رسالة صوم 2004 للبطريرك الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير

lettre patriarcale du careme 2004

 

"في الوطن والقيم"

 

"إلى جميع إخواننا المطارنة وجميع أبناء كنيستنا، اكليروساً وعلمانيين، أيها الأخوة والأبناء الأعزّاء، السلام والبركة الرسولية، بعدما بلغ انهيار القيم التقليدية درجة عالية، على وجه الإجمال، في العالم وعندنا، وبرزت قيم جديدة لم يألفها العالم من قبل، وأدخلت معها عادات تكاد تصبح تقاليد، تعمل وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة على نشرها، وغالباً ما تنأى بها عن الدين وقيمه، ومبادئه السليمة، فخلّفت وراءها قلقاً متزايداً في النفوس والعائلات والمجتمعات والأوطان رأينا أن نحدّثكم في فترة هذا الصوم الكبير عن القيم الإنسانية وبخاصة عن القيم المسيحية التي عليها يقوم بناء الأوطان وازدهارها. وسيدور حديثنا عن وجوب إعلاء شأن هذه القيم لدى الأشخاص وفي العائلة  والمدرسة والمجتمع والوطن لتسلم هذه المؤسسات من الانهيار، ويبقى لها تراثها الذي تتناقله الأجيال المتعاقبة، والذي تعتمد عليه ليمدّها بما تحتاج إليه من خبرة السلف الصالح، وما يكون قد اكتسبه هذا السلف بالمراس الطويل، وعبر المحن القاسية، والتجارب الصعبة، التي تكون قد مرّت به، فصقلت إرادته. وتبقى مدرسة الحياة خير مدرسة، لما تلقيه على الناس من أمثولات بليغة، وتلقّنهم من دروس لا تنتسى، فتضيء طريقهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم ومرضاة ضمائرهم وربّهم والظفر في نهاية المطاف برؤية وجهه الكريم.

 

أولاً: القيم على صعيد الأشخاص

ما من أحد في إمكانه أن يعيش وحده في جزيرة. لذلك حدّد أحد الفلاسفة الإنسان بقوله: "انه حيوان اجتماعي". وإذا كان محتوماً عليه أن يعيش في مجتمع، بات لزاما عليه أن يأخذ بعض القيم في الاعتبار، ويهتدي بها في ما يقول ويعمل. لا بل هناك بعض فضائل بشرية، أساسية، تسعف الإنسان على  اقتطاع مركز له محترم في محيطه، وعلى إحسان تعاطيه مع الناس، ومواجهة الشدائد بإيمان حيّ بالله، وعزيمة ثابتة، صلبة. وقد حدّد تعليم الكنيسة الكاثوليكية هذه  الفضائل بقوله: "إنها حالات ثابتة، واستعدادات مستمرة، وكمالات عادية، للعقل والإرادة، من شأنها أن تنظّم أفعالنا، وترتب أهواءنا، وتقود سلوكنا وفق العقل والإيمان. وهي توفّر للإنسان الفضيل السهولة، والسيادة على الذات، والفرح، بحيث يتمكن من أن يعيش عيشة أدبية، أخلاقية، صالحة. والرجل الفضيل هو ذاك الذي يصنع الخير بحريته. وتُكتسب الفضائل الأدبية بطريقة بشرية. وهي ثمار وبذور لأعمال صالحة أخلاقياً، وتعدّ كل قوى الكائن البشري للمشاركة في المحبة الإلهية". وقد أعرب بولس الرسول   عن ذلك بقوله: "اهتمّوا بكل ما هو حق، وشريف، وعادل، وطاهر، وبكل ما هو مستحبّ، وحسن السمعة، والعدل، وما كان فضيلة، وأهلاً للمديح". وعدد هذه الفضائل الرئيسية أربع: وهي الفطنة، والعدل، والقوّة، والقناعة. ويتفرّع منها فضائل أخرى كثيرة، كالاستقامة، والحياء، والسيطرة على الذات والأهواء، وسواها.

1- الفطنة، وهي الفضيلة التي تؤهّب العقل العملي ليميّز، في كل ظرف، الخير الحقيقي، ويختار الوسائل العادلة، التي تكفل تحقيقه. يقول سفر الأمثال: "الحذر يفطن لخطاه"، ويقول القديس بطرس: "تيقّظوا واسهروا للصلاة". "والفطنة هي قاعدة العمل المستقيمة". على ما يقول القديس توما، بعد أرسطو. وهي تتميز عن الحياء أو الخوف، وعن الخبث والرياء. فهي سيّدة الفضائل وقائدتها لأنها ترشدها إلى القاعدة والمعيار. والفطنة هي التي ترشد حالاً الضمير إلى ما يحكم به. والرجل الفطن يقرّر ويكيّف سلوكه وفق الضمير. وإننا بفضل هذه الفضيلة، نطبّق، دونما خطأ، المبادئ الأدبية على الحالات الخاصة، ونتغلّب على الشكوك في ما خصّ الخير الذي يجب عمله، والشرّ الذي يجب اجتنابه.

