إعاقة المشاريع الأميركية في العالم. وفي هذا الأمر يرى جيم هوغلاند في عدد واشنطن بوست في 1-7-2007، أن: "روسيا بوتين تنشد القوة بلفتها الانتباه دوماً إلى قدرتها على أعاقة أهداف الولايات المتحدة في الخارج".
وفي هذا السياق يرفع بوتين من حدة خطابه. فبعد أن استنكر في شباط من هذا العام الإفراط الأميركي في استخدام القوة، بلغ في أيار حد تشبيه الولايات المتحدة بألمانيا النازية، وفي حزيران اعتبر حرب فيتنام أسوأ من المرحلة الستالينية. ولا بد أن تؤدي تصريحات بوتين هذه إلى المزيد من التوتر والقلق في العلاقات الثنائية الروسية الأميركية، وإلى المزيد من إحراج بوش وإدارته. ومن هنا سعي الرئيس بوش إلى أن يغمر ضيفه بكل مظاهر اللطافة والاسترخاء والحفاوة العائلية، على أمل الظهور بمظهر الساعي إلى الانفراج، وبمظهر باني التوافق مع روسيا، فيخفف بذلك من غلواء النقد الداخلي السلبي تجاهه.
أما الرئيس بوتين فيرى في هذه القمة فرصة لروسيا لتبرهن على أهميتها وتأثيرها الدوليين، بعد عقد من التراجع. وفي هذا ترى ماندلسون: "المقصود أن تبرهن روسيا على عودتها، وعلى ضرورة التعاون معها، وانه لا يمكن تقرير أي أمر بمعزل عنها".
ثمة الكثير من القضايا التي تفترق فيها موسكو عن واشنطن وتم استعراضها في القمة. فالبلدان يتعارضان حول القضايا التي تدور في مجال المعسكر السوفييتي السابق، ومنها الموقف من المعارضة الروسية في استونيا، والوضع في الشيشان، واستخدام روسيا للغاز والنفط كسلاح في دبلوماسية حادة غرضها وضع روسيا في طليعة الساحة الدولية. وتركز واشنطن على ما تسميه قمع المعارضة الروسية لدرجة أن واشنطن تعتبر أن موسكو باتت "في موقع المراوحة بين الديمقراطية والديكتاتورية": تقييد حرية وحركة المعارضة، وخصوصاً المنظمات غير الحكومية...
كما أن جو الاسترخاء لم يلغِ التوتر والتناقض حول مصير كوسوفو. من المعروف أن وضع كوسوفو رفع من درجة التوتر بين واشنطن وموسكو التي قابلت السعي إلى استقلال هذا الإقليم بمعارضة حاسمة. وهي تهدد بطرح الفيتو بوجه المشروع المدعوم من الولايات المتحدة والقاضي بمنح الاستقلال للإقليم الصربي. لقد أحبطت روسيا، على مدى ثلاثة أشهر، أربعة مشاريع لقرار يقضي باستقلال هذا الإقليم تقدمت بها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.
ومن الموضوعات الملف النووي الإيراني الذي زعم يوش أنه تم تسجيل بعض التقارب حوله، ولكن دونما اتفاق على الخط الواجب إتباعه مع طهران. ومع ذلك لم يتورع الرئيس الأميركي عن التصريح قائلاً: "عندما تعبر روسيا والولايات المتحدة عن نفس وجهة النظر، فلذلك تأثيره، وبالتالي فإني أقدر موقف الروس في الأمم المتحدة".
أبرز موضوع خلافي: الدرع الصاروخية
غير أن ذروة نقاط الخلاف تتعلق بالدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا الشرقية وبتوسيع حلف الأطلسي. وتؤكد القيادة الروسية إن الدرع الصاروخية هي وليدة "حرب النجوم" التي وضعها البنتاغون في زمن الرئيس ريغان، من أيام الحرب الباردة، ومن شأنها أن تقلب الموازين الجيوإستراتيجية في العالم وتهدد مباشرة الأمن الروسي.
