ابراهام بورغ: نهاية الصهيونية أم نهاية إسرائيل ذاتها؟

خالد أبو حيط
كاتب وباحث فلسطيني
abouhait@hotmail.com

أثارت التصريحات الناقدة التي أدلى بها رئيس الكنيست الصهيوني السابق، أبراهام بورغ، عاصفة غير مسبوقة في الكيان الصهيوني وصلت الى حد التشهير به، وحد اتهامه بارتكاب "جريمة ضد الشعب في إسرائيل". وتكتسب هذه التصريحات أهمية بالغة لعدة اعتبارات لعل أهمها: أهمية الرجل وسيرته الذاتية، تميّز النقد الذي أثاره، واللحظة التاريخية التي جاء فيها هذا النقد.

بداية، لا يمكن تجاهل أهمية الرجل ومسيرة حياته التاريخية في الكيان الصهيوني. فأبراهام بورغ الذي شغل منصب رئيس الكنيست الصهيوني بين عامي 1999 و2003، ينحدر من عائلة صهيونية بامتياز. فهو ابن الحاخام  "يوسف (إسحاق) بورغ" أحد مؤسسي التيار الديني اليهودي الصهيوني الذي ساهم بشق المتدينيّن اليهود إلى جناحين: أحدهما سلفي غير صهيوني وآخر يؤمن بالمشروع الصهيوني رغم تعارضه مع الشريعة اليهودية. كان إسحاق بورغ إلى جانب ديفيد بن غوريون، وشارك في معظم حكومات إسرائيل حتى وفاته. وابنه أبراهام بورغ اعتاد دوماً على وضع "قبعة صغيرة" فوق رأسه للدلالة على أنه من المتدينيّن. وهو من قادة حزب العمل، وشغل منصب رئيس البرلمان (الكنيست) في عهد باراك، كما شغل مناصب وزارية عديدة. ثم توقف عن العمل السياسي اليومي قبل سنوات، لكنه ما زال في حزب العمل. وإضافة إلى ذلك تولى منصب رئيس الوكالة اليهودية لسنوات عدة، وكان لفترة من أصحاب القرار السياسي في إسرائيل بل وحاول ترشيح نفسه لرئاسة حزب العمل وشكل جناحاً مهماً داخله، ولكنه خرج عن قرارات عدة للحكومة، خصوصاً تلك المتعلقة بعدم إجراء حوار مع ياسر عرفات حين كان محاصراً في "مقاطعة رام الله" في عهد شارون. فالرجل على هذا لا يمكن الاستخفاف بثقله والأرث الذي يحمله، ولا يمكن التغاضي عن انتقاداته أو وضعها ببساطة ضمن تصنيف انتقادات المثقفين أو كتاب أعمدة الصحف أو الأكاديميين. ولكن ما الذي قاله أبراهام بورغ وأغضب عليه المؤسسة الصهيونية بكاملها؟ وما هو الجديد في كلامه الذي لم يقله سواه؟

الانتقادات الحادة التي أثارها بورغ جاءت في المقابلة الصحفية التي أجراها معه الصحفي "أراي شاليط" من صحيفة "يديعوت احرونوت" بتاريخ 8-6-2007، والتي جاءت تحت عنوان رئيس: "أبراهام بورغ: يجب إلغاء تعريف إسرائيل كدولة يهودية لأنها أصبحت غير ضرورية"، وعنوان آخر فرعي: "أبراهام بورغ لم يعد صهيونياً"، وذلك بمناسبة صدوز كتاب جديد له بعنوان: "فلننتصر على هتلر". وهذا استعراض سريع لأهم النقاط التي تضمنتها هذه الانتقادات.

·         معارضة تعريف إسرائيل على أنها دولة يهودية مشدداً على أن تعريفاً كهذا سيقرب نهايتها قائلاً: أن دولة يهودية هي مادة متفجرة.

·         لا يمكن أن تكون هناك دولة "يهودية وديموقراطية" في آن واحد.

·     الدعوة الى التخلي عن ثيودور هرتزل قائلاً أنه يجب "ابقاؤه وراءنا"، مقدّماً نفسه بهوية جديدة غير صهيونية بقوله: "إنني ابن هذه الإنسانية وأنا يهودي وإسرائيلي. أما الصهيونية فقد كانت وسيلة لنقلي من وضع اليهودي إلى وضع الإسرائيلي ويبدو لي أن بن غوريون هو الذي قال أن الحركة الصهيونية شكلت مقدمة لانشاء الوطن وفي أعقاب انشاء الدولة يتعين نزع الصهيونية".

·     وجوب إعادة النظر في "قانون العودة" الذي يتيح لكل يهودي في العالم الهجرة الى اسرائيل، معتبراً أن هذا القانون هو بمثابة "صورة مرآة لهتلر"، وأضاف أن "قانون العودة يؤدي الى طلاق بيننا وبين يهود الشتات، وبيننا وبين العرب".

