تموز نصر بطعم مختلف

 متغيرات البيئة الإستراتيجية للصراع العربي الصهيوني

ميخائيل عوض

 

سنة مرت على انتصار تموز، التاريخي والاستراتيجي غير المسبوق في الصراع العربي الصهيوني، والحدث الأبرز في تاريخ العرب والمسلمين منذ عقود طويلة.

ليس من واقعة واحدة تفيد بأن نتائج حرب تموز الأمريكية الإسرائيلية العالمية على المقاومة لم تكن نصرا بكل معاني الكلمة والنصر الأقل كلفة في تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية الكثيرة والممتدة على نحو قرن وما يزيد.

على رغم الحملة الإعلامية التشويهية التي انتصبت من اليوم الأول للحرب، وكانت قد مهدت لها وبرغم انحياز قوى لبنانية، ونظم عربية وإسلامية وبرغم ما بذل من محاولات مهولة لتخفيف وطأة النصر، أو لتصويره على غير حقيقته، وبرغم الممارسات التي اعتمدتها الحكومة اللبنانية وحكومات عربية، وشاركت فيها قوى دولية، وانتظم في سياق جهدها حلف "العرب المعتدلين" والحف العربي الإسرائيلي في قمة شرم الشيخ، إلى الحلف الإسلامي الأمريكي في اجتماع الدول السبع برعاية ديك تشيني في باكستان، وجرت عملية تنظيم وتركيز جهد أجهزة الأمن العربية والإسرائيلية والأمريكية بقيادة رايس بهدف إجهاض النصر وإلغاء مفاعيله ونتائجه.

على الرغم من كل التهويل، ومحاولات صرف الانتباه، والسعي لإفشال النصر بأخذ لبنان والمنطقة إلى الفتنة المذهبية، والاستجارة بقوى الكون الرجعية، واستقدام اليونفيل، وكل أجهزة الأمن العالمية، واستصدار دستة من قرارات مجلس الأمن، وإرسال اللجان الدولية، وافتعال الحروب الأهلية من حرب البارد إلى الحرب على السلفية السنية في لبنان، وتسعير التناقضات واغتصاب السلطة، وبناء أجهزتها الأمنية كميليشيات، وترويض الجيش لاحتوائه أو لتفكيكه عقابا على موقفه ودوره في الحرب وعقيدته، وتزايد وتيرة التدخلات الخارجية لدرجة وضع لبنان تحت الانتداب الدولي وتدويل الأمن والقضاء والمؤسسات الدستورية...

أكدت السنة المنصرمة على النصر، انه كان نصرا مؤزرا وكانت حرباً مجيدة، وقررت الوقائع المادية واليومية أن النصر هذه المرة يتميز بطعم مختلف، وبخاصيات جديدة في مختلف أوجه الصراع العربي الصهيوني. وفي أول السمات والخاصيات طبيعة المقاومة، وقدرتها على الاستثمار في انتصاراتها، على عكس سابقاتها من المقاومات والجيوش العربية، وقدرتها على حمايتها ومنع تحويل النصر العربي العسكري إلى هزيمة سياسية وتاليا عسكرية كما حدث مع خمس حروب عربية إسرائيلية سابقة كانت أربع منها بمثابة انتصارات كلية أو جزئية عربية نجحت إسرائيل وحلفها العربي، والدولي بتحويل الانتصارات إلى هزائم سياسية وقد سقطت محاولاتها الجديدة وهذا بكل الأحوال أمر نوعي يجب التوقف كثيرا عنده وعند عناصره.

 

ارتدادات النصر في حرب تموز

الحرب ونتائجها جاءت بمثابة لحظة مفصلية كشفت عن متغيرات نوعية في البيئة الإستراتيجية للصراع العربي الصهيوني، وقد أدخلته في مرحلة مختلفة جوهريا عما كان خلال القرن المنصرم.

