Email: elie@kobayat.org |
![]() |
ليلة في بيت لحم...
شوارعٌ فارغةٌ من النّاس... هذه حال كلّ البلدات في حوض البحر الأبيض المتوسّط في ليالي الشتاء...
ولكنّ البيوت والأماكن مكتظّة... فلقد أمر القيصر أوغسطس النّاس بالاكتتاب، كلّ في مدينته الأمّ...
ولقد مررت في تلك الليلة في بيت لحم وحاولت جاهداً العثور على مكانٍ لأبيت فيه... ولكن عبثاً... ولا حتّى بالمال أو بالرّشوة... فالبلدة مكتظّة بسكّانها وبالوافدين...
فما العمل؟
تابعتُ المسير، عبر شوارعها، أملاً في المبيت في أيّ مكان أو زاوية تقيني الصقيع في ليلة شتويّة صافيةٍ، بردها قارسٌ...
ما لفتني ليلتها نجمٌ كبيرٌ، نافس القمر في إنارة البلدة حتّى تحوّلت إلى لوحةٍ فضّيةٍ خلّابة...
وفيما أنا أسير أفكاري، سمعت أصواتاً هامسة، يفيض الحنان من سيلان كلماتها الخافتة، الخاشعة...
فالتفتّ حولي وإذا بضوءٍ شاحبٍ ينسلُّ من اسطبلٍ للحيوانات تابعٍ لمضافةٍ سبق أن أمضيت فيها ليلةً في الماضي.
دفعني الفضول لأدخل إلى الاسطبل وإذا بي أمام رجلٍ واقفٍ وامرأة مضطجعةٍ، بدا على وجهها التعب والارهاق ولكن ارتسمت عليه ابتسامةٌ، صمت أمامها كلّ ما كان يختلج في قلبي من أفكارٍ وإضطرابٍ...
وقبل أن أسألهما عن حالهما، تسلّل إلى أذنيّ صوتُ رضيعٍ مضجعٍ في مذود العلف... حوله ثورٌ وحمار...
وما هي إلّا لحظاتٌ حتى رأيتُ ثلاثة رجالٍ يدخلون الاسطبل... وكأنّهم من المجوس، بثيابهم الملكيّة، الفارسيّة... وبيد كلّ منهم غرضٌ... سرعان ما عرّفوا عن ذواتهم بأنّهم من المجوس، الّذين تبعوا النجم الّذي لفتني، والّذي، وفق أقوالهم، أرشدهم إلى الملك المولود في بيت لحم ليقدّموا إليه الهدايا: ذهباً ومرّاً ولباناً... وقد عرفوا من خلال النّجم بأنّ المولود الصغير هو الملك المنتظر، بحسب علومهم...
أيعقل هذا الكلام؟ أيولد الملك في الاسطبل مع الحيوانات أو في القصور، بين الخدم وكبار القوم؟
وقبل أن يتسنّى لي الكلام، دخل رعاةٌ من النّاحية، كما تدلّ على ذلك لهجتهم، ليخبروا بدورهم أنّ ملاكاً ظهر عليهم وقال لهم بأنّه أتى ليبشّرهم بأنّه ولد لهم مخلّص يجدونه مقمّطاً في مذودٍ للحيوانات!
عجبٌ أكبر!
هل يمكن تصديق هذا الكلام؟
ما أعجبها هذه الليلة وما أطولها!
ولكنّي عجزت عن الكلام! فالمجوس أكثر علماً منّي لأجادلهم والرّعاة أوضع من أن أفاتشهم!
فهممت بالمغادرة بهدوءٍ لأتابع بحثي عن مكانٍ ألجأ إليه...
ولكن أحد الرعاة بادرني بالقول: "إلى أين تمضي؟".
فأجبته: "أبحث عن مكانٍ أبيت فيه، ليقيني برد هذه الليلة العجيبة!".
فقال: "أمكث هنا... فلن تجد في الكون كلّه مكاناً أدفأ أو أأمن أو أجمل!".
فقلت له:"عجباً، أتضحك عليّ يا رجل؟!"
فتبسّم الراعي وأشار إلى الطفل الصغير...
فإذ بابتسامةٍ قد ارتسمت على وجهه، هزّتني حتّى عمق أعماقي... فالطفل يبتسم وهو بالكاد ملفوفٌ بقماطٍ ناعمٍ بينما يهزّني البرد حتى عمق كياني رغم وفرة ثيابي...
وهنا أدركتُ بأن البرد الّذي شعرت به ما كان إلّا برودة القلب والكيان... وبأنّ الدفء الّذي كان يغمر كيان الرّعاة والمجوس بحنانٍ وحبّ هو دفء الإيمان - الّذي كان في قلوبهم - بما كانوا يقولون...
وقلت لذاتي: "من يا ترى هو الّذي ولد اليوم في بيت لحم؟ من هو هذا الطّفل؟ ومن يكون؟"...
وهنا سمعتُ الأمّ تخاطب ابنها لأوّل مرّة قائلةً: "يا بنيّ... يا يسوع".
يسوع أي يشوع... أي ألله يخلّص... فسألتُ ذاتي: "الله يخلّص ماذا أو من؟".
وإذ بأحد المجوس يقول: "يسوع...ألله يخلّص... إنّه اسمٌ جميلٌ... يذكّر كلّ من يسمعه بأن الله يريد الخلاص له، من كلّ ما يؤرقه أو يرهقه أو يتعبه".
وهنا فهمتُ أن أسئلتي كانت تتلقّى الأجوبة مباشرةً ما أن أطرحها في ذهني فآمنت وفهمت بأن ابتسامة الطفل كانت موجّهة إليّ وشعرتُ هنا لأوّل مرّة بالدفء في تلك الليلة... فاقتربت من المذود وقلت للطفل: "يا أيها الطفل العجيب، لقد بتُّ أعلم بأنّ مروري من هنا كان هدفه أن ألتقي بك... وبأن عدم إيجادي لمكانٍ أبيتُ فيه كان هدفه أن أجد ذاتي بقربك... فسامحني لأنّ لا هديّة لديّ أقدّمها لك... لذا، بدل الهديّة، سأقدّم لك ذاتي...".
وهنا استيقظتُ على صوت ابنتي تقول لي: "أبي، أبي... استيقظ... إنّه صباحُ الميلاد، ولد المسيح هللويا".
فأدركت أنّ من ولد في تلك الليلة كان أنا...
(الخوري نسيم قسطون – 22 كانون الأوّل 2010)
Email: elie@kobayat.org |
![]() |