من التوسع الاستعماري الى الامبريالية الجديدة

غالب أبو مصلح

عين كسور في 15/7/2007

 

 

ان عدم الاستقرار كان السمة الوحيدة الدائمة للراسمالية منذ ماركس.

جوزف شومبيتر "التدمير الخلاق"

 

 

   يعرف بول سويزي الرأسمالية فيقول":الراسمالية هس نظام عالمي له جذوره في اواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، عندما انطلق الاوروبيون من زاويتهم الضيقة في الكرة الارضية، وعند اتقانهم الابحار لمسافات طويلة، فتجولوا في البحار السبع، قاهرين ومخربين ومتاجرين. ومنذ ذلك الحين تكونت الراسمالية في قسمين واضحين ومتناقضين. من جهة، هناك حفنة من الدول المسيطرة المستغلة، ومن جهة اخرى هناك الدول الخاضعة والمستغَلَّة. والاثنتان مرتبطتان بقوة، ولا شيء يجري في ناحية منهما، يمكن فهمه، بتجريده واخراجه من النظام الكلي".[i]

 

   فمنذ البداية، يقول سويزي، تقدمت الراسمالية عبر اخضاع وتخريب واستغلال البلدان الاجنبية. وكانت النتيجة، نقل الثروة من الاطراف الى المراكز الراسمالية، واعادة تنظيم الاطراف كأجرام تدور حول المراكز وتعتمد عليها. ومن ناحية اخرى مراكمة الموارد الضرورية لإطلاق التنمية في المراكز الراسمالية المهيمنة. وحيث كان النظام السائد في الاطراف، لا يتلاءم مع هذه العلاقة الجديدة، تم تدمير النظام السائد، وبنتائج كارثية على السكان الاصليين.

   فمن ابادة الاكثرية الساحقة للسكان الاصليين في القارة الاميركية – جنوبها على يد الاسبان والبرتغاليين، وشمالها على يد المهاجرين الأنغلو-ساكسونز البروتستانت البيض-، الى تجارة الرقيق من افريقيا، والذي مات معظمهم على الطريق في ظروف مريعة، لتأمين العمالة الرخيصة للمزارعين الامريكيين البيض، وخاصة مزارع القطن، الى حروب الأفيون في الصين الى احتلال الهند وتدميرها، وتدمير اقتصاد الدولتين الاكثر تقدماَ في العالم في ذلك الحين أي الصين والهند، لا بسبب تقدم الغرب العلمي والثقافي، ولكن بسبب تطور القدرات القتالية للشعوب الاوروبية، من اسلحة وتكتيكات واستراتيجيات قتالية، واستعمال العنف المركز المتحرر من اية اعتبارات انسانية وروادع اخلاقية.

   يقول بول كينيدي، واصفاَ الاستعمار الاسباني في أميركا:"في عالمهم الجديد، أوضح الأسبان انهم باقون هناك، مقيمين ادارة امبريالية، وبانون كنائس ومزارع ومناجم مستغلون الموارد الطبيعية والقوى العاملة المحلية للسكان الاصليين. وارسل هؤلاء الغزاة الى بلدهم الأم، دفقاَ مستمراَ من السكر والجلود وسلع اخرى. وقبل كل ذلك، ارسلوا الفضه من منجم "بوندسي" والذي كان لقرن كامل، أكبر منجم للفضة في العالم. فهذه الامبريالية تنوي ان تكون دائمة ومختلفة عن زيارات "تشنغ هو"  (قائد اسطول صيني كبير، جال على العديد من موانىء العالم)". [ii]

   في اثر البوارج المدججة بالسلاح والبنادق، تدفق التجار والمصرفيون والاداريون "كل هؤلاء الذين جعلوا همهم تحويل المستعمرات واشباه المستعمرات الى موارد لا تنضب من الارباح للمراكز الراسمالية المستعمرة. (ونتيجة لجهود كل هؤلاء) اصبحت الاطراف مختصةَ في انتاج المواد الخام التي يحتاجها المركز، ولتأمين سوق ااسلع الصناعية، يحتاجها المركز ايضاَ... وبالتالي فإن تخلف الاطراف قد استقر واستمر وتعمق، بينما تم تمكبن المركز من التطور، بمساعدة الثروة التي تم امتصاصها من الاطراف". ويقول إريك ويليامز، والذي كان رئيساَ لوزراء ترينيداد وتوباغو، في كتابه "الرأسمالية والعبودية" (Capitalism and Slavery  ) أن الثروة الصناعية في بريطانيا تم تمويلها من الارباح المباشرة وغير المباشرة لتجارة الرقيق الاسود في جزر الهند الغربية.[iii]

   فتاريخ العالم الحديث هو الى حد بعيد تاريخ تطور الراسمالية. وتاريخ الراسمالية هو تاريخ التوسع والسيطرة الغربية، تاريخ استباحة شعوب العالم وخيراتها وتسخيرها بشكل وحشي لتسريع التراكم الراسمالي وتوسيع وتعميق السيطرة الغربية، مع ارتكاب ابشع الجرائم ضد الانسانية. ارتكاب جرائم ابادة الشعوب ونهب خيراتها واستعبادها وافقارها، وتسخيرها لخدمة الدول الراسمالية الغربية.

