"النهار"

الاحد 10 تشرين الأول 2004

كـنيسـة العرب: إرث الـمـاضي وتحـديـات الحاضـر

البروفسور جوزف ابو نهرا

 

المسيحيون العرب والاسلام: التباس في المفاهيم

مما لا شك فيه ان المسيحية في الشرق تعيش واقعا مركبا تتشابك عناصره بين ارث الماضي وتعقيدات الحاضر. ففي ماضينا عبء التاريخ بتلبداته واشراقاته وبما يحمله الينا من تباين وابهام في المفاهيم. فلو أردنا الكلام عن كنيسة العرب من حيث الحدود والتشكل، لوجب علينا توضيح مفهوم الكنيسة في هذا السياق، ومفهوم المسيحي في الضمير الاسلامي، ومفهوم العروبة في الضمير المسيحي.

 

1 – مفهوم الكنيسة

في التمهيد لكتابه “كنيسة العرب” الذي أصدره الطيب الذكر الأب جان كوربون بالفرنسية سنة 1977 وترجمه غبطة البطريرك اغناطيوس هزيم الى العربية تحت اسم “كنيسة المشرق العربي” سنة 1979، يعود الكاتب الى العهد الجديد لشرح مفهوم الكنيسة. ويقول الاب كوربون بأنه “كلما كان الحديث عن الكنيسة دونما وصف آخر كان المقصود بالكلمة سر الشركة الجديدة بين الناس (المؤمنين)، تلك التي تحدث في الله والتي يعلنها المسيح بروحه القدوس. وكلما كان الحديث عن كنيسة ما بالتخصيص، كان القمصود اما الجماعة التي تلتئم عند أحد المؤمنين، واما جماعة المسيحيين التي تعيش في مكان ما معين مثل الكنيسة التي في كورنتوس، او في انطاكية، او في اورشليم”. من هذا المنطلق، في كلامنا عن كنيسة العرب، لا نقصد الاشارة الى “الكنيسة العربية” بالمعنى الحصري، او الكنيسة الانطاكية أو الارثوذكسية أو الكاثوليكية او القبطية بالمعنى الضيق المتداول. المقصود هو الكنيسة الحية في هذه المنطقة، تلك التي تتألف من مجمل المسيحيين، والتي تشمل هويتها الكنائس الفردية ومنها تتألف.

 

2 – مفهوم العروبة

المقصود بالعروبة في عبارة “كنيسة العرب” هو رابط الثقافة الذي يتخطى الانتماء الديني او العرقي ليطال اللغة والتاريخ والمصير المشترك. في الفكر المسيحي وعلى أرض الواقع، لا يمكن لكلمة “عربي” ان تكون مرادفة لكلمة “مسلم” طالما يوجد عرب غير مسلمين.

من الانصاف ان نذكر ان المسيحيين العرب، واللبنانيين بخاصة، كانوا أول من دعا الى قومية عربية ديموقراطية علمانية تتخطى مفهوم “الأمة” الاسلامية، وترتكز على مفاهيم فلسلفية من معطيات العقل لا من منزلات الغيب. من هذا المنطلق شق المسيحيون درب القومية العربية تحت شعار اللغة لا الدين فأنشأوا الجمعيات العلمية والمدارس والصحف، وبعثوا اللغة من انحطاطها لبلورة وجدان قومي يجمع الناطقين بلغة الضاد.

 

3 – مفهوم المسيحي في الضمير الاسلامي

مفهوم المسيحي في الضمير الاسلامي يكتنفه الابهام منذ مجيء الاسلام وحتى اليوم. هذا الابهام ظاهر في الصور التي حددها القرآن، وجسدتها ممارسات الانظمة الاسلامية عبر التاريخ:

1 – لم ترد ابدا في القرآن كلمة “مسيحيون” بل يسميهم “نصارى”. وهي ترجيحا تعني في القرآن فرقة خاصة من المسيحيين ذات طابع يهودي، ولا تعني حكما أتباع يسوع الناصري.

2 – المسيحيون في القرآن هم ايضا “أهل الكتاب”، وهي عبارة تطلق على اليهود وعلى الصابئة، والقرآن يتهمهم بتحريف كتبهم المقدسة التي لا تتفق مع الوحي القرآني. والمسيحيون لا يعتبرون انفسهم أهل الكتاب بل أهل “الكلمة” المتأنس.

3 – المسيحيون في الاسلام هم “أهل ذمة” يحظون بالحماية في دار الاسلام مقابل موجبات معينة، ولكنهم هامشيون في الحياة الوطنية.