مهما كان مآل الدرع الصاروخية التي تسعى الولايات المتحدة لنشرها في أوروبا، فهذه المسألة قد أصبحت أزمة يتعامل الروس معها بتصميم وعناد حاسمين، وبطريقة لا تكف عن مفاجأة الأميركيين مصممي هذه العملية.
جاءت المفاجأة الأولى يوم شن الرئيس بوتين، في خطاب احتفالي مطول، في مؤتمر ميونيخ حول الأمن، هجوماً عنيفاً على الولايات المتحدة، خصوصاً لتطويرها هي بالذات أسلحة الدمار الشامل.
كانت المفاجأة الثانية في قمة الثمانية الكبار عندما صارت قضية الدرع الصاروخية الأميركية أزمة على أجندة الأزمات الكبرى الراهنة، وعندما اقترح الروس حلاً بإقامة قاعدة رادار مشتركة بين الولايات المتحدة وحلف الأطلسي وروسيا. ووقف الأميركيون حيارى أمام الاقتراح الروسي. وكرد على ذلك أعلنت الولايات المتحدة أن اقتراح روسيا باعتماد محطة الرادارات في أذربيجان لا يمكنه أن يحل مكان القواعد التشيكية.
جاءت المفاجأة الثالثة في قمة بوتين- بوش، في كينيبانكبورت، باقتراح بوتين إقامة نظام مشترك بين روسيا وحلف الأطلسي، يكون بديلاً عن النظام الذي يريده الأميركيون وأكثر فعالية منه. هنا مرة أخرى تفاجأ الأميركيون. إن بوتين أقترح إقامة مراكز لتبادل المعلومات في موسكو وبروكسل، واستخدام مشترك لمحطة الرادار التي تشيد في ضواحي ارمافير جنوبي روسيا إلى جانب محطة الرادار في غابالا في أذربيجان لمواجهة أي عمليات لإطلاق الصواريخ. وأضاف بوتين قائلاً لبوش: "هذا ما يجعل العلاقات بين بلدينا في مرحلة جديدة تماماً". ووصف بوش اقتراح بوتين بأنه "صريح للغاية" و"مبدع للغاية".
جاءت المفاجأة الأخيرة، غداة قمة بوتين- بوش، في 4-7-2007، مع تصريحات إيفانوف، أحد أبرز مرشحَين لخلافة بوتين، هذه التصريحات التي تم اعتبارها كتهديد بالعودة إلى الحرب الباردة.
أزمة الصواريخ مرة أخرى
لقد هدد نائب رئيس الوزراء الروسي إيفانوف، بنصب صواريخ في كالينينغراد عند الحدود مع بولندا، إذا رفضت واشنطن الاقتراح الروسي في ما يتعلق بالدرع الأميركية المضادة للصواريخ. وقال: "إذا لم تؤخذ اقتراحاتنا بالاعتبار فإننا سنتخذ الإجراءات المناسبة. سنجد ردا فعالا ومماثلا. إننا نعرف ماذا نفعل". وأضاف إنه "إذا تم تبني مقترحاتنا فلن يكون هناك ضرورة بالنسبة لروسيا لنصب صواريخ جديدة في القسم الغربي من البلاد، في كالينينغراد، من أجل التصدي للخطر في حال البت نهائيا في قضية نشر الولايات المتحدة لمنظومة الدفاع المضاد للصواريخ في بولندا وتشيكيا". وشدد على انه "إذا وافقت واشنطن على الاقتراح الروسي، فإنك ستنسى تعبير الحرب الباردة. سيختفي ببساطة. لن يكون هناك سبب للحديث عنه".