   يعيد الؤرخون ظهور الراسمالية كنظام، الى تاريخ ظهور الدولة الحديثة، تاريخ صلح وستفاليا سنة 1648، حيث تم الاعتراف بسيادة الحكومات على ارضها، وان لا مؤسسة داخل حدودها تخرج عن سلتطها وحكمها. فقد بدأ انتقال مراكز الثروة في ذلك الحين من الريف الذي يسيطر عليه النبلاء، الى المدن التي يسيطر عليها الملوك، حيث تنمو طبقة من التجار تغذي خزاءن الملوك بواسطة الضرائب على التجارة، وحيث تشتري طبقة التجار المراكز البيروقراطية في الدولة الصاعدة، حيث كان يتم بيع المراكز الادارية لمن يدفع الثمن الاكبر.[iv]

 

   لم يسيطر الغرب على العالم، كما ذكرنا، بسمو افكاره وقيمه بل بتفوقه في استعمال العنف المنظًّم، كما يقول سامويل هنتينغتون. وارتبط تطور القدرات العسكرية الاوروبية، بالصراعات المستمرة بين الكيانات السياسية الاوروبية، الساعي كل منها الى التفوق العسكري، منذ أواسط القرن السابع عشر بشكل خاص. فتاريخ اوروبا حتى الحرب العالمية الثانية، هو تاريخ الحروب المستمرة بين الدول الاوروبية القوية. وكان تطور تقنيات السلاح، يقود التطور العلمي والتقاني. وكذلك، فإن تنظيمات الجيوش الاوروبية، وتطرو التقنيات العسكرية، انعكس على تطور تنظيم جهاز الدولة والمجتكع وتطور الاسواق المالية الاوروبية ومؤسساتها وبضائعها. فتطور هذه الاسواق ارتبط الى حد بعيد، بحاجات الدول لتمويل الحروب. وكانت كلفة الحروب تتصاعد باستمرار مع التطورات التقنية والعلمية للأسلحة والذخائر. وبذلك كانت الحاجة الى الاقتراض إبان الحروب ترتفع بمعدلات كبيرة، لا تستطيع واردات الدولة مهما كبرت، على تغطيتها، وكان لا بد من تطوير الاسواق المالية لتامين هذا الاقراض. بكلام آخر، كانت الحروب وما زالت الى حد بعيد، تشكل قاطرة التقدم العلمي والتقني في الحضارة الرأسمالة الغربية بشكل خاص. وكان استعمال العنف المنظم المجرد من جميع القيم والروادع الاخلاقية والانسانية، السبب الاساسي في قدرة الغرب على السيطرة على العالم. ففي سنة 1800 كان الاوروبيون يحتلون 35% من مساحات اليابسة في العالم. وفي سنة 1878 اصبحوا يحتلون 67% من العالم. وارتفعت هذه النسبة الى 84% قبل الحرب العالمية الاولى.

   يقول بول كينيدي، ان التحسينات في تذخير البندقية كان لها اثراَ هائلاَ في نمو القدرات القتالية للجيوش الغربية. ومع ظهور المدفع الرشاش، الذي سرع اطلاق النار بمعدلات كبيرة، وتقنيات المدفعية ومدفعية الميدان الخفبفة بشكل خاص، تم وضع اللمسات الاخيرة لثورة "القدرة النارية"، والتي ازالت فرصة المقاومة الناجحة من قبل السكان الاصليين. أكثر من ذلك، إن ظهور السفينة الحربية البخارية، اظهرت ان قوة البحرية الاوروبية، وهي الاقوى في البحار، يمكن ان تتقدم وتفرض سيطرتها على البر، عبر القنوات المائية الصالحة للإبحار، مثل انهر النيجر والهندوس ويانغ تسي في الصين. فقد كانت البارجة الامريكية “Nemesis”  خلال حروب الافيون 1841-1842 ، كارثة على المدافعين الصينيين. وفي معركة أم درمان (احتلال السودان من قبل بريطانيا)، وبسبب اسلحة جيش "كتشنر" الرشاشة الاكثر تطوراَ (Lee Enfield & Maxims)، تم ابادة 11 الف من الدراويش السودانيين المدافعين مقابل خسائر 45 جندياَ بريطانياَ خلال نصف ساعات الصباح.[v]