2- العدل، وهو الفضيلة الأدبية التي تقوم على الإرادة الثابتة، المصممة على إعطاء الله والقريب ما لهما من حق فيه. والعدل تجاه الله يسمّى "فضيلة الدين" . وفضيلة العدل تعدّ صاحبها ليحترم حقوق كل من الناس، وليدخل على العلاقات الإنسانية من الانسجام مما يساعد على ممارسة الإنصاف تجاه الأشخاص والخير العام. والرجل العادل، الذي غالباً ما تحدّث عنه الكتاب المقدّس، يتميز عادة بسلامة أفكاره، واستقامة مسلكه تجاه القريب. جاء في سفر الأحبار: "لا تحابِ وجه الفقير، ولا تكرم وجه العظيم، بل بالعدل تحكم لقريبك" ويقول بولس الرسول: "أيها السادة، عاملوا عبيدكم بالعدل والمساواة، عالمين ان لكم أنتم أيضا سيّداً في السماء".

3- القوة، أو الشجاعة، وهي الفضيلة الأدبية التي تؤمّن، لدى الصعوبات، الحزم والثبات لمواصلة عمل الخير. وهي تثبّت القرار لمقاومة التجارب وتذليل العقبات في الحياة الأدبية. وفضيلة الشجاعة تمكّن من التغلّب على الخوف، وحتى على الموت، وعلى مواجهة المحنة والاضطهادات. وتعدّ صاحبها للذهاب حتى الكفر بالحياة، والتضحية بالذات، دفاعا عن قضية عادلة. صاحب المزامير يقول: "الرب عزّي وتسبيحي" والسيد المسيح يقول: "سيكون لكم في العالم ضيق، لكن تقوّوا، أنا غلبت العالم".

4- القناعة، وهي الفضيلة الأدبية التي تحدّ من جاذبية الملذات، وتمكن من الاعتدال في استعمال الخيور المخلوقة. وهي تؤمّن سيطرة الإرادة على الغرائز، وتضبط الشهوات ضمن حدود النزاهة. والقنوع يوجه شهيته الحسية إلى الخير، ويعتصم بالرصانة، ولا يجري وراء شهوات قلبه. إن ابن سيراخ يقول: "لا تتبع أهواءك، بل اكبح شهواتك". والعهد الجديد يدعو هذه الفضيلة: "اعتدالاً أو تقشفا". يجب، يقول بولس الرسول: "أن نعيش في هذا العالم بالعفة، والبرّ، وتقوى الله".

هذه الفضائل الأربع تقوم بدور محوري، لأنها تجمع حولها جميع الفضائل. وقد امتدحها الكتاب المقدس في أماكن عديدة منه، وسفر الحكمة يقول: "هل من يحبّ الاستقامة؟ فالفضائل هي ثمرة أعمالها، لأنها تعلّم العفة، والفطنة، والعدل، والشجاعة". والفضائل البشرية المكتسبة بالتربية، والأفعال المقصودة، والمثابرة على بذل الجهد تطّهرها النعمة الإلهية وترتفع بها. وهي، بمعونة الله، تصقل الأخلاق، وتسهّل عمل الخير. والرجل الفضيل يسعد بممارسة هذه الفضائل. وليس من السهل على الإنسان، الذي جرحته الخطيئة، ان يحافظ على الاتزان الأدبي. إن هبة الخلاص التي أتانا بها السيد المسيح تولينا النعمة اللازمة للثبات في البحث عن الفضائل. وعلى كل من الناس أن يسأل دائما نعمة النور والقوّة، وان يلجأ إلى الأسرار، ويعاون الروح القدس، ويتبع نداءاته لصنع الخير واجتناب الشرّ".

ولا نتوقف عند الفضائل اللاهوتية: الإيمان، والرجاء، والمحبة، لأنها من نوع آخر، ولا تكتسب، كالفضائل البشرية، بالتربية العائلية، أو المدرسية، والمران، بل بنعمة من الله. ولا يؤمن من يريد فقط، بل من يجود الله عليه بنعمة الإيمان. والرجاء والمحبة هما من ثمار هذا الإيمان. لذلك يمكننا أن نقول انه بالإضافة إلى الفضائل البشرية التي لا بدّ منها في الحياة الاجتماعية، هناك مجموعة فضائل لا تستقيم حياة المجتمع بدونها، مثل الصدق في التعاطي، والوفاء بالوعود المقطوعة، ومجانبة المماطلة والخداع في معالجة الأمور، والامتناع عن التواطؤ مع الموظفين للتخفيف مما يتوجب على المواطنين دفعه للدولة من رسوم وضرائب، على أن تكون عادلة تشمل جميع المواطنين، باستثناء من تستثنيهم لأسباب صواب، كالفقر المدقع، والمرض المزمن، والعجز البالغ. وفي هذه الحال يصبح واجبا على الدولة أن تهتم بشأنهم، وتمدهم بما يضمن لهم عيشا عاديا، لائقا.

 

بعض آفات المجتمع

ولا نريد أن نتوقف طويلا أمام المخاطر التي يتعرض لها في عصرنا معظم الناس، وبخاصة الشبان والشابات، وهي مخاطر الإباحية التي تنشرها وسائل الإعلام المرئية من تلفزيون وانترنت، وغالبا ما تعكسها الإعلانات التجارية التي ترتفع على الطرق، وتطالع المارّة بمشاهد تجرح الخفر، وتنحر الحياء، وتعيد الناس إلى وثنية قديمة حاربتها كل الأديان، وبخاصة المسيحية على مدى قرون. وإذا اختفت حينا لاحتجاج أهل الفضل المدافعين عن سلامة الأخلاق، تعود فتظهر مجددا بإباحية كبيرة، وتفلّت متزايد من أية ضوابط وقيود.

