العولمة والحرب على ثقافة الآخر

(الحلقة الثانية)

ما هي العولمة؟

رشا أحمد الكيلاني

كاتبة من لبنان

 

يدهي القول أن أي دراسة جادة لا بد وأن تحدد مجموعة المصطلحات والمفاهيم المستخدمة في سياق البحث.  وفي هذا الإطار، لا بد من تحديد المصطلحين المركزيين في هذه الدراسة ونقصد بهما: العولمة والثقافة.  وسنتناول في هذه الحلقة ظاهرة العولمة.

 

ما هي العولمة؟

على عتبة الانتقال الى الألفية الثالثة، احتل مصطلح "العولمة" اهتمام المفكرين والباحثين على امتداد الكرة الأرضية. ولقد قيل أن "الكاتب" أو "الباحث" لا يعدّ كذلك إلا إذا كان قد كتب شيئاً ما عن العولمة أو حولها.  وبما أن هذه الظاهرة كانت ولا تزال آخذة في التشكل حتى الآن، فإن الوصول الى تحديد نهائي وأخير لها يكاد يصبح ضرباً من المستحيل، ناهيك عن محاولات التأصيل الأكاديمي والدراسي لها.

وبسبب اختلاف خلفيات الدارسين ومدارسهم الفكرية واتجاهاتهم ورؤاهم السياسية، وبسبب عدم وضوح الظاهرة في ذاتها، وبسبب التحول السريع في العلاقات السياسية العالمية خلال العقد الأخير من القرن العشرين، الذي كان المسرح الزمني لنشوء ظاهرة العولمة، تضاربت الأقوال في ماهية العولمة الى حد التناقض الصارخ أحياناً، وأدى الى التباسات شتى. والمطلع على هذه الدراسات سيرى فيها كماً كبيراً في تصنيف الظاهرة ذاتها: فتارة توضع في المجال السياسي، وتارة في دنيا الاقتصاد، وأحياناً في المستوى الفكري– التبشيري، وأحياناً أخرى في مستوى التطور بالمعنى البيولوجي وإسقاطه على حركة التاريخ. حتى لقد قال فريدمان: "العولمة ظاهرة طبيعية لا يمكن التنكر لها تماماً مثلما أن الشمس تشرق كل صباح."

في واقع الأمر، كانت مفردتا "القرية الكونية" و"القرية العالمية" أسبق في الظهور من لفظ "العولمة" وقد مهدتا لقيامه رغم الخلط الشديد الذي شاب اللفظ وأدى الى التباسه مع مصطلح "النظام العالمي الجديد". ولعل المفردتين السالفتين أشد دلالة على مدى تشابك العلاقات بكافة مستوياتها على الصعيد العالمي. غير أن مصطلح "العولمة" سرعان ما بات سريع التداول على صفحات الجرائد وأقلام الكتاب وخطابات الرؤساء بعد أزمة "البيزو" المكسيكي وعملية "درع البيزو" التي شنها الرئيس الأمريكي السابق "بيل كلينتون" لمواجهة خطر انهيار الاقتصاد المكيسكي على الاقتصاد الأمريكي، واصفاً العولمة وقتها بأنها بلا أخلاق!

العولمة بهذا الاتجاه تكون قد نشأت في الأصل على قاعدة تبدل العلاقات الاقتصادية العالمية إثر انهيار الحرب الباردة وانفتاح الأسواق العالمية أمام تدفق رؤوس الأموال بحرية باتجاه الدول الأرخص عمالة والأكثر غنى بالمواد الأولية والأقرب الى الأسواق المستوردة. وبهذا، يكون انهيار المنظومة الاشتراكية وزوال الأسواق الموجهة والمغلقة على الخارج قد انعكس سلباً على أسواق الدول الرأسمالية بحيث بدأت هجرة رؤوس الأموال تتجه الى استثمارات في بلدان جديدة ما أثر على حركة الأسواق في دول العالم الرأسمالي وبالأخص الولايات المتحدة. وقد ساهمت في هذا التحول الثورة التكنولوجية الهائلة في الاتصالات والمواصلات وتطور النظام المصرفي والمالي ما ساهم في تعزيز التجارة الالكترونية. 

وفق هذه القراءة، تكون "العولمة" قد نشأت نتيجة عوامل عدة متداخلة: انهيار المنظومة الاقتصادية الاشتراكية، الثورة التكنولوجية، وفورة الرأسمال المالي. وبهذا المعنى ينبغي عدم الانجرار بعيداً وراء مقولة أن العولمة هي الشكل الأعلى من تطور الرأسمالية. فهذه المقولة تحتاج الى تدقيق، ذلك أن جزءاً منها صحيح، بينما الجزء الآخر يحتاج الى تمعن. صحيح أن العولمة هي الشكل الأعلى للرأسمالية. فهذا ماثل للعيان. ولكن هل جاءت العولمة نتيجة تطور النظام الرأسمالي وفق آلياته وديناميته الداخلية الخاصة وعلاقاته الإنتاجية. ما جرى تاريخياً لا يوحي بذلك، وخاصة أن الدول الصناعية، التي تمثل مركز الرأسمالية ذاتها، كادت أن تسقط تحت ضربات هجرة رأس المال والمضاربات المالية في البورصات. ويمكن فهم ما جرى انطلاقاً من أن هذه الدول الراسمالية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية كانت الأكثر قدرة على امتصاص التغيرات على المستوى العالمي بفعل امتلاكها للقوة الأكبر على المستوى العسكري ومستوى المضاربة بالبورصة.