   قبل القرن الثامن عشر كان مستوى انتاج الدول التي تسمى اليوم متخلفة، اعلى منه في اوروبا. ففي القرن التاسع عشر وحتى سنة 1820 كانت الدول المسماة متخلفة أو نامية، تنتج 80% من الناتج العالمي. ولكن انتاجيتها انخفضت الى 40% من الناتج العالمي عند بداية القرن العشرين، وذلك حسب تقديرات المؤرخ الاقتصادي " Angus Maddison". ولم يكن هذا الانقلاب السريع في الانتاجية نتيجة نمو القدرات التنافسية الغربية، والتي ولدتها الثورة الصناعية فقط، بل بشكل أساسي نتيجة القهر الاستعماري والسياسات الظالمة، وتحطيم القدرات الانتاجية لتلك الدول بشتى الوسائل. يقول ماكدوف:" إن انماط التجارة ما قبل الراسمالية حول العالم لم تحطمها قوى السوق التي لا تقهر، بل القوى العسكرية المتفوقة، التي ارست اسس تغيير انماط التجارة التقليدية، وحولتها الى سوق عالمية متمحورة حول حاجات ومصالح القوى الغربية".[vi]  ففي تلك المرحلة الاستعمارية، وقبل نضوج النظام الراسمالي، كان من مصلحة صناعة النسيج البريطانية مثلاَ، تحطيم صناعة النسيج الهندية بشتى السياسات، لتنمو صناعة النسيج البريطانية، وتكتسب مزايا اقتصادات الحجم. وبعد ان تمت السيطرة على السوق الهندية من قبل منتجات "لنكا شاير" البرطانية، وتم تدمير حرفيي الهند، انحدرت السوق الهندية وضاقت على الصعيد الاقتصادي.[vii] وكما يقول لينين، فقد نمت الراسمالية لتصبح نظاماَ عالمياَ للقهر، ولخنق غالبية سكان العالم مالياَ، من قبل حفنة من الدول المتقدمة.

   في البداية، كانت العلاقة بين الدول الاوروبية المتقدمة والدول المتخلفة، تقوم على القوة. الاقوى يقهر الاضعف، يخرب موارده، ويخضعه لعلاقات تجارية غير متوازنة، ويغير بنيته الاقتصادية لخدمة حاجاته. ومع تعمق الفروقات الاقتصادية وتعمق التبعية، تراجع عامل القوة تدريجياَ لتحل مكانه " العلاقات العادية للتجارة والتوظيف، دون اضعاف نمط العلاقة بين المتقدم/المتخلف، او ايقاف تحويل الثروة من الاطراف الى المراكز".[viii]

   ولكن علاقة القهر والاستبداد والنهب المنهجي، الذي مارسته القوى الاستعمارية الغربية لا يغيب ثورية الظام الراسمالي، وقدراته الهائلة على تجاوز انماط الانتاج السابقة للراسمالية ليس في المراكز فقط، بل ايضاَ والى حد ما، في الاطراف. كما لا يغيب دينامية هذا النظام المتغير دائماَ، ليس على الصعيد المادي فقط، اي غلى صعيد تطوير وتغيير تقنيات الانتاج، بل ايضاَ على احداث تغييرات عميقة ونوعية على الصعيد الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية، كما على صعيد اخلاقيات المجتمع وانماط معيشته.

    إن الانتقال من اقتصاد حرفي يعتمد على مهارة الصانع وتقسيم العمل بين الحرفيين بغية رفع الانتاجية، الى انتاج صناعي حيث ياخذ الراسمالي صاحب الثروة المادية السائلة، أداة الانتاج من يد العامل، ويضعها في الآلة، يمثل جوهر الانتقال التاريخي الى الراسمالية الصناعية، ويعبر عن فحوى الثورة الصناعية التي حولت النظام الراسمالي من مجتمع محافظ نسبياَ، ومقاوم للتغيير، الى مجتمع دينامي يرفض الاستقرار كما يقول ماركس. في هذه العملية، تتم خسارة الذكاء في الانتاج من قبل العامل الفرد، وتكاثفه في الراسمال المتجسد في الآلة التي يتم تطويرها بشكل مستمر وبنمط متسارع عبر تطور النظام الراسمالي، مما يجعل من العلوم قوة انتاجة مميزة ومنفصلة عن العمل، ويتم تكثيفها في خدمة راس المال.[ix]  فسرعة التطورات العلمية والتقنية، قصّرت معدل عمر آلات الانتاج من اكثر من 30 سنة، الى اقل من 5 سنوات، ورفعت من انتاجيتها بشكل هائل مما رفع نسبة راس المال الثابت في مؤسسات الانتاج، وزادت من تهميش القوى العاملة.

 

    وفي ظل الهيمنة الاستعمارية، كما راينا، نما النظام الراسمالي، لا ليولّد تناقضات حادة وصراعاَ مستمراَ بين الراسمال والقوى العاملة في دول المراكز الراسمالية فقط، بل والاهم من ذلك، فقد ولّد ثنائية تناقضية بين دول المركز والاطراف، أو بما يسمى دول الشمال ودول الجنوب، وعلى اساس تقسيم عالمي للعمل، يتمثل في نمط من النمو والتخلف، من يملكون ومن لا يملكون، وعلى نطاق اوسع من انقسام البرجوازية/البلوريتارية في الدول الصناعية المتقدمة.