ماذا عن دروس الحرب والمتغيرات التي كشفت عنها:

-     ليست الحرب بأحداثها وبمجرياتها وآثارها هي التي غيرت في البيئة، بل كانت لحظة مفتاحية تأسس لمفاعيلها قبل الحرب وتراكمت التطورات والمتغيرات حتى عبرت عن نفسها في تلك اللحظة العصيبة وقد سمتها رايس آلام مخاض لشرق أوسط جديد معلنة بذالك أن المنطقة في حالة مخاض وبما أن مشروع الشرق الأوسط الأمريكي الإسرائيلي سقط في بيروت فمؤدا هذا أن شرقا أوسيطا جديدا يتولد على غير رغبة أمريكا ومشاريع الغرب، فالحر ب كانت بمثابة لحظة في سياق كشفت عن المتغيرات ولم تصنعها بذاتها وفتحت بوابات جديدة وغيرت في مسار الأحداث وعكستها.

-     أن تعجز إسرائيل وحلفها العربي العالمي عن لطش النصر وتحويله إلى هزيمة كما فعلت في حرب ال1956- 1968-1973- وسقوط المحاولات لتحويل نصر أيار 2000 إلى حرب أهلية لبنانية والعجز عن تحويل انتصار 2006 لفتن وتخريب تفيد بأن عناصر جديدة توفرت للانتصار في أول معالمها طبيعة المقاومة التي تقود، وطبيعة القوى العربية والإسلامية التي تقف خلفها، وهذا متغير نوعي يفيد بأن الانتصارات مع الجديد تتراكم لتكون كل واحدة منصة وقاعدة ارتكاز لتخليق شروط الثانية وهذا صار بمثابة القانون التاريخي منذ حرب 1993 وقد تقرر كمسار.

-     لم تفلح إسرائيل في إعادة لم حالتها، وهي غير قادرة على استعادة قوة الردع على افتراض أنها كانت تمتلكها ذلك لأسباب نوعية مادية شتى في أولها أن قوة الردع الإسرائيلية لم تكن بفعل قوة إسرائيل الفعلية ولا بسبب قدرات لجيش وإمكاناته بل كانت نتاج بيئة إستراتيجية في الصراع تغيرت البيئة وجعلت من استعادة قوة الردع أمر شبه مستحيل لأنه يقتضي استعادة البيئة التي كانت ومن غير المنطقي تحقيق ذالك.

-     كشفت الحرب ونتائجها عن أن الظروف والمعطيات ومسارات الأحداث خلال السنوات المنصرمة قد أطاحت بكل عناصر قوة الكيان الصهيوني التكتيكية منها والإستراتيجية، وآخرها سقوط الثقة بالجيش وبالقوى السياسية، وبقدرة إسرائيل وانكشاف إسرائيل على أزمة وجودية يجري النقاش فيها بعمق ويطرح السؤال على النخب والمجتمع الصهيوني هل من قدرة للكيان على الاستمرار؟ وما هي البدائل؟ وفي حال انتفت بدائل قادرة على تعويم إسرائيل تصبح  قضية تحرير فلسطين أمر راهن.

-     كشفت عجز إسرائيل عن استمرارها القيام بدورها الوظيفي وحولتها إلى عبء على الغرب عموما وقوى دعمها، وهي مرفوضة في البيئة العربية والإسلامية ولم تنتج التسويات تطبيعا وقبولا حقيقا لدى الشعوب، لهذا  يجري العمل على تخليق بدائل في الدوائر الغربية ومنها محاولة اطلسة إسرائيل ومحيطها العربي لحمايتها وتأمين ديمومتها واستمرارها خاصة وأنها باتت تلوذ وتطلب قوى دعم أجنية لحمايتها في الشمال في مواجهة المقاومة اللبنانية وفي الجنوب لمواجهة المقاومة الفلسطينية وتصاعدها بعد أحداث غزة.