كما وينبغي التسجيل هنا، أن مجيء جورج دبليو بوش الى البيت الأبيض قد غيّر كثيراً من قواعد اللعبة المعولمة. ففي ظل إدارته تهمش دور الاقتصاد المعولم المرتكز الى صناعة التكنولوجيا العالية Hi– Tech والبورصة، وأعيد الاعتبار الى الصناعة التقليدية المتمثلة بالنفط والسلاح، الأمر الذي يشكل دليلاً إضافية الى أن العولمة ليست تطوراً رأسمالياً طبيعياً. في الواقع لقد خسرت العولمة كثيراً من زخمها مع التغييرات التي أجراها جورج دبليو بوش على بنية الاقتصاد الأمريكي، ويمكن ملاحظة أثر ذلك في خفوت الحديث عن العولمة في وسائل الإعلام.

على أن ما يعنينا هنا هو الآثار التي تركتها العولمة على مستوى الثقافة انطلاقاً من عالم الاقتصاد والسياسة. فعلى هذا المستوى أحدثت العولمة آثاراً غير قابلة للعكس. فالعولمة التي تقوم على "النمطية" على المستوى الاقتصادي، قد أدت الى توسيع التنميط الاستهلاكي على المستوى العالمي برمته. والمقصود بالاستهلاك هنا ليس قاصراً على المنتجات المادية، كالبضائع والمؤسسات، بل تمتد لتطال الثقافة والأفكار والتربية. 

"البنى التحتية تترك تأثيرها الحتمي على البنى العليا". هذه المقولة المأخوذة من الفكر الماركسي فيها الكثير من الصحة، وإن كنا لا نؤمن بها الى نهايتها. جميع مطارات العالم ذات الصفة العالمية، وكذلك المقاهي والفنادق والأسواق والحلقات التلفزيونية، باتت واحدة في كل دول العالم لا فرق في ذلك بين واشنطن أو باريس أو طهران أو دكار أو حتى أثيوبيا. النمطية التي طالت كل شيء على المستوى المادي الملموس تترك أثرها على المستوى الثقافي الأعلى: لم يعد بإمكانك أن تتجول في أي مكان في العالم دون معرفة اللغة الإنكليزية... سواء كنت في لندن أم الدوحة أم نيودلهي. اللباس، الذي كان يعتبر حتى عقود قليلة خلت رمزاً للتنوع الثقافي على المستوى العالمي لم يعد ممكناً اعتباره كذلك. حتى الجلسات العائلية الحميمة بدأت تتضمحل لصالح نمط واحد (هو النمط الغربي في الأغلب). العالم يفقد سنوياً ما يزيد عن ستماية لغة، وهناك آلاف اللغات على قائمة الاضمحلال. الأدب بكافة فروعه بدأ "يتنمط"، حتى لوائح الطعام في المقاهي والمطاعم تكاد تكون كلها واحدة وبلغة واحدة (وفي معظم الأحيان مع عدم وجود ترجمة محلية للائحة الأطعمة ببساطة لأن المأكولات المقدمة ليست محلية وبالتالي ليس لها اسم محلي). 

وعلى المستوى التكنولوجي بات العالم كله مفتوحاً على بعضه البعض. فالطفل أو الشاب الذي يجلس خلف جهاز الكومبيوتر يمكنه أن "يفتح شات" على كل الثقافات الأخرى (نظرياً) لكنه في الأغلب سيتحدث بلغة انكليزية ركيكة في معظم الأحيان ويتشرب نمط التفكير الغربي وفي مواضيع قد تكون غريبة كل الغرابة عن ثقافته، بل ومستهجنة أيضاً. وحتى اللغة المحلية باتت تكتب بأحرف لاتينية أسهل طباعة على لوحات الكومبيوتر.

الشعور بالذعر لم يقتصر على الحكومات التي بدأت تفقد سيادتها المحلية ضمن إطار حدودها الجغرافية، بل تعداه الى المجموعات العرقية المختلفة، ولا سيما منها تلك التي تشعر بأنها أقلية على المستوى العالمي. 

مع كل إشراقة شمس يتضح أكثر فأكثر الذوبان الوطني واضمحلال التنوع الثقافي الإنساني تماماً كما هي الحال لأجناس كثيرة من الحيوانات والبيئات التي انقرضت بفعل المدنية والحداثة على مدى القرنين الماضين.  وإذا كان الإطاران الجغرافي والزماني يحددان المفاهيم والمصطلحات، وبصورة أدق "الهوية" بكافة مستوياتها، فإن تأثير العولمة قد أصاب هذين الاطارين بدورهما، بحيث لم يعد المكان مكاناً ولا الزمان زماناً بالصيغة التي كنا نعرفهما بها. الانترنيت وsms تجاوزا حرس الحدود وعوامل الزمن بما لا يمكن اللحاق به.

لهذا كله، بات لزاماً تدقيق تأثير العولمة على الثقافة ومعرفة الحرب المقبلة التي بدأنا نشهدها فصولاً ابتداء من مقولة حرب الحضارات والحرب على الارهاب التي تضمن بنداً أساسياً هو تغيير المناهج المدرسية وما يعنيه ذلك. وسنبدأ في الحلقة المقبلة بتعريف الثقافة والأطر المحددة للهوية لاستكمال هذا البحث.