   ونتيجة لنمو وعي الطبقة العاملة واتساع تنظيماتها، ونمو ضغوطاتها على النظم الراسمالية الصناعية، عمدت هذه النظم، ومنذ ايام بسمارك، الى اعطاء الطبقات العاملة الكثير من حقوقها ومن الضمانات الاجتماعية لامتصاص ثوريتها، ومن اجل خلق مجتمع اكثر "استقراراَ" وتماسكاَ، يستطيع التوجه بشكل اكثر كفاءة نحو التوسع الاستعماري، وليكون الاقدر على هذا التوسع بين الدول الراسمالية. وبالتالي، اخذ التناقض الاساسي والصدامي ينتقل تدريجياَ من داخل المجتمعات الراسمالية الصناعية الى الخارج. انتقل التناقض الاساسي من التناقض بين الطبقات العاملة وراس المال، الى التناقض بين الدول الراسمالية المستعمرة ذاتها، وبينها وبين الشعوب المستعمرة المغلوبة على امرها.  وعندما تفجر الصراع بين حركات التحرر الوطني في اطراف النظام الراسمالي العالمي من ناحية والدول الاستعمارية المركزية من ناحية ثانية، بعد الحرب العالمية الثانية، وجدنا الطبقات العاملة في بلدان المراكز الصناعية تقف بشكل قوي وراء دولها وانظمتها الممثلة للطبقات الراسمالية، ضد حركات التحرر الوطني. فقد فقدت هذه الطبقات العاملة ثوريتها، واصبحت خادمة للطبقات الراسمالية في دولها المركزية. هذا لا يعني ان التناقض بين الراسمالية والطبقات العاملة قد زال في دول المركز، بل انه اخضع للتناقض الاساسي الجديد الخارجي، بفضل العطاءات التي قدمتها الطبقات الراسمالية من ناحية، وانتشار ايديولوجيا الاستعلاء العنصري والشوفينية التي عممتها الراسمالية على شعوبها بكل الوسائل الثقافية كما بالاعلام. فقد تم نشر آلاف الروايات التي تمجد العنصر الابيض وتتكلم عن عبىء الرجل الابيض في تحضير شعوب العالم واخراجها من التخلف.  كما ان ايديولوجيا الطبقة الحاكمة ومثلها، يتم تعميمها على سائر الطبقات في المجتمع، حيث تتحول الطبقة المسيطرة الى المثال الذي تسعى بقية الطبقات الى تقليده. فقد تم طرح سؤال مهم في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، عندما لاحظ معظم المفكرين اليساريين فقدان الطبقات العاملة في دول المراكز الراسمالية، لثوريتها: هل تستطيع حركات التحرر الصاعدة في دول الاطراف، اعادة تثوير الطبقات العاملة في المراكز الراسمالية؟ وكان الجواب التاريخي على هذا السؤال بالنفي حتى الآن.

   خلال عملية التراكم الرأسمالي، مر الرأسمال بتحولات تقنية وتنظيمية، كما يقول سويزي: "إن المرحلة الأولى من الإنتاج الرأسمالي هي ما سماه ماركس بـ"المانيفاتورة"، عدة مهنيين يعملون في مؤسسة واحدة بإختصاصات واضحة، يتقاسمون العمل فيما بينهم. وتحت تأثير الثورة الصناعية_ تقريبا بين سنة 1750 و1850_ أعطت المانيفاتورة مركزها لصناعة الآلات الحديثة، حيث يتحول التركيز من العامل إلى الآلة، ويصبح العامل بإطراد مجرد ملحق بالآلة. ثم إن تطور الآلات والتقنيات المتقدمة الأخرى في حقول الصناعة والمواصلات والإتصالات، جعل من الممكن والضروري التوسع المستمر في حجم وحدة الإنتاج الرأسمالي، وإحلال الشركات الكبرى المساهمة Corporations مكان الرأسمالي الصناعي الفرد. والشكل الجديد للشركة المساهمة، يسمح بتراكم غير محدود لرؤوس الأموال ومركزتها. وفي نفس الوقت يتقوى ويتلازم هذا الإتجاه، بنمو دائم لبنية مالية فوقية معقدة، للمصارف وأسواق الأسهم والسندات، والشركات القابضة." ويقول أيضا أن تكاثف وتمركز وتحول الشركات إلى شركات مساهمة، بدأ جديا في الثلث الأخير من القرن العشرين، وهو يتطور منذ ذلك التاريخ. وبحلول سنة 1962، أصبحت أكبر مئة شركة مساهمة صناعية (حوالي 0.5% من كل الشركات المساهمة الصناعية في الولايات المتحدة) تسيطر على 58% من الأرض والبناء والمعدات المستعملة في الصناعة. والحالة نفسها موجودة في بقية الدول الصناعية الكبرى.[x]

        لم تكن مسيرة النظام الرأسمالي التاريخية مستوية وسهلة، دون الكثير من العثرات والأزمات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية الحادة. بل إن الأزمات الدورية والبنيوية لازمت تطور النظام في دول المركز، وإنعكست هذه الأزمات على دول الأطراف. كان هذا النظام يتجاوز أزماته عبر متغيرات تقنية وعلمية جديدة، أحدثت قفزات في الإنتاجية وتغييرات في أنماط الحياة، مثل إبتكار آلة حلج القطن، والسفن البخارية، والطاقة الكهربائية، والقطارات، والسيارة، وتقنيات الحواسيب والإتصالات الحديثة، كما بإحداث تغييرات عميقة في دور الدولة وتنظيم المجتمع، وإعطاء الطبقات العاملة في دول المراكز الرأسمالية الصناعية الكثير من حقوقها، لإجهاض تطلعاتها وحراكها الثوري.