عودة الحرب الباردة
إن التهديد الروسي بنصب الصواريخ وتوجيهها نحو أهداف أوروبية في حال رفضت واشنطن التراجع عن الدرع الصاروخية، يعني افتتاح الحرب الباردة مجددا، بنوع من العودة إلى أزمة صواريخ "س س 20" SS-20، قبل أكثر من عشرين سنة. وهنا يعود بوتين إلى خلق حالة نفسية، في مشهد معكوس عما كانت الحال عليه في عز الحرب الباردة، من شأنها أن تدفع أوروبا إلى الابتعاد والتميز عن الولايات المتحدة. لنتذكر ما قاله في حينه فرانسوا ميتران، الرئيس الفرنسي الأسبق: إذا كان أنصار السلم في الغرب، فالصواريخ في الشرق. وقتها صرح الخضر، أنصار السلم، في ألمانيا الغربية: "أن نكون من الحمر أفضل من أن نكون من الأموات"، "أن نكون تحت نير الشيوعية، أفضل من أن نتحول إلى فلذات بلورية". هكذا تلوح في الأفق بيارق الحرب الباردة بعد أكثر من عشرين سنة على أزمة الصواريخ، وبعد أكثر من 17 عاماً على سقوط جدار برلين.
وهنا يلعب الرئيس بوتين الدور الذي كان لعبه أندروبوف قبل أكثر من ربع قرن بالتهديد بتوجيه الصواريخ الروسية إلى أهداف أوروبية، لأن ما تقوم به الولايات المتحدة يعني "تعديل توازن القوى النووية في العالم".
تلاحظ روسيا أن بلدان أوروبا الشرقية مع انتمائها إلى الاتحاد الأوروبي يبدو أنها تتجه نحو الولايات المتحدة بميل أشد من اتجاهها نحو أوروبا. وفيها تجد واشنطن حصاناً رابحاً كحصان طراودة، ومن ذلك أنها تتجه بحلف الأطلسي نحو الشرق، وفي الحديقة الإستراتيجية للاتحاد الأوروبي ولروسيا، وتعمل على تحويلها إلى حديقة لـ"أوربا الجديدة" التابعة للولايات المتحدة بدل "أوروبا العجوز" الممانعة. ومن ذلك نشر القواعد العسكرية الأميركية حول البحر الأسود في بلغاريا ورومانيا، ومشاريع الدرع الصاروخية في بولونيا وتشيكيا. وهذا ما يكشفه بحث وضعه رونالد هاتو وأوديت توميسكو في مؤلفهما "الولايات المتحدة و"أوروبا الجديدة"، حيث يرسم المؤلفان بدقة الخطوات العسكرية والثقافية لهذه الإستراتيجية التي تمكن واشنطن من محاصرة روسيا وتقسيم أوروبا.
المناورة الروسية: فصل أوروبا عن الولايات المتحدة
الغرض الروسي من التهديد بنشر الصواريخ هو التأثير على حكومتي تشيكيا وبولونيا، أو التأثير على الأوروبيين لعزل هاتين الحكومتين، أو للجم الاندفاعة الأميركية. لقد اقترح بوتين على بوش شراكة روسية فعلية في الدرع الصاروخية والمراقبة النووية والفضائية. وطرحت موسكو بديلاً لاقتراحه، في حال عدم قبوله، تصويب الصواريخ الروسية على أوروبا. والمقصود من طرح هذا البديل ممارسة الضغط على أوروبا، لتضغط بدورها على الولايات المتحدة، أو لتنحاز بالتالي إلى جانب روسيا.
يستخدم الروس في أزمة الدرع الصاروخية تقنية العصا والجزرة. يقدمون عرض التعاون والشراكة مع الأميركيين والأوروبيين (وحلف الأطلسي)، ويتبعون ذلك بالتهديد بأزمة صواريخ جديدة. ويساعدهم في ذلك بعض ردود الفعل الغربية التي يسعى الروس بالذات لإثارتها. من ذلك عنوان التايمز: "تهديد الصواريخ الروسية الموجهة إلى أوروبا يرفع الخوف من حرب باردة تسببها الدرعِ الصاروخية الأمريكية". هذا في ما يخص أوروبا.
وفي ما يخص الولايات المتحدة بالذات، يتم اعتماد مبدأ المفاجأة مع كل مبادرة روسية. يتوافق هذا الموقف مع واقع أزمة السلطة في الولايات المتحدة، ما يبدو أن بوش والبيت الأبيض، مركز الإدارة الأساسي، قليل الاهتمام به. لقد فاجأ اقتراح بوتين الجديد في القمة البيت الأبيض، لا سيما وأن القمة لم تكن في تصورها مكرسة لغير تظاهرة في العلاقات العامة، لا أكثر.