4 – المسيحيون في الاسلام هم  ايضا “الروم” وهي عبارة تعني في القرآن البيزنطيين.ومازال بعض المسلمين يعتبر المسيحيين في العالم العربي، وكأنهم مواطنون في دولة او امبراطورية اخرى لا في الدول الاسلامية.

5 – المسيحيون يشكلون مجموعة ملل. والمفهوم بالملّة التعاليم المختصة بجماعة. ويقصد الكتّاب العرب من هذا التعبير مجموعات مبعثرة من الفرق كالملكيين والارثوذكس والموارنة والسريان والنساطرة، كما ان العديد من دساتير الدول العربية اليوم يعتبر ان دين الدولة هو الاسلام وهو مصدر التشريعات المدنية. وهذا ما يستتبع تطبيق الشرع الاسلامي على المسيحيين في ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية، فلا يعتبرون مواطنين متساوين في الحقوق مع المسلمين.

 

4 – الكنيسة بين الترسّل والتردّد

لو نظرنا الى الواقع لوجدنا ان المجتمع المسيحي في الشرق يعيش غربتين: غربة دينية الطابع بسبب الكنائس المفككة والتراثات الحضارية المختلفة التي وصلت اليه من سوريا القديمة وبلاد ما يبن النهرين والجزيرة العربية وبيزنطية وروما واليونان. ويعيش كذلك غربة زمنية في ظل أنظمة تتناقض أحيانا مع مبادئه الدينية وحقوقه الانسانية، فيشعر أبناؤه بتمزق داخلي بين الولاء لقيصر والانتماء الى عالمية المسيح، يبن قدرهم الانساني وقدرهم اللاهوتي.

أمام هذا الضياع، يعاود المسيحي اليوم في الشرق الخياران اللذان ما برحا منذ البدء يتنازعانه: الالتزام حتى الانعدام، او الانسحاب حتى الاغتراب. وأسوأ الحالين هو ثالثهما. وقفة الحياد التي تقفها احيانا الكنيسة، فلا تواجه الواقع بشجاعة كافية ورؤية نبوية. ولا نرى حكمة في حياد الكنيسة من القضايا الحياتية والمصيرية المطروحة، لان المسيح لم يوظف “نواطير” على الكنيسة واوقافها ورعاياها، بل رسلاً سلّمهم زمام القيادة والريادة.

المسيحية حضور والتزام بينما الحياد بلادة والانسحاب خيانة، وكلاهما لا ينتسبان بصلة الى مثل المسيح ولا الى عقيدة الانجيل ولا الى تاريخ المسيحية في الشرق.

نحن مدعوون اليوم في مجتمعنا العربي للخروج من التردد الى الترسل، ومن الاحجام الى الاقدام. ولو اردنا ان نكون فعلاً امناء لرسالتنا، لما نعمنا بطمأنينة ما دام الناس حولنا معذبين،ولما اكملنا طريقنا مرتاحي البال، بينما الحق يئن طريحاً جريحاً كالسامري، والعدالة كالمسيح تصارع الباطل على صليب الحق. تأصلنا في هذا الشرق يعني ان لا نحلم بهناء والشرق تعيس، ولا بطمأنينة والحق سليب، بل نقاسي فيه ومعه وفي سبيله سر تجسد المسيح وآلامه.

 

كنيسة العرب: الارض والشعب

لا يمكن لاي كان مقاربة هذا الموضوع متجاوزاً كتابات الاب جان كوربون، وبنوع خاص درته الفريدة، كتاب “كنيسة العرب” الذي سكب فيه من عقله النيّر ورؤياه النبوية عصارة تجربته الطويلة في اطار الكنيسة الشرقية وفي قلب المجتمع العربي.

لذلك، في مقاربتنا هذه، سنعتمد اساساً على ما كتبه الاب كوربون، مع بعض الطروحات والملاحظات الاضافية التي يفرضها الواقع وتستلزمها التحولات المستجدة.

 

1 – التسمية

ان تسمية “كنيسة العرب” تساعد في توضيح بعض الالتباسات وفي الخروج من المآزق التي تضعنا فيها التسميات الكنيسة السارية في المنطقة. فعبارتا “الشرق المسيحي” و”كنيسة المشرق” تسهمان في تغذية الالتباس والغموض لانهما لا تعبران بدقة، لا عن هوية الكنيسة ولا عن هوية الشرق.

المسيحيون العرب يشكلون حوالى 10 في المئة من سكان دول الشرق العربية، ويؤلف من بينهم اقباط مصر العدد الاكبر. لذلك فعبارة “الشرق المسيحي” غير مطابقة للواقع لان الاسلام هو دين الاغلبية الساحقة.