   فالرأسمالية البدائية المنفلتة من عقالها، وفي ظل الفكر الليبرالي الجامح للقرن التاسع عشر، الذي إستبعد تدخل الدولة في إدارة الأعمال وحل التناقضات الطبقية والإجتماعية أو التخفيف منها، كانت وصفة للثورة. في بريطانيا، سنة 1850، كان 40% من العمال القادرين على العمل، لا عمل لهم. كانوا عاطلين عن العمل.[xi]  وكانت نسبة الأعمال الجديدة الفاشلة، والتي تنتهي بالإفلاس، تبلغ أكثر من 70% من الأعمال الجديدة. فالإفقار المتنامي وتدني الأجور نتيجة تراكم وتكاثف رؤوس الأموال، وزيادة معدلات البطالة، والإضطرابات الشديدة في سوق العمل، خلقت مجتمعا قلقا متوترا ومتحفزا للثورة.

   وكانت ألمانيا في عهد بسمارك على شفير ثورة عمالية، إذ عصفت بها أزمات النظام الرأسمالي، الدورية والبنيوية، فشهدت معدلات مرتفعة من البطالة والإضطرابات الإجتماعية، وفشلا لكثير من الأعمال. وكان رد بسمارك على ذلك بـ"العقد الإجتماعي"، والذي فتح صفحة جديدة في تاريخ النظام الرأسمالي. فقد وعد بسمارك ووزراؤه كل شخص بمكان له في النظام الإجتماعي، بهدف تحقيق السلم الأهلي وتجاوز الصراعات الطبقية الحادة. وواكب ذلك تأجيج الكره لبريطانيا، المعادية للتوسع الإستعماري الألماني، بغية تحويل غضب الطبقة العاملة إلى الخارج. وكان الهدف الأساسي هو إحتواء الصراعات الإجتماعية الداخلية في ألمانيا.

   فالبنية التي وضعها بسمارك للرأسمالية الإجتماعية كان من أهم مميزاتها "الوقت المنظم". فجميع العلاقات الإجتماعية تأخذ وقتا لتنمو وتترسخ في أذهان الجماهير. إنها قصة حياة، حيث يكون للفرد أهمية بالنسبة للآخرين. ويحتاج ذلك إلى مؤسسة يعيش فيها حياته كلها، مطمئنا إلى دوام عمله ودخله، وإلى نمو هذا الدخل في المستقبل. وأخذ بسمارك ببنية الجيش البروسي، كمثال للكفاءة وإحتواء الصراعات: "فللجيش البروسي سمعة خرافية في الكفاءة. فبينما إستمرت جيوش أوروبية في بيع رتب للضباط، بغض النظر عن قدراتهم، وفي إعطاء الجنود العاديين تدريبات بدائية، شددت العسكرية البروسية على تحسين الأداء (للضباط والجنود). فسلسلة القيادة عندها كانت أكثر تفاعلا وتضامنا من مثيلاتها الفرنسية والبريطانية. فقد حددت بصرامة مسؤولية كل طبقة في سلسلة القيادة. وفي ألمانيا بسمارك، بدأ في تطبيق هذا النموذج العسكري على قطاع الأعمال، وعلى مؤسسات المجتمع المدني، ومن أجل السلم الأهلي ومنع الثورة."[xii]

   ومع هذه العسكرة للإقتصاد والمجتمع، إنتشرت الرأسمالية الإجتماعية، وتم إحتواء التيارات الثورية العمالية، كما الصراعات الإجتماعية إلى حد كبير. وحقق قطاع الأعمال في ألمانيا إستقرارا وإرتفاعا في معدلات الأرباح، كما يقول جوزيف شومبيتر، وما زالت القوانين والأنظمة التي وضعها بسمارك سارية المفعول بمعظمها حتى الآن. وما صنعه بسمارك في ألمانيا تكرر إلى حد ما في الولايات المتحدة بعد الركود الكبير الذي بدأ في سنة 1929، وإمتد لعقد من الزمن، بغية إحتواء ثورية القوى العاملة الأميركية، التي إرتفعت نقمتها بسبب تنامي البطالة والجوع والتهميش والظلم الإجتماعي، فكانت "الصفقة الجديدة" The New Deal، التي أعطت القوى العاملة، لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة، بعض حقوقها وبعض الضمانات الإجتماعية.

   هدفت الصفقة الجديدة إلى إعادة إنعاش قطاع الأعمال، عبر قانون إعادة إنعاش الصناعات القومية الجامع، في حزيران 1933. فقد أعطيت الصناعة دعما حكوميا من أجل نمو الإنفاق لتثبيت الطلب على الإنتاج ومنع خفض الأسعار. وأعطي العمال حماية أجورهم وساعات عملهم، والحق في المساومة الجماعية عبر النقابات العمالية التي تم تشجيعها. وتم أيضا رفع إنفاق القطاع العام، عبر مشاريع تتطلب أعدادا كبيرة من اليد العاملة، بغية ضخ الأموال في الإقتصاد، ورفع الطلب الداخلي، وزيادة القدرة الشرائية، مع إرتفاع الأسعار والأجور. كما عمدت الحكومة الفيدرالية إلى زيادة الإنفاق على الإغاثة، لمساعدة ملايين الجياع. وتم سن العديد من القوانين لمساعدة المزارعين وأصحاب المنازل المرهونة، المهددين بخسارة ملكياتهم. فخلال سنة 1933، تم توظيف 4 ملايين عامل في مشاريع الأشغال العامة، بتمويل من الحكومة الفيدرالية. وتم سن قانون Glass Steagel Act، الذي بنى المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع الصغيرة.