وما القول عن المخدرات التي تتفشى بين كل طبقات المجتمع، ولا سيما طبقة أبناء الميسورين الذين في إمكانهم أن يشتروها، ولو بأثمان باهظة. وما من احد يجهل مخاطر هذه الآفة التي غالبا ما تشلّ الإرادة، وتذهب بالقوى الجسدية والعقلية، وتجعل من المدمن كائنا غريبا  عن نفسه وذويه، لا يعي ما يقول ولا ما يعمل. وقد سبق لأحدى الصحف أن نشرت خبرا مفاده أن احد الشبان المدمنين قتل والده لأنه منع عنه ما يحتاج إليه من دراهم لشراء ما تعوّده من تعاطي المخدرات.

وما القول ايضاً عن إدمان القمار، والكحول، وهما آفة تعمي من وقع فيها عن القيام بواجبه الشخصي، والعائلي، والوطني، وتعرّض المدمن ذاته للمرض من جرّاء السهر الطويل المتكرر، وعائلته لخطر الإهمال والفقر والجوع. وكانت بيوت القمار سابقا محظورة على ذوي الدخل اليسير، ولا يؤذن لمن يريد ارتيادها إلا إذا قدّم إثباتا انه يملك مبلغا من المال يسمح له بتعاطي القمار. ويبدو ان أبوابها أصبحت مفتوحة على مصراعيها لكل فئات الناس، ولو كان من بينهم من هم مدقعون، يعيشون على الاستقراض والديون.

أما الحديث عن تفشي الرشوة، والغشّ، والكذب، والفساد، وفي الدوائر الحكومية عموما، فخير دليل عليها ما تتناقله الألسن من أخبار عمّا جرى في "بنك المدينة"، وما يتناول طائرة بنين، واللائحة التي نشرتها الصحف أخيرا بأسماء بعض المستفيدين من هذه التجاوزات، وبينهم عدد لا يستهان به من اللبنانيين. ويكفي أن نورد، في هذا المجال، ما أدلى به احد المسؤولين السابقين الكبار. "الفضائح تزكم النفوس. قضايا الاختلاس، والرشوة، والكسارات والإفلاس الاحتيالي، والصفقات على أشكالها، تشغل عناوين الصحف، وتزدان بأسماء كبيرة، ثم لا تلبث أن تتلاشى وتخبو كأن شيئا لم يكن، فلا حساب ولا من يحاسبون. والساحة تغصّ بحالات الإثراء غير المشروع، وقانون الإثراء غير المشروع لا يطبَّق على حال واحدة منها". (جريدة "النهار"). وهذه فضائح تستوجب في بلدان الناس الراقية، حيث للرأي العام وزن كبير، التحقيق، والسجن، ومنع الترشح للوظائف العامة، ما عدا غضبة الشعب المشروعة العارمة.

ولا سبيل إلى محاربة هذه الآفات التي تهدم كيان العائلات، والمجتمع، إلا بالحض على التحلّي بالفضائل التي اشرنا إليها، والتي من شأن ممارستها أن تجنّب المرء جميع ما يعيث في المجتمع من فساد.

 

ثانيا: العائلة

العائلة تنبثق من "الزواج الذي يقوم على رضى الزوجين. والزواج والعائلة يهدفان إلى خير الزوجين، والايلاد، وتربية البنين. ومحبة الزوجين، وايلاد البنين، يستدعيان قيام علاقات شخصية ومسؤوليات أولية بين أعضاء العائلة الواحدة. فالرجل والمرأة المتحدان بالزواج يؤلّفان مع أولادهما عائلة. وهذا التدبير يسبق اعتراف السلطة العامة بها; لا بل انه يفرض ذاته عليها. وهي تعتبر المرجع المألوف، الذي يجب تقدير مختلف أنواع القرابة، بالنسبة إليه.

عندما خلق الله الرجل والمرأة، انشأ العائلة البشرية، وأضفى عليها كيانها الأساسي. وأعضاؤها هم أشخاص متساوون بالكرامة. والعائلة، توجب أنواعاً من المسؤوليات، وتولي بعض الحقوق وتلتزم بعض الواجبات، لخير أعضائها والمجتمع.

والعائلة المسيحية تشكل مظهراً من مظاهر المشاركة الكنسية، وتحقيقاً نوعياً لهذه المشاركة. لهذا السبب تجب الإشارة إليها على انها "كنيسة منزلية"، وهي شراكة إيمان، ورجاء، ومحبة; ولها في الكنيسة أهمية فريدة، على ما يظهر ذلك في العهد الجديد.

والعائلة هي أولى خلايا المجتمع، ولها قيمها التي حافظت عليها عندنا عبر التاريخ. ولكنها قيم أخذت تضيع في هذه السنوات الأخيرة، بعد ظهور عادات جديدة في المجتمع. وهذا ما أشار إليه المجمع الفاتيكاني الثاني بقوله: "إن عددا كبيرا من معاصرينا، وقد طبعهم وضع شديد التعقيد، ليجدون صعوبة كبرى في تبين القيم الثابتة; وهم في الوقت عينه لا يدرون كيف يوفقون بينها وبين الاكتشافات الجديدة ويساورهم قلق، وهم يتساءلون في مزيج من الأمل والجزع عن تطور العالم الحالي. وهذا التطور يتحدى الإنسان، لا بل يرغمه على الجواب".

