"الـمـسـيـح فـي الاسـلام"
لـمـيـشـال الـحـايـك
الـنــور فـي حـــواره الأقـصــى
مـارلـيـن كـنـعـان
تعيد "دار النهار للنشر" اصدار كتاب "المسيح في
الاسلام" للأب ميشال الحايك في طبعة جديدة. وقد سبق ان نشر في طبعتين صادرتين لدى "دار
المشرق" في الستينات من القرن المنصرم. الكتاب عبارة عن تجميع موسوعي لكل ما قاله
الاسلام في "عيسى بن مريم" بدءاً من القرآن الكريم والاحاديث الشريفة مرورا بالسيرة
النبوية والكتابات الاسلامية المختلفة من تفسيرية وكلامية الى تاريخية وصوفية.
والاكيد ان يسوع المسيح يحتل مكانة خاصة في الايمان الاسلامي، فعديدة هي الصفحات
التي تروي سيرته وتنقل اقواله وافعاله من منظور خاص. ولعل الاطلاع عليها يمهد لقيام
دراسات علمية رصينة تأخذ في الاعتبار المناهج التاريخية واللغوية - التحليلية من
بنيوية او تأويلية او غيرها من طرائف التفسير. والكتاب قائم على فكرة ضرورة معرفة
الآخر، وينتمي الى نهج الحوار.
في تمهيده للفصول التسعة التي يؤلف مجموعها متن
الكتاب، يشرح الحايك الاسباب التي دفعته الى تجميع نصوصه، فيقول ان الزمن الذي يجب
على المسيحيين والمسلمين ان يلتقوا فيه قد حان، وانه لا بد من ردم الهوة التي تفصل
بينهما بسبب من "الجهل والعنف". لذا نراه يستعرض بايجاز مسرى العلاقات الاسلامية -
المسيحية منذ ايام النبي في مكة والمدينة ولجوء المسلمين الى بلاد الحبشة المسيحية
بعيد الفتنة الاولى التي اصابت طلائع المؤمنين. ويشير كذلك الى صلاة محمد على روح
النجاشي حين قضى هذا الاخير، واعلان النبي الحداد الاسلامي الاول على مسيحي.
وفي رصده علامات العلاقة بين محمد والمسيحيين يشدد الحايك بداية على طابع "المودة
والولاء" الذي ردد صداه القرآن حين قال "ولنجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين
قالوا انا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون"، ليشير بعد ذلك
الى "الفتور" و"السطحية" بسبب من تبعثر المسيحيين القليلي العدد آنذاك في شبه
الجزيرة العربية وتفرقهم شيعا وانتمائهم الى نزعات عرقية مختلفة. كما يتوقف امام
ظاهرة جهل نصارى العرب عموما بدينهم، واحتفاظـهم من عقيدتهم بقصص اوردتها الاناجيل
القانونية والمنحولة، وتكريم بعضهم مريم بإسراف عبر التقريب لها "كأنها الهة من دون
اله"، قائلا ان نكران الوهية المسيح في القرآن لربما يكون مرده الى "غضبه على اولئك
المسيحيين الذين تتبرأ منهم الحقيقة المسيحية، والذين كرموا مريم نظير "الصاحبة"
قرب الله، في هياكل الاوثان".
ثم يدافع الحايك عن اطروحته القائلة بأن النبي العربي لم يتسنّ له التعرف على
المسيحية الحقيقية، لتداعيها في جزيرة العرب واغترابها عن المسيح وتحولها بدعا
متفرقة. وإن اتيح للرسول امكان التقارب، باءت النتيجة بالفشل. فهو بُعيد الهجرة
بقليل اصطدم اولا باليهود فأخضعهم، ثم باليعاقبة الذين كانوا منتشرين في شمال جزيرة
العرب، فكانت غزوة تبوك ومؤتة اللتان اسفرتا عن توتر بين المسلمين والنصارى، عبّر
عنه القرآن في آيات قست على المسيحيين.
غير ان هذه المشاحنات الظرفية لم تكن دوما سيدة الموقف، بل كان هناك الكثير من
الايجابية والصفاء. ففي عام 631 اوسع محمد مكانا لنصارى نجران في اول مسجد اسلامي
في المدينة المنورة لاداء صلاة الفصح.