   وأتت "الصفقة الجديدة الثانية"، 1935- 1936، في جو الضغوطات من القوى اليسارية والعمالية، وبعداء شديد من اليمين، فتحولت الصفقة الجديدة أكثر وأكثر نحو اليسار. ونظر اليمين المحافظ إلى هذه الصفقة على أنها تهدد حقوق الولايات وحرية الأعمال والسوق الحرة المفتوحة. كما أقر روزفلت قانون إصلاح ضرائبي، سمته الصحافة المسيطر عليها من قبل اليمين المحافظ، قانون "شفط الأغنياء". وكان لهذا القانون الضرائبي وقع ثقيل على الشركات المساهمة الكبيرة وعلى الأثرياء. فللمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، حملت الحكومة الفيدرالية مسؤولية الأمن الإجتماعي للمواطنين. فقد سادت الرؤية الكينزية بين فريق عمل روزفلت دون أن يتبنى هو شخصيا الرؤية الكينزية للإقتصاد والمجتمع.

   ولكن، وإبان الحرب العالمية الثانية حيث إنتعش الإقتصاد، إنقض اليمين المحافظ على النقابات العمالية، بمساعدة المافيا، ليحد كثيرا من سلطتها وقدرتها على المساومة الجماعية. ثم أتت الماكارثية في أعقاب الحرب، لتشن حملة إرهاب عشوائي على اليسار الصاعد، وتعيد الولايات المتحدة إلى إنتهاج سياسات يمينية متشددة، لم تستطع إجتثاث ما حققته الصفقة الجديدة، وحتى بداية الثمانينات، حيث حلت الليبرالية الجديدة مكان الكينزية، بإشراف المحافظين الجدد، الذين ألغوا الكثير من مكتسبات "الصفقة الجديدة" على جميع الصعد.

   بشكل عام، إنبثق النظام الرأسمالي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية. وتعززت دولة الرعاية في ظل سيادة الفكر الكينزي، الذي وضع على عاتق الدولة وأجهزتها دورا كبيرا، إقتصاديا وإجتماعيا، على صعيد التدخل في السوق، التي لا تستطيع آلياتها المنفلتة من تحقيق الإستقرار والعدالة النسبية في توزيع الناتج المحلي والتخفيف من حدة الدورات الإقتصادية والخروج منها بأسرع وقت ممكن، وبأقل الأضرار الإقتصادية والإجتماعية. كما وضع النظام الرأسمالي الجديد على عاتق الدولة، تنظيم العطاءات والضمانات الإجتماعية وتمويل جزء كبير منها لتضييق الفروقات الطبقية وتحقيق الإستقرار الإجتماعي. كما تم تطوير نهج وسياسات مالية ذات وقع كبير، في مجال إعادة توزيع الناتج القومي لمصلحة الطبقات الإجتماعية الأضعف في المجتمع.

   وكان لقيام الإتحاد السوفياتي وتوسعه بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك لتوسيع المعسكر الإشتراكي، الذي مثل قيامه بديلا للنظام الرأسمالي، أثرا كبيرا على قيام دولة الرعاية في الدول الرأسمالية الصناعية، ولإعطاء القوى العاملة فيها الكثير من الحقوق والضمانات الإجتماعية. وبدى أن ذلك العصر، من الخمسينات إلى السبعينات، كانت سمته الأساسية التحول إلى الإشتراكية.

   ومع إعادة بناء القدرات الإنتاجية لدول أوروبا الغربية واليابان، ظهر أن النظام السياسي والإقتصادي الذي وضعته الولايات المتحدة وحلفاؤها الأساسيون المنتصرون في الحرب العالمية الثانية_ والذي بقي الإتحاد السوفياتي خارج أطره ومؤسساته الإقتصادية_ بدأ يدخل في أزمة بنيوية بعد منتصف الستينات من القرن الماضي. وكان النظام النقدي هذا يخضع لمقياس الذهب، إذ تم ربط سعر الدولار بكمية ثابتة من الذهب، وربطت بقية العملات بالدولار، مع حق إبدالها بالذهب من "بحيرة الذهب" الذي تم إنشاؤها من قبل الدول غير الإشتراكية، ومركزها الولايات المتحدة. فقد تم تجميع الذهب في "فورت نوكس". فقد شكل الدولار بالتالي العملة العالمية الأساسية، وجعل من الولايات المتحدة الملاذ الأخير للدول الرأسمالية، ومصرفا مركزيا لكافة المصارف المركزية والحكومات في العالم الرأسمالي. ونجح هذا النظام في خلق إستقرار نقدي عالمي، ساعد كثيرا على تمكين الدول الرأسمالية الأساسية الدائرة في الفلك الأميركي من إستعادة قدراتها الإنتاجية والتنافسية، بعد الدمار الكبير الذي أصابها إبان الحرب العالمية الثانية.