·     ضرورة تفكيك "الوكالة اليهودية" قائلاً: "لقد اقترحت عندما كنت رئيساً للوكالة اليهودية تغيير اسمها من الوكالة اليهودية لأرض إسرائيل الى "الوكالة اليهودية للمجمتع الإسرائيلي"، وبأنها يجب أن تعتني بكل مواطني إسرائيل بما في ذلك العرب".

·     وصف إسرائيل بأنها فاشية تعتمد على القوة فحسب، وهي قوة استعمارية: "الفاشية هنا الآن... إسرائيل هي دولة بلطجية ومستقوية وقاسية وامبريالية وسطحية فاقدة لأصالة الروح ومنطوية على نفسها... الدعوات المتتالية إلى قتل الفلسطينيين وهدم منازلهم وترحيلهم والقتل وشرعنة سياسة الترحيل من خلال مشاركة أصحاب هذه السياسة في الائتلاف الحكومي، دليل على انتشار الفاشية". ويضيف: "لقد تجاوزنا عدداً هائلاً من الخطوط الحمر في السنوات الأخيرة. لا أستبعد أن يشرّع الكنيست في السنوات المقبلة قوانين ضد العرب تضاهي بعنصريتها قوانين نورمبيرغ".

·     إسرائيل شبيهة بألمانيا عشية صعود النازية الى الحكم، حيث كان الشعب الألماني ناقماً على العالم... ونتيجة لفشل الجيش في تحقيق انتصارات في غزة ولبنان أصبحت العسكرة مركزية في الهوية الاسرائيلية.

·         دعا إسرائيل الى التخلي عن السلاح النووي معتبراً أن يوم تفكيك القنبلة سيكون أهم يوم في حياة دولة إسرائيل.

·     وكشف بورغ انه عندما كان رئيساً للكنيست سمع «رجالات السلام» يقولون إنّهم يريدون السلام لأنهم يكرهون العرب ولا يتحملونهم ولا يريدون رؤيتهم. وسمعت اليمينيين يتكلمون بمصطلحات كهانية (عنصرية ضد العرب). صحيح أن الكهانية ليست ممثلة رسمياً في الكنيست لكنّ 20 في المئة من السجال اليهودي في الكنيست كهانيّ".

·     ولتأكيد «تشاؤمه» بمستقبل إسرائيل قال بورغ إن أكثر من نصف النخب الإسرائيلية لا يريد لأولاده العيش في هذه الدولة «ومن دون نخب ليس هناك مشروع أمة".

·     وختم بورغ مقابلته بدعوة كل إسرائيلي الى استصدار جواز سفر أجنبي، واصفاً الاسرائيلي بأنه نصف يهودي وبأنه في (الجنسية) الاسرائيلية هناك جسم فقط بلا روح... قائلاً: "لم يعلنوا ذلك... لكننا موتى".

           

على أنه، ومنعاً لأي استنتاجات خاطئة، ينبغي التذكير هنا أنها ليست المرة الأولى التي يقوم فيها بورغ بتوجيه انتقادات قاسية من هذا النوع ضد المؤسسة الصهيونية الحاكمة. لكنها بالتأكيد المرة الأولى التي يقوم فيها بتوجيه الانتقاد الى أسس المشروع الصهيوني ذاته. ففي مقال له نشرت جريدة "المستقبل" ترجمته العربية بتاريخ 13-3-2003، تناول بورغ بالنقد الشديد عدة ممارسات للطبقة السياسية الحاكمة في إسرائيل. وكان قد استهل مقاله ذاك بقوله: "الثورة الصهيونية: سلوك مستقيم وقيادة أخلاقية. ويبدو أن كلتا الدعاميتن تتعرض للتهديد والتضاؤل". وهو إذ دعا المجتمع الإسرائيلي الى التدخل السريع لمنع الانهيار، إلا أنه حمل يهود الشتات قسطاً من المسؤولية: "يهود الدياسبورا، الذين تشكل إسرائيل قاعدة من قواعد هويتهم، يجب عليهم أن يتدخلوا وأن يقولوا رأيهم. فإذا تزعزعت القاعدة، فإن الطبقات العليا ستتداعى بالتدريج".

وقد توصل أبراهام بورغ وقتها الى ملاحظة قدمها على الشكل التالي: "لقد تبين لي أن نضال الألفي عام من أجل الدولة انتهى بأن تكون لنا دولة مستوطنات تديرها عصابة من الفاسدين من صنّاع القانون ومخترقيه، والذين يصمون آذانهم عن مواطنيهم وعن أعدائهم". ويصر بورغ على أن هذه الملاحظة ليست خاصة به، فهو يتابع قائلاً: "يتوصل إسرائيليون كثيرون الى هذه القناعة عندما يسألون أطفالهم أين يريدون أن يعيشوا الـ 25 سنة المقبلة، فيجيب الأطفال بأنهم لا يعرفون. وهكذا يبدأ العد التنازلي لبقاء الكجتمع الإسرائيلي".