-     غيرت الحرب جوهريا في طبيعة القوى القائدة والمؤثرة في إدارة الصراع العربي الصهيوني وغيرت جوهريا من طبيعة الأحداث ومساراتها فتحولت القوى الراديكالية وذات الطبيعة الدينية لقوى حاسمة في تحريك الصراع وقيادته، ففي الشمال حزب الله وقد تأسس على مقولة الزحف الى القدس، وفي الجنوب حماس وقد تأسست على أن فلسطين ارض وقف لا يجوز التفاوض أو التفريط بها وخلفية هذه القوى الراديكالية حالة راديكالية شعبية تتعمق وتتصاعد وتحتضن الخيارات الراديكالية الأمر الذي يقطع الطريق على مسارات ومحاولات انجاز تسويات للصراع العربي الصهيوني أي أن الحرب ونتائجها نسفت مسار خط التفاوض والتسويات ووضعت الأمور في المدى المنظور بين خياري الحرب، أو تسريع خطوات التفاوض لإنتاج تسوية في محاولة يائسة لتسخير النظام الرسمي العربي والدعم الدولي لقطع الطريق على الراديكالية وتقدم دورها.

-     بالتقاطع مع ما هو جار في أفغانستان، والعراق، وظهور علامات الانهيار على المشروع الغربي عموما والأمريكي بصورة خاصة وما يمكن أن تذهب إليه التوازنات وإعادة هيكلة المنطقة وهيكلة السيطرة وموازين القوى الدولية والإقليمية ومع تقدم إيران كقوة صناعية نووية انتزعت آخر أوراق قوة إسرائيل بتفردها النووي، ومع الأفاق والاحتمالات المفتوحة على صعود دور سورية وإيران وتقدم مشروعهما السياسي والاجتماعي وفي حال وقعت الهزيمة الأمريكية في العراق، سيؤثر ذلك كثيرا وجوهريا ويقلب التوازنات في المنطقة عموما ومع المشروع الغربي وأدواته إسرائيل والنظم العربية ما يجعل إسرائيل أكثر الخاسرين كما يقال في إسرائيل وعلى ما يجري من بحث عن بديل للحماية الأمريكية غير موفرة في الاتحاد الأوروبي العاجز ولن تكون آسيا بيئته برغم الجهود التي تبذل في إسرائيل بهذا الاتجاه، وبخسارة أمريكا في العراق ستخسر إسرائيل أعظم واهم عنصر قوة كانت تلوذ بها في جميع الحروب والأوقات، ما سيعني تغييرات حادة في اتجاهات سير أحداث المنطقة.

-     انتصار الجنوب، ومن ثم انتصار حماس في غزة، والتحولات في موازين القوى الفلسطينية الفلسطينية وانعكاس الأحداث على توازن القوى في النظام الر سمي العربي وخروج سورية من السنتين العجاف أقوى مما كانت وامتلاك إيران لقوة صاعدة تمثل بذاتها حاضنات إقليمية لقوى المقاومة العربية والإسلامي وللصراع العربي الصهيوني يفيد بمتغيرات إستراتيجية في موازين القوى ما يفتح الصراع على جديد يحتاج إلى اكتشاف عناصره ومستقبله ليس اقله العجز الإسرائيلي الأمريكي العربي عن قيادة المنطقة على ما كانت عليه لنصف قرن ونيف.

 

لكل ما تقدم، وللنتائج المنظورة وغير المنظورة للانتصار وكلها في صف الأحداث والمتغيرات النوعية التي أطلقها نصر تموز أو كشف عتها.

وبسبب المتغيرات العاصفة في المرحلة الحرجة التي تعيشها المنطقة العربية والإسلامية وعبرها تتغير التوازنات والخيارات الدولية.

وبسبب من طبيعة المقاومات وخاصياتها وطبيعة قوى دعمها وتحول خياراها إلى الخيار الأكثر جدوى بحسب النتائج وقناعات عموم المنطقة وشعوبها، يمكن الجزم بأن حرب تموز من طعم آخر مختلف عن الحروب والانتصارات السابقة، ويمكن الجزم أيضا بان بيئة إستراتيجية جديدة تشكلت وفي طور التشكل مختلفة جوهريا عما كان لقرن في المنطقة و يمكن القول أن حرب تموز تمثل بداية كتابة تاريخ مستقبل العرب والمسلمين بأحرف من دم وعلى خيار انتصارات.

بيروت 16-7-2007