الأسطورة المهاجرة من أميركا إلى لبنان وفلسطين وبقية العالم

الهالوين والبربارة والقرقيعان: حكاية واحدة

صقر ابو فخر

(جريدة السفير، الاثنين 29/10/2007)

 

غداً، بعد آخر شعاع ضوء من النهار، سينزل الى شوارع المدن الأميركية وبعض المدن الأوروبية ملايين الفتية وهم يرتدون الملابس العجيبة وأقنعة التخفي، ثم يجولون على جيرانهم، ويدقون أبواب منازلهم طالبين منهم الحلوى والهدايا. وإذا لم يتجاوب بعض أصحاب هذه المنازل، لأسباب تتصل بمعتقداتهم أو بأفكارهم، فإن الفتية يبادرون الى ترديد كلام هجائي مقذع بحقهم. وفي هذه الليلة التي تدعى «ليلة الهالوين»، تنفلت مشاعر الفتية والأولاد، فيعبّرون عن ذلك بالصخب والعنف بلا حدود أو قيود. وقد تمكنت الرأسمالية الأميركية من تحويل هذه الليلة الى موسم باذخ لشراء الأقنعة والملابس الغريبة والهدايا بطريقة هاذية، تماماً مثلما حوّلت عيد الحب (Valentineصs day) إلى مجرد مناسبة تبذيرية للبيع والشراء.


أصل الحكاية

الهالوين (Halloween) طقس وثني أيرلندي قديم بدأ بالظهور حينما كان سكان أيرلندا يعتقدون أن أرواح جميع من ماتوا ستــطوف في هذه اللــيلة العالم كله، وأن الأرواح الشريرة والشياطين ومصاصــي الدماء ستخرج من قبورها. لذلك، كان الناس يضــعون الثــوم أمام أبواب منازلهم لاعتقادهم أن الأرواح الشريرة لا تحب الثوم، وكانوا يتنكرون بأزياء مخيفة لطــرد الأرواح الشريرة، مثل القطط السود والبوم والوطاويط والأكــفان. والراجح أن الهالوين هو عيد المـوتى. وفي هذا العــيد يقــدم الناس المأكولات قرابين لإله المــوت دفعاً لشرّه. إنه وليمة أو «عشــاء الأرواح» أو «عشاء الموتــى» (هــالوتايد) الذي يشبه، الى حد بعيد، «عشاء الميتين» في السودان. وثمة من يقول إن أصل الهــالوين اسكتلندي (سانهين)، أي عيد الشمس الذي تُقدم فيه القــرابين، لـيس لإله الموت بل لإلهة الشمس. وقد أدمجت المسيحية هذا العيد الوثني في جملة أعيادها فصــار عيدَ جمــيع القديسين (All Hallos). وكان البروتستانت يحتفلون بهذا اليوم، الأخير من تشرين الأول، لأن مارتن لوثر علّق في 30/10/1517 على باب كنيسة كاستيل في مقاطعة ساكسوني بشمالي ألمانيا اعتراضاته الخمسة والتسعين المشهورة.


الأسطورة المهاجرة

المعروف أن الأسطورة حكاية قديمة متوارَثة تدور وقائعها على الآلهة والحوادث الخارقة. وهي تختلف عن الملحمة التي تسجل الأفعال البطولية للبشر بالدرجة الأولى. والأسطورة، في منشئها، محاولة لفهم الكون بظواهره الكثيرة المحيّرة، ومحاولة لتفسيره في الوقت ذاته. غير أن هذه الحكاية طالما هاجرت من موطنها الأول لتنتشر في بقاع متباعدة. وفي تلك البقاع البعيدة كان لا بد من أن تكتسب هيئة جديدة بالتراكم الحكائي، فتضاف إليها حوادث لم تكن موجودة في الأصل، وتقع عليها تغييرات وتبديلات بحسب البيئة والمكان اللذين حطت الحكاية فيهما. وتتيح لنا مقارنة الأساطير والحكايات الشعبية مجالاً غنياً لفهم تاريخ التمدن لأي شعب من الشعوب المتحضرة.


إن قصة سندريلا، على سبيل المثال، هي نفسها قصة «ست الحسن» الشائعة جداً في بلاد الشام والعراق. وهي قصة نموذجية في الحضارات المائية ـ الزراعية. وسندريلا هي ملكة الربيع أو إلهة الخصب التي أُهملت نتيجة لقسوة الشتاء، فعاشت في وحدتها تعاني مرارة الإهمال والطرد، حتى جاءتها إحدى آلهات الطبيعة (الجنية في الحكاية) فأمدتها بما يعيد إليها مظهرها الجميل كي تذهب الى زفاف الأمير، أي الى حفل عودة الربيع.


هل هاجرت قصة الهالوين من العالم البروتستانتي الى الشرق الأدنى القديم، أم أن هذا الشرق كان ميداناً لنشوء هذه الحكاية؟ إن الدافع الى عرض مثل هذا التساؤل هو التشابه الكبير بين الهالوين وبعض الأعياد القديمة المنتشرة في المشرق العربي. ولعل فكرة «النموذج الأسطوري المتنقل» تستطيع أن تقدم تفسيراً أولياً لهذا التشابه. وهذه الفكرة تقول إن في الحضارات المتشابهة (الرعوية، الزراعية، البحرية) يمكن أن تنشأ حكايات ذات نسق واحد حتى من غير أن تتصل هذه الحضارات ببعضها بشرياً، لأن تجربة الإنسان مع الطبيعة تخلق لديه أفكاراً متماثلة مع الإنسان الآخر في الحضارات المثيلة، مثل قصة الابن المنتقم لأبيه في قصة الزير سالم وأسطورة أوريست وتراجيديا هاملت، فهي نفسها في المصادر الثلاثة الى حد كبير.