ان تسمية “كنيسة العرب” تتجاوز التسميات السائدة في كنائس الشرق، والتي لا تعبر عن جوهر الكنيسة وحقيقة هويتها، اذ لا يمكن القول في الكنيسة الواحدة انها انطاكية او بيزنيطة او رومانية لان هذه الصفات سياسية الطابع. كذلك لا يمكن القول انها سريانية ويونانية ولاتينية لانها صفات تعبر عن الوان من الثقافات. كما ان وصف الكنيسة بأنها بطرسية او مرقسية ان مارونية او لوثرية لا يعبر بالتمام عن جوهرها، لان هذه الصفات تعطيها طابعاً شخصياً.

كل هذه التسميات تعبر عن تجريدات جزئية، وتتضمن تقصيراً في وصف الهوية الكنسية وصفاً كافياً. فالصفات الوحيدة ذات القيمة التي يمكن ان تضاف في المطلق الى الكنيسة هي انها “واحدة جامعة، مقدسة، رسولية”.

لا تخلو تسمية “كنيسة العرب” من بعض المخاطر:

1 – الخلط بين العروبة والتعريب السياسي، واعادة صياغة تاريخ الكنيسة من خلال القضايا الراهنة.

2 – الخلط بين كلمة “عربي” وكلمة “مسلم” بحيث يعتبر اغلب المسلمين العرب ان العروبة هي الاسلام، وان المسيحيين العرب غرباء، وهذا ما يدفع غير المسلمين ومنهم المسيحيون الى اعتبار انفسهم خارج العروبة الاسلامية.

3 – التسليم بأن الطابع الديني سيبقى الطابع الغالب في المنطقة ولا مكان للعلمانية في الشرق، ارض الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلام.

4 – ميل البعض الى رفض تسمية “كنيسة العرب” وتفضيل البقاء في اطرهم الخاصة التي تكوّنت عبر الاجيال من سريانية، وبيزنطية وقبطية وبروتستنتية.

 

2 – الكنيسة والارض

في تحديده للرقعة الجغرافية التي تنتشر عليها كنيسة العرب، يحصرها الاب كوربون بالجزيرة العربية والهلال الخصيب معتبراً اياهما منطقة متجانسة، متكاملة، نتيجة التاريخ المشترك والجغرافيا السياسية والمعضلات المطروحة حاضراً. لم يشمل الاب كوربون في هذا التحديد الكنيسة في وادي النيل وفي المغرب لاعتباره ان هذا الموضوع يطرح هناك اسئلة عن مطلق وجود الكنيسة وامكان نموّها، بينما في المشرق السؤال الاول هو عن هوية الكنيسة فقط.لو انطلقنا من المنطلقات التاريخية فقط لوجدنا ان في تاريخ الكنيسة الانطاكية بعض الاختلاف عن تاريخ كنيسة الاسكندرية، ويمكن ان يفسّر ذلك خيار الاب كوربون. فكنائس الشرق الانطاكية لها تاريخ ولاهوت مشترك في ما بينها اكثر مما لها مع كنيسة الاسكندرية.

ولكن لو انطلقنا من المنطلقات الجيوسياسية ومن المعضلات المطروحة حاضراً، لملنا الى اعتبار وادي النيل وكنيسة الاسكندرية داخل حدود الرقعة الجغرافية التي تنتشر عليها كنيسة العرب. فالوجود المسيحي ما زال اكثر حيوية في مصر منه في الجزيرة العربية، وذلك رغم ما يعانيه من مضايقات ومحظورات، كمنع المسيحيين من تدريس اللغة العربية على اساس انها لغة قرآنية.

مما لا شك فيه انه رغم تباين المعطيات التاريخية بين كنيسة انطاكية وكنيسة الاسكندرية، يواجه الوجود المسيحي اليوم تحديات عديدة في معظم الدول العربية، وذلك مع تصاعد العصبيات الدينية وتزايد الحركات الاصولية.

 

أ – التشتت والتفكك

تاريخ كنيسة العرب حافل بالتحديات منذ العهود الاولى للمسيحية في الشرق بحيث تشتت العديد من ابنائها صوناً لحرية المعتقد وطلباً للأمان. والتشتت الأول كان خلال الحربين اليهوديتين (سنة 70م و135 م). وخلال النزاعات اللاهوتية التي نتجت من مجمعي أفسس (431) وخلقيدونية (451) اصاب التشتت المسيحيين السريان والملكيين واليعاقبة. كما انه في القرن الثالث، وحتى الفتح الاسلامي، كانت المواجهة بين بيزنطية والساسانيين تتم في غالب الاحيان على حساب السكان المسيحيين.