اجل إن العائلة، في بلدان كثيرة تدين بالمسيحية، أخذت تتفكك. ولم يعد كثير من الناس ينظرون إليها بعين الكنيسة، على انها سر مقدس تتميز برباط ابدي غير قابل للانفصام الا لأسباب تكون قد جعلته يقع باطلا في الأساس. وقد سقطت أو كادت تسقط الروابط التي كانت تشد الأجيال بعضها إلى بعض في ما وصف سابقا بالعائلة البطريركية التي كانت تجمع بين بيت واحد الأبناء والأحفاد والأجداد، فينتقل الإيمان، والفضائل، والعادات والتقاليد، من الكبار إلى الصغار. وغالباً ما تكون الرابطة العائلية عاصما في حالات كثيرة من الزلل. لهذا قيل "الأصل عون".

 

أسباب تفكك العائلة المسيحية

لا شك في ان نمط الحياة قد تغير، فأصبحت لها متطلباتها التي لم يكن الناس العاديون يشعرون بالحاجة إليها. وقد ادّى تحرير المرأة من القيود التي كانت تكبّل حريتها إلى الخروج من منزلها لتسابق الرجل إلى القيام بما يقوم به من وظائف ومهمات. وهذا ولا شك مكسب لكل الإنسانية. ولا يجوز ان يبقى نصفها، وهو النساء، مهمشا. ولكن تحرير المرأة من البقاء في المنزل ادى الى اهمالها واجبا اساسيا لا يحسن القيام به الا هي، وهو تربية البنين. والتربية فن لا يتقنه الا الامهات الفاضلات اللواتي يعين واجبهن تجاه عائلتهن وابنائهن. ولذلك قال نابليون "تبدأ تربية الولد عشرين سنة قبل ان يولد". اي يجب تربية والدته لكي تهتم بتربيته.

ويخطئ الوالدون خطأ جسيما في حق ابنائهم ومجتمعهم، عندما يكلون تربية ابنائهم الى المربيات اللواتي يجهلن فن التربية، وقد يعرضنهم لاتخاذ عادات سيئة في الصغر، فيتعذر عليهم التخلص منها في الكبر. ولا يجوز ان يتكلوا فقط على المدرسة التي قد تنوب منابهم في بعض الشؤون، وخصوصا في تلقين ابنائهم العلوم الدينية، ولكنها لا تستطيع ان تقوم مقامهم في السهر على ابنائهم في حركاتهم وسكناتهم وجميع حالاتهم. انهم وحدهم في مقدورهم ان يصقلوا اخلاق ابنائهم. وهذا واجب عليهم خطير.

يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: "ان تجمع المؤمنين بما ينهله من معين شعبه من غنى ثقافي، يجب ان يتأصل عميقا في الشعب، لذلك يجب ان تزدهر فيه العيل وقد تشعبت من روح الانجيل، تساعدها على ذلك مدارس لها قيمتها". ومهمة التربية مهمة شاقة وخصوصا في هذه الايام التي تبدلت فيها القيم. وهذا ما لحظه المجمع الفاتيكاني الثاني الذي وصف ما حصل في السنوات الاخيرة التي سبقت انعقاد المجمع، وبعده، فقال: "ان "تغيير الذهنية والبنى يقود غالبا الى الشك في القيم الموروثة، وخصوصا لدى الشبان، وهم غالبا ما لا يرضون بحالتهم، وعلاوة على ذلك، ان القلق يجعل منهم ثائرين، فيما هم، وقد ادركوا ما لهم من اهمية في الحياة الاجتماعية، يرغبون في تحمل مسؤولياتهم سريعا. "لهذا ليس من النادر ان يشعر الوالدان والمربون بصعوبات متزايدة، تعترضهم في القيام بمهمتهم". وقد نبهت بعض الدول الى هذا الامر، فخصصت راتبا للوالدة التي تقصر همها ووقتها على تربية ابنائها في بيتها.

واذا كانت التربية صعبة، فإن صعوبتها يجب ان تدفع الوالدين، لا الى اهمالها الذي يوقع الاولاد في مخاطر عديدة، بل الى تخصيص ما ينبغي لها من الوقت والجهد. وقد امتدح قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته في مناسبة صوم سنة ،2004 الذين يهتمون بتثقيف الاولاد الذين يشكون الألم والاهمال، فقال: "اني افكر باعجاب، مليء بعرفان الجميل، بالذين يهتمون بتربية اولاد يتقلبون في الصعوبة، فيعملون على التخفيف من آلامهم وآلام ذويهم، التي تسببت بها النزاعات والعنف، وفقدان الشراب والطعام، والتهجير، وما سوى ذلك من اشكال الظلم المنتشرة في العالم".

وعدد بعض المخاطر التي يتعرض لها الاولاد في ايامنا، فقال: "امام هذا السخاء، لا بد من ان نلاحظ انانية الذين يرفضون "قبول الاولاد". وهناك قاصرون انزل بهم عنف الكبار جروحا بالغة: انتهاك جنسي، انزلاق الى الدعارة، تورط في تجارة المخدرات وتعاطيها، اولاد مكرهون على العمل، او على الانخراط في القتال، اولاد ابرياء، طبعهم الى الابد التفكك العائلي، اولاد صغار دمرتهم تجارة خسيسة، وهي تجارة الاعضاء والكائنات البشرية. وما القول عن السيدا وما لها من عواقب هدامة في افريقيا؟ وهناك ملايين الناس اصابهم هذا الوباء، وبينهم عديدون اصيبوا به منذ الولادة. والبشرية لا يمكنها ان تغمض العيون عن هذه المأساة المفجعة".