هاشلة بربارة

لدى اليهود عيد «البوريم»، أي عيد المساخر، وفيه يتنكّر المحتفلون بأزياء هزلية، ويُسرفون في الشراب والضحك، وتقع فيه، جراء ذلك، حوادث العنف. وهذا العيد لدى اليهود يقع في الرابع عشر من نيسان، وهو اليوم الذي أنقذت فيه أستير (عشتار) يهود فارس من الموت (كأنها طردت إله الموت عن شعبها). وفي الأردن تنتشر عادة «عشاء الموتى» فتذبح العائلات ذبائح وتترحم على موتاها. وفي السودان يقام «عشاء الميتين» فيطوف الأولاد على بيوت الجيران وهم يرتدون ملابس التنكر ويهددونهم بالكوارث والمصائب إذا لم يطعموهم. وفي العراق، يحمل الأطفال، إبان الاحتفال بمولد الإمام الحسين في النصف من رمضان، الأكياس ويدورون على البيوت ويطرقون الأبواب، وحينما يُفتح لهم ينشدون: «اعطونا الله يعطيكم، بيت مكة يوديكم، ويرجعكم لأهاليكم... لولا ولدكم ما جينا، يفك الكيس ويعطينا». ويتحول الغناء الى إزعاج، ولا يكف الأولاد عن السؤال حتى يحصلوا على الحلويات.


وفي لبنان وسوريا يُعتبر عيد القديسة بربارة أقرب النماذج الى الهالوين، وهو يقع في اليوم الثالث من كانون الأول، ويتزامن مع عيد القديسة فيفيان. وبربارة شفيعة المساجين، وقد عاشت في تركيا في القرن الثالث الميلادي. وترمز قصتها، جزئياً، إلى الأرواح التي تبقى مسجونة طوال سنة كاملة لتخرج كلها في يوم محدد. وفي هذا العيد يرتدي الأولاد الأقنعة، أو يرسمون وجوههم بالأصباغ، ثم ينتشرون في الشوارع مرددين أغنية «هاشلة بربارة مع بنات الحارة». وحينما يقرعون باب أحد المنازل يبدأون بالغناء مرددين: «يا معلمتي حلّي الكيس الله يبعتلك عريس»، أو «أركيلة فوق أركيلة صاحبة البيت زنغيلة» (أي غنية). وإذا لم تستجب صاحبة البيت لهم فيبدأ الإزعاج والهجاء مثل: «نارة فوق نارة صاحبة البيت ختيارة». أما الكبار فيلبسون الأردية مقلوبة، أو ترتدي الأم ثياب زوجها، والزوج ثياب امرأته أو لباس أبيه (الشروال مثلاً)، ويسلقون القمح ويصنعون القطايف. والقمح المسلوق، كما هو معلوم، هو باكورة الحصاد. والباكورة تقدَّم قرباناً للإله في الديانات القديمة.


جزيرة العرب

ذكر أبو الفرج الأصفهاني في «الأغاني» أن الفقراء كانوا يطوفون في منتصف كل شهر وهم ينــشدون: «يــا صاحب البيت أجِر جوعان. يا ربــنا أعــطِه بــيتاً في عالي الجنان». أما الــيوم فيحتــفل أولاد الخــليج العربي بعــيد «القرقيعان» في النــصف من رمضان، أو في النصف من شعبان ويسمونــها «ليلة النــاصفة». وربما احتفلت بعض المناطق بهــذه المناسبة في ليلة اكتمال البدر (وهي ليلة ذات إيحاء جنسي). وفي تلك الليلة يحمل الأولاد أكياساً في أعنــاقهم ويطــوفون الشوارع بعد الإفطار، ويقرعــون الطــاسات أو الطــبول منشــدين أهزوجات تهــديدية لصــاحب الدار في ما لو لم يقدم لهم الحلوى، أو يمتدحونــه إذا تجـاوب معهم وقام بتقــديم الهدايــا لهم. ولــعل تســمية هذه الليلة بـ«القرقعــون» أو «القــرقيعان» جـاءت من قرع الأبواب، أو من أصوات الحجارة التي يضرب الأطفال بعضها ببعض في أثناء هذا الاحـتفال الصاخب. ففي الإمارات العربية المتحدة يردد الأطــفال في «القرقعون»: «اعطونا الله يعطيكم بيت مكة يوديــكم. اعــطونا من حق الله يسلم لكم عبد الله» (أو اســم الابن الأصـغر مثلاً). وإذا لم يتجاوب صاحب البيت يــنثني الأطــفال إلى القول: «الله لا يسلم لكم عبد الله». وفي الكويت يرددون: «قرقيعان وقرقيعان بيت قصير ورميضان. عادت عليكم صيام كل سنة وكل عام وأنتم بخير وعساكم من عوّاده».


كان لهــذا العــالم الحــكائي المدهــش المــليء بالرموز الأسطورية والأســرار العـبادية، شأن كبير في تطور الديانات. ولا ريب في أن استــمرار بقاء هذه الاحتفالات القديمة حـتى اليوم ما يشــير الى قوة حضورها في التاريخ البــشري، وفي الوجدان الجمعي معاً.

 

المرجع الالكتروني: http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionId=777&articleId=2941&ChannelId=17412&Author=صقر%20ابو%20فخر