وعليه، فإن القضية الأساسية ليست بين الروس والأميركيين بقدر ما هي بين الروس والأوروبيين. تلعب موسكو بدون شك على قلة اعتبار البيت الأبيض للأوروبيين، فتمارس الضغط عليهم بغية إنذارهم و/أو قسمتهم. من المعروف أن الولايات المتحدة تكتفي في اجتماعات حلف الأطلسي بإبلاغ الآخرين ما عليهم قبوله والقيام به. وعليه تبدو أوروبا مع أزمة الصواريخ الروسية التي سببتها الدرع الصاروخية الأميركية كأنها منجرفة في مبادرة إستراتيجية تعنيها مباشرة وباتت تهددها، ولكنها لم تتخذ هي قرارها، ما يثير تحفظات كبيرة لدى بعض دولها.
وتعمد موسكو إلى رفع التوتر مع توسع الأزمة، مستفيدة من حقيقة أن المفاوضات بين الولايات المتحدة وتشيكيا وبولونيا، البلدين الأوروبيين المعنيين بالدرع الصاروخية، لم تنته باتفاق نهائي بعد. تستفيد موسكو من الوقت لتطور تكتيكها هذا واستثماره بأن تغذي في أوروبا خصوصاً الشعور العام بأزمة تباعد يوماً بعد يوم بين الولايات المتحدة وبعض حلفائها الأوروبيين. وكلما تطور المشروع الأميركي كلما ارتفع التوتر، وأصبحت الأزمة أكثر حدة.
خلاصة القمة
لقد انتهت قمة بوتين- بوش بفشل ذريع للولايات المتحدة التي ظن رئيسها أن المجاملة والحفاوة العائلية ستحسن من صورته بنظر الأميركيين، وستخفف من حدة الصعود الروسي في لقاء غايته الغالبة تحسين العلاقات العامة.
بينما شكلت القمة مناسبة لموسكو بحيث تخلط الأوراق، فتشرك الأوروبيين باتجاه الحد من اندفاع واشنطن وحثهم على لعب دور في تعديل سياسات الولايات المتحدة، وإلاّ تعرضوا لخطر تحولهم إلى ميدان لصراع بأسلحة الدمار الشامل.
اللعبة الروسية واضحة، وتجري بكل جدية وثبات، مستفيدة من أزمة الإدارة الأميركية، وتردد وارتباك الإدارة الأوروبية. ولعل أمامها فرصاً جدية للنجاح.
لا شك أن بوتين المتخرج من مدرسة المخابرات السوفييتية، كا جي بي KGB، والممثل لبلد كروسيا تحول إلى الرأسمالية، وخلفه تاريخ عريق، ويمتد لأكثر من ألف سنة وعلى أكبر بقعة جغرافية لدولة واحدة، ويسعى لموقعه في طليعة مسرح العلاقات الدولية، يحسن تماماً استخدام كل أوراق القوة في الدفاع عن المصالح القومية لروسيا، ولا تأخذه المجاملات وتغريه العلاقات الودودة، ولا هو من طينة غورباتشوف ولا من زمن التراجع الروسي.
ثمة أسئلة لا بد من طرحها: هل ستتطور أزمة العلاقات الروسية الأميركية باتجاه المزيد من التصعيد؟ هل سنشهد حرباً عالمية بين الرأسمالية النيوليبرالية (الأميركية) والرأسمالية الروسية الساعية إلى توحيد سوقها الداخلية وسوق مجالها الحيوي؟ لقد دخل العالم في الحرب الباردة بعد الحرب الساخنة (الحرب العالمية الثانية)، فهل سنصل إلى حرب ساخنة في أعقاب حرب باردة بدأنا نشهد فصولها؟
سؤال أخير: ماذا يفعل العالم العربي والإسلامي، وما موقعه بين احتمالات تطور العلاقات الدولية؟
د. جوزف عبدالله