وان ما يقلق البال، ان ظاهرة التحلل من القيام بالواجبات العائلية، تكاثرت فأصبح فسخ الزواجات سهلا على الكثيرين من عاقديها المسيحيين في بعض بلدان اوروبا، وباتوا لا يكلّفون نفوسهم المثول امام الكاهن في الكنيسة ليبارك هذا الزواج، وحتى المثول امام المسؤول المدني لتسجيله رسميا، فغدا اقترانهم، على ما جاء في سفر طوبيا، "اقتران الامم الذين لا يعرفون الله". وهناك بلدان اصبحت نسبة فسخ الزواجات فيها واحدا على اثنين. ولنا ان نتخيل ما سيكون مصير الاولاد الذين يرون والديهم يفككون روابط العائلة التي ولدوا في حضنها، فيعمد الاب الى الاقتران بامرأة غريبة عنهم، والام الى الاقتران برجل غريب عنهم، ويتركونهم وشأنهم، ولا تربية، ولا توجيه، ولا رعاية، فيروحون يكثفون عدد الاولاد المشردين الذين لا يلبثون ان يصبحوا في عداد المخرّبين في مجتمعهم.

وقد غابت عن اذهان الكثيرين من الوالدين المسيحيين تلك القيم التي كانت تتحلى بها العائلة المسيحية من قناعة في ما خص المأكل والمشرب والملبس والسكن، وذاك الخفر في الاحاديث، والاحترام في التعاطي بين افرادها، ومع الناس على وجه الاجمال. كان والد القديسة تريزيا الطفل يسوع يسهر على ما تقبل عليه بناته، من قراءات صحافية، وكان يحرص على الا يترك صحيفة على احد المقاعد، اذا كان فيها ما يجرح شعور بناته.

ونتساءل، ما عدد الوالدين الذين يضحون بحفلة ساهرة، او استقبال دنيوي، ليكونوا الى جانب ابنائهم وبناتهم، ويساعدوهم على صقل اذواقهم واخلاقهم، ويراقبوهم كي لا يجلسوا امام جهاز التلفزة او الانترنت اكثر مما حددوه لهم؟ وهم يعلمون ان هناك مشاهد كثيرة ليست من تلك التي تفيد علميا واخلاقيا، بل هي تعمل على افساد الاخلاق افسادا يصعب بعده اصلاحها. وهذا ما يجعل مهمة المربين اعسر مما كانت سابقا. ولكن من يحب ابناءه وبناته محبة والدية صادقة، ويريد ان يجعل منهم رجالا ونساء يفاخر بهم اصدقاءه، يعمل بوحي ما يقول ابن سيراخ: "من وفر عصاه فهو يبغض ابنه، والذي يحبه يبتكر الى تأديبه".

 

ثالثا: المدرسة

دور المدرسة في تربية البنين يأتي بعد دور العائلة. "والعائلة هي المدرسة الاولى للفضائل الاجتماعية التي لا غنى عنها لأي مجتمع" فالوالدون هم المسؤولون الاولون عن تربية ابنائهم. "لأنهم هم الذين اعطوهم الحياة". وقد شدد المجمع الفاتيكاني الثاني على دور المدرسة بقوله: "تتقلّد المدرسة اهمية خاصة بين كل وسائل التربية. وبقوة رسالتها، انها تنمي القوى العقلية نموا مطردا، وتمكن من اعطاء الحكم الصحيح، وتدخل الى التراث الموروث عن الاجيال الماضية، وتشجع معنى القيم، وتعد للحياة المهنية، فتخلق بين الطلاب، وقد اختلفت اخلاقهم وتباين اصلهم الاجتماعي، روحا من الصداقة تساعد على التفاهم المتبادل".

وللوالدين الحق في اختيار المدرسة التي يرغبون في تكليفها تربية ابنائهم. وهذا حق طبيعي لا ينتزع. وبهذا المعنى يقول تعليم الكنيسة الكاثوليكية: "الوالدون هم المسؤولون الاولون عن تربية ابنائهم، ويعود اليهم الحق في اختيار المدرسة التي يريدونها لهم، والتي توافق معتقداتهم الخاصة. وهذا حق اساسي. ويقع، قدر المستطاع، على عاتق الوالدين واجب اختيار المدارس التي تساعدهم خير مساعدة في مهمتهم كمربين مسيحيين. وعلى السلطات العامة واجب حماية حق الوالدين هذا، وتأمين الشروط الواقعية لممارسته".

وقد سبق لنا ان قلنا ان من واجب الدولة ان تحترم معتقدات المواطنين فتفسح لهم في المجال كي يرسلوا ابناءهم الى المدارس التي يختارونها لهم من طريق مساعدتهم على ممارسة هذا الحق الطبيعي في  ايجاد نظام تربوي تقوم الدولة بأعبائه المادية بمقدار يصير الاتفاق عليه، بدل الزام الطلاب ارتياد مدارسها الرسمية التي تكلفها أضعاف ما تكلف المدارس الخاصة، وتأتي النتيجة على عكس المرغوب فيه. وقد جاء في تقرير التفتيش المركزي ان هناك مدارس رسمية فيها سبعة تلاميذ وثلاثون معلما. ويتساءلون: أين الهدر؟ ولماذا يرزح اللبنانيون تحت أعباء الديون الباهظة؟