ويخلص بورغ في مقاله ذاك، والذي جاء تحت عنوان: "هل هي نهاية الصهيوني؟" الى مخاطبة صنّاع القرار الإسرائيلي بقوله: "هل تريدون الديموقراطية؟ لا مشكلة. إما أن تهجروا مشروع إسرائيل الكبرى أو أن تعطوا الجميع عرباً ويهوداً حقوقاً متساوية. ومعنى ذلك أن العرب الذين لا يريدون دولة فلسطينية سيعيشون في أوساطنا متساوين معنا في كل شيء عبر صناديق الاقتراع. علينا أن نختار بين: عنصرية يهودية أم ديموقراطية! مستوطنات أو أمل للشعبين".

عبر هذا الاستعراض، فإنه يمكن التدليل بقوة أن انتقادات بورغ ليست من نوع تلك الانتقادات التي يمارسها مجموعة الأكاديميين الذين تسموا تحت مسمى "المؤرخون الجدد" أو حتى أولئك الذين يصفون أنفسهم بأنهم يؤسسون تيار "ما بعد الصهيونية". ذلك أن المنطلقات التي ارتكز إليها بورغ ليست أكاديمية ولا تاريخية.  فبورغ ليس أكاديمياً بهذا المعنى، بل هو رجل سياسي ترأس الكنيست وترأس الوكالة اليهودية وخاض انتخابات داخل حزب العمل، وساهم في صناعة قرارات إسرائيلية على مستوى القمة. بورغ لا يؤرقه تنظيف الدماء التي تلطخت بها بداية الدولة الصهيونية، كما هي حال المؤرخون الجدد، الذين يسعون الى إعادة كتابة تاريخ "تطهري" لقيام إسرائيل، ولا هو يرى أن الصهيونية وصلت الى أهدافها أصلاً بإقامة مشروع الدولة، كما هي حال تيار ما بعد الصهيونية. بل هو سياسي محنك ينظر الى مستقبل دولة إسرائيل التي لا يرى أمامها الا الانهيار المؤسس له بانهيار أخلاقي على مستوى القمة السياسية. فأبراهام بورغ، اليهودي المتدين، يشغل باله بالدرجة الأولى مستقبل اليهود في العالم في ظل انهيار مشروع دولة إسرائيل، ولذلك فإنه يعرض على القيادة صفقة مفادها: ضحوا بالصهيونية كي يستمر اليهود في العيش، لأننا في واقع الحال أقمنا شبه دولة لا تستطيع الاستمرار، وأنها إذا انهارت فلن يبقى لليهود وجود في العالم. هذه هي الفكرة الأساس التي ينطلق منها بورغ.

ومن زاوية ثالثة، فإن ما قاله بورغ يكتسب أهمية قصوى نظراً للحظة التاريخية التي يقول فيها هذا الكلام.  فاسرائيل ذاتها على مهب الريح، نظراً لتضافر ثلاث مآزق استراتيجية أمامها: فشل قوة الردع العسكرية عن تحقيق أهداف حروب خاضتها مؤخراً في قطاع غزة ولبنان، وضعف المظلة العسكرية الأمريكية التي تحمي وجود وبقاء الكيان ذاته، وغياب استراتيجية سياسية يمكنها أن تدير دفة الكيان الى المستقبل بعد انهيار استراتيجيات أحزاب العمل والليكود وكاديما أيضاً. في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ  دولة إسرائيل يطلع بورغ بانتقاداته ليؤجج أزمة الكيان الصهيوني، ولا سيما في ظل الحملة المحمومة على العرب الفلسطينيين داخل ما يسمى بالخط الأخضر، والمتمثلة بقضية عزمي بشارة وأبعادها على المستوى القومي اليهودي والعربي. بورغ كشف ورقة التوت الأخيرة، وأهمية كلامه ينبع من أهميته الشخصية السالفة الذكر. ولذلك جاءت الانتقادات العنيفة بأن ما قاله "سلاح بيد كل أعداء إسرائيل لمحاربتها". 

هنا يبرز سؤال ملح: هل يفهم القادة العرب ما يجري في داخل الكيان الصهيوني؟ هل يدركون المأزق التاريخي والاستراتيجي الذي يعاني منه هذا الكيان؟ لا نعتقد ذلك! ذلك لأن مبادرات القمم العربية تشير الى عكس هذا الاتجاه. الصورة توحي بأن بعض العرب، وما أكثرهم، يمدون طوق النجاة الى الكيان الصهيوني المشرف على الانهيار. فلو كان الأمر غير ذلك لرأينا مبادرات مختلفة يمكن استنتاجها من كلام بورغ وكثيرون غيره. مبادرات تقوم على: "دولة واحدة لشعبين: ثنائية ديمقراطية"، مع التمسك حتى الرمق الأخير بحق العودة.

أمام الدول والأنظمة العربية وقوى المقاومة فرصة تاريخية قد لا تتكرر قريباً: هناك كيان صهيوني منهار، وحاله مثل حال عصا سليمان عليه السلام التي كانت دابة الأرض تأكلها، لكنها لم تنهار إلا عندما وقع سليمان عن كرسيه.