   لم يكن الإرتكاز إلى مقياس الذهب في النظام النقدي العالمي، أمرا مستحدثا من قبل الولايات المتحدة الأميركية. بل إن هذا النظام تم إتباعه من قبل الإمبراطورية البريطانية منذ القرن التاسع عشر، حين كان لبريطانيا قدرات إقتصادية وعسكرية، مثل التي كانت للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. كان الإقتصاد البريطاني يتمتع بفائض كبير في ميزان الحساب الجاري، وكان بالتالي قادرا على الصمود والحفاظ على هذا النظام في حالات الركود أو الإنكماش الإقتصادي. ولكن عندما فقدت بريطانيا تفوقها وقيادتها الإقتصادية في العالم، وأخذت تعاني من مصاعب كثيرة على صعيد ميزان حساب المدفوعات الجاري، وأخذ إقتصادها بالضمور النسبي، وإنخفض نصيبها من الناتج العالمي الصناعي وغير الصناعي، كما نصيبها من التجارة العالمية، إنهار النظام النقدي الذي كانت ترعاه، وتم إسقاط نظام مقياس الذهب، وساد نظام سعر الصرف العائم في الثلاثينات، الذي تمت تسميته باللانظام، مما إنعكس سلبا على نمو التجارة العالمية.

   وإنهار نظام بريتون وودز، كما إنهار النظام البريطاني السابق للأسباب ذاتها، عند الإنحدار النسبي للإقتصاد الأميركي. وبما أن الإقتصاد الأميركي ما زال الأكبر في العالم، وما زالت السوق الأميركية الأوسع أيضا، فإن مأزقها تحول إلى مأزق عالمي، بل إلى مأزق النظام الرأسمالي العالمي في مرحلته الأكثر إحتكارية وعولمة. وأدى هذا المأزق إلى تغييرات عميقة على صعيد هذا النظام. فمع تحول ميزان المدفوعات الجاري في الولايات المتحدة من تحقيق فوائض كبيرة إلى تحقيق عجوزات متصاعدة، بدأت أزمة حقيقية وعميقة في بنية نظام بريتون وودز. كان هذا النظام يعطي الولايات المتحدة إمتيازا كبيرا يتمثل في قدرتها على سد عجز ميزان المدفوعات الجاري بعملتها الخاصة، ودون تحويل موجودات من الذهب أو العملات الصعبة إلى الخارج. بل كانت وما زالت إلى حد ما تمول إستثماراتها في الخارج بـ"طبع" دولارات تستمر في الدوران في السوق العالمية، ولا تعود إليها. ففي 4 شباط 1965، شن الجنرال ديغول، رئيس الجمهورية الفرنسية في ذلك الحين، خلال مؤتمر صحافي، هجوما عنيفا على إتفاقيات بريتون وودز، قائلا أن نظام الدولار يعطي الولايات المتحدة "إمتيازا إبتزازيا"، إذ أنه يمكنها من تمويل عجز ميزان مدفوعاتها بعملتها المحلية، بالدولار، ودون خسارة إحتياطات من العملات الصعبة أو الذهب. وعند نهاية الستينات، ساد الإعتقاد أن الولايات المتحدة كانت تصدر التضخم إلى العالم، من خلال تصدير الدولارات إلى الخارج، خاصة في ألمانيا، حيث الحساسية من التضخم جدا مرتفعة.[xiii]

   وإنفجرت أزمة الذهب الحادة في سنة 1968 بسبب خفض سعر صرف الجنيه الإسترليني، الذي ولد الكثير من الشكوك حول إستقرار سعر صرف العملات الرئيسية في العالم. ولد ذلك طلبا كبيرا على الذهب، فتحول قسم كبير من إحتياطات الذهب الرسمي إلى القطاع الخاص، عبر "بحيرة الذهب" المكونة بشكل أساسي في الولايات المتحدة. أدى ذلك إلى إمتناع الولايات المتحدة عن بيع الذهب إلى القطاع الخاص بسعر 35$ للأونصة، كما كان محددا في إتفاقية بريتون وودز، وتم الإبقاء هذا السعر للقطاع العام فقط.

   وبغية تخفيض عجز ميزان مدفوعاتها، عمدت الولايات المتحدة إلى ممارسة ضغوطات كبيرة على الدول التي تسجل فوائض كبيرة في ميزان مدفوعاتها معها، وخاصة اليابان وألمانيا الغربية. ويقول وزير مالية اليابان في ذلك الحين "تويو غيوهتن" أن وزير المالية الأميركي "كونالي" طلب رفع سعر صرف الين بنسبة 24% وسعر المارك بـ18%، دون تغيير في سعر صرف الذهب. ثم بعد ثلاثة أسابيع، وفي إجتماع "مجموعة العشر" في روما، طلبت الولايات المتحدة رفع سعر صرف الين بـ20% والمارك بـ15%، وتخفيض سعر صرف الدولار بـ10%، وذلك بغية تمكين الولايات المتحدة من تصحيح ميزان مدفوعاتها. وبعد ذلك، وفي 17 كانون الأول، طلبت الولايات المتحدة رفع سعر الين بنسبة 19.2% والمارك بنسبة 14%، وخفض سعر صرف الدولار بنسبة 8.25%، وتم لها ذلك في النهاية، وبعد ممارسة ضغوطات كبيرة على الدولتين المعنيتين. وفي إطار ممارسة الضغط على اليابان، لأهداف عديدة، قام هنري كيسنجر بزيارة سرية إلى الصين. وفي 15 تشرين الأول، ما كان من اليابان إلا أن أنهت مباحثات صعبة مع الولايات المتحدة لكبح صادراتها النسيجية إليها.[xiv]