وهناك خطر آخر لا يتهدد المدرسة فحسب في لبنان، بل الثقافة اللبنانية بأسرها، وقد جرت محاولات عديدة، منذ ما فوق عشرين سنة، لضم لبنان الى المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة "ايسيسكو". وتعود هذه المحاولة الى الظهور بزخم وتصميم دونما نظر الى ان لبنان يمتاز بوجود ديانتين، وبالتالي ثقافتين وحضارتين فيه هما: المسيحية والاسلامية، لكنه، رغم ذلك، يحتضن شعبا واحدا هو الشعب اللبناني الذي يعيش أبناؤه معا في جو من الاحترام المتبادل، على ان يصموا الآذان عن سماع من يوسوس لهم بالفتنة. واذا طغت فئة على فئة، تخلخلت قواعد الكيان اللبناني. وقد نص ميثاق هذه المنظمة في بنده الخامس على "جعل الثقافة الاسلامية محور مناهج التعليم في جميع مراحله"، وفي بنده السادس على "دعم الثقافة الاسلامية، وحماية استقلال الفكر الاسلامي من عوامل الغزو الثقافي والتشويه، والمحافظة على معالم الحضارة الاسلامية". وينص ايضا على "اضفاء الصبغة الاسلامية على كل مظاهر الفن، والثقافة، والحضارة". امام هذا المنحى الخطير الذي ستتخذه التربية في لبنان، فيما لو انضم الى هذه النمظمة، يطرح السؤال: أين هي الثقافة المسيحية؟ وهل هذا يعني ان لبنان فقد طابعه الجوهري، واصبح بلدا اسلاميا؟ وهو يتميز بالتعايش الاسلامي المسيحي، ويعد نموذجا في هذا المجال؟ ولا عبرة في القول ان ذلك سيطبق على المدارس الرسمية، لأن المدارس الرسمية لا يمكنها ان تكون لجهة دون جهة، ولا ان تؤثر ديناً على دين، وثقافة على ثقافة. إنّا نأمل من المسؤولين، مسلمين ومسيحيين، ان ينتبهوا الى هذا الامر، ولا ينساقوا مع الذين يريدون القضاء على ما يميز بلدهم من خصائص، اذا زالت زال.

والعلم نور. وقد أصبحنا في زمن يعتبر العلم فيه باباً للعمل، وسبيلاً الى اقتطاع الانسان مكانة مرموقة له في مجتمعه. ويمتاز لبنان، حتى الامس القريب، بنسبة المتعلمين فيه، ومواكبتهم عصر التقنيات، والاستنباطات الحديثة. لذلك يقول الارشاد الرسولي: "رجاء جديد للبنان، بلسان قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، وهذا ما نريد التشديد عليه: "أطلب ايضا من المؤسسات التعليمية الكاثوليكية ان تعيد النظر، قدر المستطاع، في قضية الاقساط المدرسية في معاهدها، لئلا ترهق العائلات المعدمة. والعديد من المؤسسات يسهر على ذلك. في الواقع ان استقبال الكنيسة الكاثوليكية شبابا فقراء في مدارسها هو تقليد قديم. فاشجع الجماعات الكاثوليكية على ان تنمّي تضامنا حقيقيا ما بينها ومع الشباب الذين ترعاهم، كيلا يقطع أي شاب تحصيله لأسباب مادية او مالية محض".

واذا كانت الكنيسة الكاثوليكية تحرص على المدرسة، فلأن هذه المدرسة هي وسيلة لتنشئة الفتيان والفتيات على مبادئ الدين، والاخلاق، والوطنية الصحيحة، والقيم الانجيلية، والانسانية، علماً انها تحترم كل الاديان التي يدين بها تلامذتها.

وما يدعو الى العجب، ان الكثيرين من أرباب العائلات المسيحية يفاخرون بارسالهم أبناءهم الى مدارس لا دينية، ويقولون انهم يؤمنون لهم التعليم الديني بطريقة خاصة، او ليست هي بضرورية، كأن مادة الدين يستغنى عنها بسهولة. وفاتهم القول السائر: "ما هذّب الاخلاق الا الدين" وبولس الرسول يقول بدوره: "كيف يدعون من لم يؤمنوا به؟ او كيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟".

 

رابعا: المجتمع والوطن

جاء في المجمع الفاتيكاني الثاني "ان الانسان بطبيعته، في حاجة ماسة الى حياة اجتماعية، ومن ثم يجب ان يكون قاعدة لكل المنظمات وموضوعها وغايتها. فالحياة الاجتماعية ليست للانسان شيئا اضافيا: فبالتبادل والحوار مع اخوانه، وبالخدمات التي يؤديها أحدهم للآخر، ينمو الانسان وفقا لكل طاقاته ويستطيع ان يجيب عن دعوته".

والمجتمع اللبناني يمتاز بأنه مجتمع مركّب اذا صح التعبير. ومدنه وأحياؤها تعكس حقيقته. وهناك أحياء في العاصمة تحسب نفسك، وانت فيها، في احدى عواصم أوروبا، وهناك أحياء اخرى تحسب نفسك وانت فيها، في احدى مدن البلدان العربية. لهذا قيل ان للبنان وجهين احدهما يلتفت الى البحر، والآخر  يلتفت الى الصحراء. وقد كذَّب مقولة صراع الاديان والحضارات. وهذه فرادته.