ويقول الحايك ان المسيحيين بعد موت محمد وبدء انتشار الدعوة الاسلامية في شمال شبه
الجزيرة العربية حيث القبائل السريانية المسيحية الخاضعة لسلطان بيزنطيا، آزروا
المسلمين اول الامر في غزواتهم واتسمت العلاقات الحياتية بينهم بالسلام حتى مطلع
الحروب الصليبية، بالرغم من رفض بعضهم وضع "اهل الذمة" ومساهمة بعضهم الآخر بمدّ
جسور التلاقي زمن الامتداد العربي الاول كيوحنا الدمشقي. لكن حروب الفرنجة افسدت
الروابط بين الطرفين وتركت عبر التاريخ بعضا من التباعد، عمّقه سقوط القسطنطينية
عام 1453 وتوسع الاسلام في هذه البقعة من العالم على حساب المسيحية.
وبعد استعراض سريع لتاريخ العلاقة بين الدينين اللذين التقيا في بعض الاحيان سياسيا
وجغرافيا، وتفاعلا على الصعيد الثقافي، يدعو الحايك الى الغوص في الحوار العقائدي
المحض بينهما بغية التعارف الحق في محاولة "بيان وتبيين"، لا من منظار الدفاعية
والجدل البحت، بل من اجل ايجاد حل مقتبس من الاصول الدينية للمشكلات التي تعانيها
مجتمعاتنا العربية المتجذرة في الدين.
ومن الواضح انه منذ ظهور الاسلام توالت الكتابات المسيحية التي تناولت الدين الجديد.
بعضها دافع عنه دفاعا مغرضا، اما بدافع المحاباة او الالحاد او بدافع الايمان بأن
الديانات جميعها ليست سوى نتيجة للنشوء الاجتماعي وهي كلها من صنع البشر، وبعضها
الآخر وصفه بـ"البدعة" ورسم للنبي "صورة مجحفة" تناقلتها الاجيال عبر العصور.
اما الجانب الاسلامي فلم يقصّر من جهته في نقل صورة سيئة عن النصارى، اذ اتهمهم
بتحريف دينهم. وهذا ما ورد على سبيل المثال لا الحصر في كتابات الغزالي والجاحظ
وابن حزم وابن تيمية وغيرهم من الكتّاب المسلمين.
وازاء العصبية والانفعال، يذكر الحايك ان قلة من المؤلفين نظرت الى هذه المسألة
الحساسة بروية العلم ونقاء القلب. واذ يلتزم هو نفسه هذا النهج العلمي الرصين كسبيل
الى المعرفة، يبدأ في هذا الكتاب بعرض النصوص الاسلامية التي تناولت المسيح والفكر
الذي ارتبط به قبل التطرق الى الدراسات والاستنتاجات العلمية التي خلص اليها والتي
لا يوردها ههنا، بل يشير اليها لماماً في المقدمات والحواشي التي تحوي بعضا من
تعليقاته وتوضيحاته للمسائل التي تثيرها تلك النصوص.
ولا ريب ان النصوص التي جمعها الحايك والتي تدلنا على كيفية سلوك المسيح درب
الحضارة الاسلامية، تختلف قيمتها باختلاف كتّابها ومدى تأثيرهم في المدى الاسلامي،
لذا نراه يفرد الفصل الاول من كتابه للحديث عن المسيح في القرآن، وهو في الاسلام
كلام الله المنزل، فيورد الآيات المكية المتعاطفة مع المسيحيين، ثم الآيات المدينية،
التي ترفض الوهية المسيح وتتنكر للنصارى، مشيرا الى الاحداث التاريخية التي كانت
وراء هذا التحول.
وتتوالى الآيات المقتطفة من سور مريم والانبياء والانعام وآل عمران الى الزخرف
والبقرة والحديد وغيرها من السور القرآنية التي يرتبها الحايك بحسب تسلسل موضوعاتها.
اما الفصول التالية والتي تتناول قصة "زكريا ويحيى المعمدان"، و"مريم البتول"
و"معجزات عيسى في طفولته" و"الحواريون"، و"مواعظ المسيح" و"امام السائحين" و"رفع
المسيح" و"نزوله في آخر الزمان"، فتحوي في طياتها ما ورد عن هذه الموضوعات في
الاحاديث النبوية الشريفة التي اجمع المسلمون على صحتها كصحيح مسلم وصحيح بخاري
والترمذي وابن ماجه وابي داود الطيالسي، فضلا عن كتابات العديد من المؤرخين
والمفسرين والصوفيين كالغزالي في "احياء علوم الدين" والحلاّج في مجموع نصوصه
والطبري في "تاريخ الرسل والملوك"، وابن خلدون في مقدمته الشهيرة وابن الاثير في
كتابه "الكامل في التاريخ"، وابن العربي في "فصوص الحكم" وابو حيان التوحيدي
والسهروردي والثعلبي وغيرهم من اعلام المسلمين...