   وفي 15 آب 1971، أسقطت إدارة نيكسون حق إستبدال الدولار بالذهب. وشكل ذلك نكثا بالتزامات وتعهدات دولية وضعتها الولايات المتحدة نفسها. فقد أصبحت بحيرة الذهب لديها لا تكفي لتغطية جزء من دولاراتها العائمة في العالم، والتي يمكن أن تتحول إلى طلب على الذهب. فقد أخذت بحيرة الذهب لديها بالجفاف. وفي إجتماع لندن، قال "كونالي"، وزير المالية الأميركية: "ربما كان الدولار عملتنا، لكنه مشكلتكم." ويعلق فولكر على ذلك قائلا: "في ذلك الوقت، لم يكن شركاؤنا التجاريون مستعدين لقبول ما رأيناه مطلوبا: إيقاف خروج الدولار الذي كان يسعدهم. كان من الضروري إحداث تغيير كبير في أسعار الصرف، وتحرير تجاري من قبلهم، ومساعدات أكبر في كلفة دفاعاتنا ما وراء البحار".[xv]

   وعمدت إدارة نيكسون، وإدراكا منها لشمولية الأزمة الإقتصادية الأميركية، إلى تجميد الأجور والأسعار، وإلى تخفيض الضرائب والإنفاق العام، ووضع ضريبة على الواردات يمكن مقايضتها بسعر صرف جديد للدولار.

   وفي أوائل 1973، تم تبني سعر الصرف العائم للعملات بدل إبقاء أسعار الصف حول سعر مركزي، هو الدولار المرتبط بالذهب. وبذلك، تم الإنتقال إلى اللانظام النقدي العالمي مجددا، والذي صعّد المضاربات على العملات حول العالم، وأجبر دول العالم على رفع معدلات إحتياطاتها من العملات الأجنبية، وخاصة من الدولار، لتتمكن من تأمين إستقرار إقتصاداتها، وحمايتها من موجات المضاربات الحادة، حين تلوح بوادر ضعف في إقتصاداتها، وخاصة في مدفوعاتها الخارجية.

   ولكن سياسة خفض سعر صرف الدولار، ورفع سعر صرف العملات الرئيسية الأخرى، لم تحل المشكلة المالية والنقدية الأميركية. فالمشكلة كانت أعمق من ذلك بكثير. ثم عمدت الولايات المتحدة إلى طلب تنسيق السياسيات الإقتصادية والمالية مع الدول الصناعية الرئيسية الأخرى، وخاصة مع اليابان وألمانيا الغربية. وتلزم سياسات التنسيق التي تم الإتفاق عليها الدول على إتباع سياسات إقتصادية مبنية على إستشارات دولية، وهذه السياسات ستكون مختلفة عن السياسات التي يمكن أن تتخذها تلك الدول لولا "التنسيق"، كما يقول فولكر. ولكن سياسات التنسيق تلك لم تستطع تصحيح ميزان المدفوعات الأميركي الذي إستمر عجزه بالتنامي، وكان لا بد من إدخال تغييرات أكبر وأشمل على صعيد النظام الرأسمالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية. بكلام آخر، كان لا بد من إحداث تغييرات أساسية في بنية النظام الرأسمالي ليتجاوز أزمته.

                       

غالب أبو مصلح

عين كسور في 15/7/2007

 


[i] Sweezy, paul M., Modern Capitalism, Modern reader, NewYork and London 1972, p5.

[ii] Kennedy P. ob.sit, p.27

[iii] Sweezy, ob.sit, p.20-21

[iv] Replay, John, The new middle ages, Foreign affairs, May-June 2006.

[v] Kennedy P., ob.sit, p.150

[vi] Magdoff, Harry. Studies in the theory of imperialism, Imperialism without colonies. Edited by Roger Owen & Bob Sutcliffe, Longman House, Burnt Mill, Harlow Essex U.K. 1972, p.145

[vii] Michael Barrat Brown, Studies in theories of Imperialism. A critic of Marxist theories of Imperialism. Ob.sit, p.45

[viii] Sweezy, ob.sit, p.9

[ix] Ibid, p.135

[x] Ibid, p.7

[xi] Sennet, Richard. The Culture of The New Capitalism, Yale University Press, New Haven and London, 2006 p.19

[xii] Ibid, p.21

[xiii] Volcker, Paul and Gyoten, Toyo. Changing Fortunes. The World’s Money and The Threat to American Leadership. Times Books, 1992, p.43

[xiv] Ibid, p.69

[xv] Ibid, p.81