لكن المجتمع اللبناني لا يزال يحمل طابع الحروب التي توالت على أرضه. ولا يزال ناسه يحملون في نفوسهم آثار ما كان على الارض اللبنانية من تهجير وتدمير واقتتال، وخصوصا ان المصالحة الوطنية لا تزال حلما جميلا لم يتجسد في واقع الحياة. وان ما يزيد في وطأة ما يعاني، ما حلَّ في أحزابه وجماعاته من تشرذم وانقسام، مردهما، على وجه الاجمال، الى عوامل خارجية، والى ضعف الانتماء الوطني، لدى بعض النفوس التي بهرها بريق الاغراءات، على أنواعها، والى عبء الديون الباهظة التي تثقل كاهله ولا يعرف كيف يتخلص منها. ولهذا يبدو كأنه مجتمع غير متعاف. وقد زادته ضعفا تلبية معظم شبانه داعي الهجرة لتناقص فرص العمل، ان لم يكن انتفاؤها. وشبابه هم أمل مستقبله. ولا يخفى ان للكبت السياسي دورا كبيرا في توليد شعور "بالهجرة النفسية" لدى الاجيال الطالعة، على ما جاء في "رجاء جديد للبنان".

وان ما يزيد بعض اللبنانيين شعورا بالغربة في وطنهم، هذا الفقر المدقع الذي يعانيه بعض الطبقات الشعبية، والذي تدل عليه مظاهر غير مألوفة تقود بعضهم الى صناديق النفايات بحثا عما يردون به عنهم غائلة الجوع. وقديما قيل: الفقر في الوطن غربة، والغنى  في الغربة وطن". ونخشى ان يصح فينا هذا القول، بعد هجرة الشبان الكثيفة التي باتت تفرغ المجتمع اللبناني من خيرة عناصره. يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: "رغم الفوارق الاقتصادية بين الناس، ان ما لهم من كرامة متساوية تقضي بأن يبلغوا اوضاع حياة عادلة او أكثر انسانية. في الواقع ان الفوارق الاقتصادية والاجتماعية المبالغ فيها بين اعضاء عائلة انسانية واحدة او شعوبها، تجلت بالخزي والعار، وتقف حاجزا دون العدالة الاجتماعية، والانصاف، والكرامة الانسانية، والسلام والاجتماعي والعالمي".

يقول تعليم الكنيسة الكاثوليكية: "يجب اعتبار الحياة في المجتمع، قبل كل، كواقع روحي. وهي تقوم على تبادل المعارف في ضوء الحقيقة، وعلى ممارسة الحقوق، وتأدية الواجبات، والمنافسة في البحث عن الخير الأدبي، والمشاركة في التمتع بالجمال في كل تعابيره المشروعة. والاستعداد الدائم لاشراك الغير في أحسن ما عندنا، والتوق المشترك الى الاثراء الروحي الدائم. هذه هي القيم التي يجب ان تحيي النشاط الفكري وتوجهه، هو والحياة الاقتصادية، والتنظيم الاجتماعي، والحركات والانظمة، والتشريع وكل التعابير عن الحياة الاجتماعية في تطورها المستمر".

 

احترام المؤسسات

ولا تتعزز القيم وتزدهر الا لدى شعب سليم اخلاقيا يحترم المبادئ الدينية، والمؤسسات الاجتماعية، ويعود اليها ليحتكم اليها لدى نشوب الخلاف، وتباين وجهات النظر. ولكن اذا مني شعب بانتهاك الحرمات، وانساق وراء الغرائز والاهواء، فكيف ترجى له قيامة؟ وقد نشر بعض الصحف تحقيقا منذ اسابيع يدل على ان نسبة تقارب النصف من الفتيان والفتيات في لبنان الذين يحاولون التفلت من القيود التقليدية التي تشد الرجل الى المرأة برباط مقدس. وهذا ليس بدليل عافية.

اما القيم التي يجب ان يستهدي بها المواطنون، ليتمكنوا من بناء وطن سليم مزدهر، فقد اشار اليها المجمع الفاتيكاني الثاني بقوله: "على المسيحيين جميعا" ان يعوا الدور الخاص والمميز الذي يعود اليهم في الجماعة السياسية. فمن واجبهم ان يعطوا المثل في تنمية معنى المسؤوليات في نفوسهم، والاندفاع في سبيل الخير العام، فيبرهنون بأعمالهم هذه، كيف يمكن التوفيق بين الحرية والسلطة، وبين المبادرات الشخصية والتضامن، ومقتضيات الجسم الاجتماعي كله، وبين منافع الوحدة والتنوعات الخصبة.

وليعترفوا بشرعية وجهات النظر المتناقضة التي تتعلق بتنظيم ألاشياء الارضية. وليحترموا المواطنين الذين يتحدون ايضا للدفاع عن رأيهم باستقامة". ويشدد المجمع على التربية المدنية والسياسية بقوله: "على الذين لهم المؤهلات ان يتهيّأوا لممارسة فنّ السياسة الشديد الصعوبة والشريف جدا. فلينكبوا عليه بغيرة دون ان ينشغلوا بمصلحتهم الذاتية او بالفوائد المادية. وليحاربوا الظلم والطغيان والتعصّب والاستبداد ايا يكن مصدره، بالفطنة والنزاهة، سواء أأتى من فرد ام حزب. وليضحوا في سبيل الخير العام، لا بالصدق والاستقامة فقط، بل بالحب والاقدام اللذين تقتضيهما الحياة السياسية".