ولا شك ان قيمة هذه النصوص تتفاوت بتفاوت معرفة كتّابها بالموضوعات التي يطرحونها
والتي يكتبون فيها. لكنها في مجملها تقدم صورة بهية عن "المسيح روح الله وكلمته"
ومريم "التي سودها الله على جميع امائه وجعلها سيدة نساءالعالمين"، وإن اختلفت في
نظرتها بعض الشيء عن النظرة المسيحية.
ولا يفوت الحايك في تجميعه للنصوص التي اشرنا اليها، ذكر مصادرها ومقابلتها بما
يوافقها او يعارضها في المسيحية إن في الاناجيل القانونية او في الاناجيل المنحولة،
بعد التعليق عليها في حواش، مستعيناً بمعطيات التاريخ واللغات اليونانية واللاتينية
والعبرية والعربية والفارسية. فيتبدى في تعليقاته متمكنا من المسألة برمتها، متوغلاً
في التراثين المسيحي والاسلامي.
والحايك في كتابه هذا يتوجه على السواء الى المسيحيين والمسلمين، غرضه اولا تعريف
المسيحيين بما يقوله الاسلام في مسيحهم وانجيلهم وقديسيهم، وتذكير المسلمين ثانيا
بما ورد في تراثهم عن المسيح والمسيحيين.
ولعل بعض نصوص فخر الدين الرازي واليعقوبي واخوان الصفا تستوقف الباحث لولوجها في
صميم المسيحية عبر اعطائها مقاما رفيعا لصليب المسيح الذي يعرض عنه العديد من
الكتّاب المسلمين.
ويورد الحايك في السياق عينه، مقاطع من رواية محمد كامل حسين، "قرية ظالمة"، التي
نشرها في القاهرة عام 1955 والتي بدأها بيوم الجمعة، وهو عنده يوم قتل فيه الناس
ضمير الانسانية، ونورها الارحب يسوع المسيح.
وبالتوازي مع هذه النصوص جميعها، يشير الحايك في تمهيد كتابه الى حقيقة توصل اليها
بعد اطلاعه على كتابات المؤلفين المسلمين، إن في اطار علم الكلام او التفسير، او في
اطار التاريخ وهي "ان الاسلام لم يطرح يوما واحدا على نفسه مشكلة العقيدة المسيحية
الصرف. لقد جازها قبل ان تعرض لها، وحلها قبل ان تشكل عليه. فبقيت آية القرآن على
شرطها فلم يعط عنها جوابا علميا: "لو كان له ولد فأنا اول العابدين، اذ ان هنالك
توالدا عقليا هو غير التناسل، فالكلمة هي وليدة الفكر الازلي كذا المسيح ابن الله".
على هذه الخلفية يقوم كتاب "المسيح في الاسلام"، وهو بعيد عن التملق والمصلحة
والمجاملة والميوعة العقائدية. فيه استطاع ميشال الحايك ان يجمع بين تجذره العميق
في المسيحية وتفهمه للاسلام في تقبل وانفتاح علمي رصين.
شيء من هذه الدراسات يعوزنا في الحضارة العربية، لأن الحلول السياسية والثقافية،
على ما يقول الحايك، لا تكفي وحدها لانشاء مجتمعات متماسكة إن نحن اغفلنا النظر في
امور الدين.
والحوار الحقيقي لا يكون بالملاطفة والعموميات بل بالمعرفة العلمية الدقيقة المرسخة
قواعدها على اساس البحث ودراسة النصوص.
تلك هي الزاوية التي يقارب من خلالها ميشال الحايك موضوعه الشائك. وقد نجح الى حد
بعيد في تذليل العثرة الاولى التي تعترض سبيل التلاقي الحق.
"المسيح في الاسلام" موسوعة للكتابات الاسلامية في المسيح والمسيحية. ليس في الكتاب
احكام قيمية، ولا اسقاطات مجحفة، بل دعوة صادقة لاطلاق حوار عقلي من الجهة المسيحية،
مبني على مناقشة للنصوص، يستدعي ما يماثله في الاسلام.
النهار- الملحق
الثقافي-الأحد 30 ايار 2004
http://www.annaharonline.com/CULTS/PAGE