واذا كان مطلوبا من المواطنين ان يتقيدوا بالقوانين التي تسنّها السلطة القائمة، فعلى هذه ايضا ان تعمل في سبيل مصلحة المواطنين لتضمن لهم حياة هادئة هانئة. وهذا ما ذكر به المجمع المشار اليه: "ان السلطة لا تأخذ شرعيتها الادبية من ذاتها. وليس لها ان تتصرف تصرفا ظالما، بل عليها ان تسعى في سبيل الخير العام "كقوّة ادبية قائمة على الحرية وعلى معنى المسؤولية". ولا تمارس السلطة ممارسة شرعية الا اذا سعت وراء خير الجماعة العام، واستعملت لتحقيقه بالوسائل الجائزة ادبيا. واذا حدث للمسؤولين ان سنّوا قوانين ظالمة، او  اتخذوا تدابير تنافي النظام الادبي، فلا تلزم هذه التدابير ضميريا. وفي هذه الحالة تبطل السلطة ان تكون سلطة وتغرق في الاستبداد".

ولا مجتمع ولا وطن ان لم يكن هناك تعاون صريح يتّسم بالشفافية بين المواطنين والحكام. وكما ان من حق الحكام على المواطنين الطاعة والتقّيد بالانظمة والقوانين، من حقّ المواطنين على الحكام ان يعملوا في سبيل الخير العام، ويسعوا الى نشر العدالة، والانماء المتوازن في كل مناطق البلد، وتوفير فرص العمل للاجيال الطالعة، ومجانبة ارهاقهم بالضرائب التي لا مبرّر لها، والديون الباهظة التي لا يعرفون كيف يفونها. ولا يصحّ الحكم في النظام الديموقراطي الا اذا كان للشعب فيه مجال لمحاسبة حكامه فيخذل من أساء وأفسد، وينصر من أحسن، واجاد; وذلك عبر قانون انتخاب واضح، وعادل، لا يقضي على ما بين الشعب وبين وحكامه من صلة، فيفرضون عليه فرضا، فيكون غريبا عنهم، ويكونون غرباء عنه.

ولكن ذلك لن يتوفر ما دامت ارادة الشعب معطلة، ومكبّلة بالقيود، وعاجزة عن اتخاذ أي قرار حرّ، لان فوقها ارادة اخرى تملي عليها ما تريد، ولو كان في ما تملي ما يلحق الضرر بالاثنتين معا.

 

خاتمة

أيها الأخوة والأبناء الأعزاء،

زمن الصوم هو زمن العودة الى الله، والذات، والقريب. ومهما ابتعد الانسان عن ربه، بالمعاصي، فلا بدّ من يوم يعود فيه اليه. ومهما شغلته عنه شؤون الدنيا، فهو سيلتقيه ليؤدي حسابا عما جنته يداه. ومهما تجاهل وجوده وشرائعه، فلا مفرّ من الوقوع يوما بين يديه، وهو يوم لا يعرفه الاه، و هو مخيف، على ما جاء في الرسالة الى العبرانيين: "ان الوقوع في يد الله الحيّ، لمخيف جدا".

وزمن الصوم هو مناسبة للعودة الى الذات لمعرفة ما اذا كان صاحبها، وهو كلّ منا، احسن ام أساء، فعل الخير أم الشرّ، قمع غرائزه واهواءه، أم أطلق لها العنان، فاستباح ما لا يستباح، واستحل ما لا يحل الاستيلاء عليه من اموال عامة او خاصة. فهذا الزمن هو زمن التعويض بالجود على الفقراء المدقعين الذين الجأهم العوز الى الاستعطاء، لا بل الى البحث عن قوتهم في صناديق النفايات، وهو مشهد لم يكن مألوفا في لبنان.

وزمن الصوم هو زمن العودة الى القريب بالصفح والغفران. يقول آشعيا النبي: "انكم للخصومة والمشاجرة تصومون، ولتضربوا بلكمة النفاق. أليس هذا الصوم الذي آثرته حلّ قيود النفاق، وفكّ ربط النير، واطلاق المضغوطين احرارا، وكسر كلّ نير؟ أليس ان تكسر للجائع خبزك، وان تدخل البائسين المطرودين بيتك، واذا رأيت العريان أن تكسوه، والا تتوارى عن لحمك؟ حينئذ ينبلج كالصبح نورك، وتزهر عافيتك سريعا، ويسير برّك امامك، ومجد الرب يجمع شملك". وقبل الصوم والاحسان والمبرّات، الاتجاه الى الله بالتوبة الصادقة والعمل بارادته، يقينا منا انه عناية، عينه ساهرة على ابنائه، وكل الناس ابناؤه، وبخاصة من يعملون بمشيئته على ما قال السيد المسيح: "ليس من يقول يا ربّ، يا ربّ، يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل بارادة ابي الذي في السماوات".

وعلى أمل أن يكون زمن هذا الصوم زمنا مباركا يزخر بفعل الخير، نسأل الله، بشفاعة السيدة العذراء، سيّدة لبنان، ومار مارون، ان يتولاكم بحفظه، ويسددّ خطاكم الى ما فيه رضاه، ويشملكم ببركاته".

 

ملاحظة : تتواجد الرسالة على الموقعين:

http://www.annaharonline.com/htd/SEYA040221-5.HTM

http://www.bkerke.org.lb/messagedeareme2004.pdf