بعد مجيء الاسلام، عاش المسيحيون أربعة عشر قرناً من التآكل بعد الفتوحات وفي الخلافتين الأموية والعباسية، كما كان للحملات الصليبية على مسيحيي الشرق أوخم العواقب. ثم جاءت هجمات المغول فزادت من تشتتهم. ولا ننسى هجرة الأرمن الى كيليكية والأناضول في مستهل الألف الثاني، والمجازر التي تعرضوا لها سنة 1915. ومنذ سنة 1948 برزت مأساة فلسطين، وطرد نصف أهلها، أما النصف الآخر المقيم فقد أضحى غريباً على أرضه وفي دياره، وما زال يستشهد كل يوم ضحية الغطرسة الاسرائيلية.

ان هذا التاريخ المأسوي، وما أحدثه من جراح ثخينة في الذاكرة الجماعية، ادى الى تآكل الوجود المسيحي في الشرق، فلم يبق منه الا جماعات مبعثرة غير محصورة في بقعة معينة. ويتضح من مسلسل الهجرات المتتالية ان الكنائس، في هذه المنطقة، لم تستمد قوة بقائها على أرضها من مؤسسات اقليمية او سياسية لان حدود هويتها المحلية كانت في حالة تحرك مستمر. فأين انطاكية من كنيسة انطاكية اليوم؟ وأين بابل من كنيسة بابل؟ ان ربط الكنائس المحلية بمثل هذه المدن التاريخية يدعو الى الاحترام، لانه يصل الحاضر بالتقليد الحي، ويحمل معه معنى الأصالة والحنين الى الماضي. لكن لو نظرنا الى الحاضر، والى البعد اللاهوتي للكنيسة الحية “هنا والآن” لتبادر لذهننا السؤال الآتي: لماذا يا ترى لا ندعو هذه الكنائس المتعددة باسمها الواقعي “كنيسة العرب” لكونها كنيسة “محلية” تقيم فعلاً في هذا المكان الذي هو أرض العرب؟

 

ب – التأصّل في الأرض

كنيسةالعرب متأصلة في أرضها، وهي “محلية”، وان كانت هذه الارض عرضة لتقلبات الدهر. ان جبالنا وودياننا وسهولنا وانهارنا وصحارينا هي المقام الأول لكنيستنا وهي الاكثر ديمومة من الحدود السياسية والادارية.

أعطيت الكنيسة في الشرق منذ زمن طويل، وعبر هجرات ابنائها المتتالية، نعمة فريدة تعيش بها قول الرب: انتم في العالم ولكنكم لستم من العالم” (يوحنا 17، 14-18). و”انتم في العالم” هنا تعني في العالم العربي. وهي كنيسة العرب بحكم كونها على ارض العرب وفي سكانها وفي ثقافتها. وعبارة “لستم من العالم” تنطبق تماماً على كنيسة العرب، لانها لم تكن يوماً من الأيام مملكة من هذا العالم.

 

3 – الكنيسة شعب الله دونما تمييز في العرق واللون واللغة، متعددة المظهر وواحدة في الجوهر. لم يعرف التاريخ تنوعاً دينياً مدهشاً كالتنوع الذي نعيشه اليوم على ارض العرب. يكفي ان ننظر الى لبنان، ونتأمل عدد الكنائس التي ينتمي اليها مسيحيوه قياساً الى قلة عدد سكانه من جهة وضيق مساحة أرضه من جهة أخرى.

ان وجه الكنيسة اليوم يختلف عما كان عليه في ما سلف. المؤمنون يتوحدون رغم انتماءاتهم الطائفية المختلفة. والشعب الموحد يتوق الى ان يصبح شعب الله الواحد اي الكنيسة الواحدة الجامعة. فسر الكنيسة لا يسطع في كل مؤمن بمفرده، او في كل جماعة مسيحية على حدة. الحقيقة الكنسية هي امانة كلية في الروح القدس، وامانة نسبية في هياكلها البشرية الحية.

يقول الأب كوربون: “ينبغي ان تكون الكنيسة هنا شركة الله مع العروبة وسر الشركة هذا هو قسط الكنيسة الفريد في بناء عالم اكثر انسانية. فالطائفية من حيث انها خصوصية هي شكل من أشكال الانكفاء الاجتماعي وهي مناقضة للشركة التي هي الشكل الالهي للانفتاح... وكنيسة العرب ليس تأميماً للكنائس بل هي تحرير الانسان في المسيح”.

 

خلاصة

 المسيحية رسالة سماوية وشهادة انسانية. وبما ان عمل الانسان ملازم للعمل الالهي في صناعة التاريخ، فقد شاب تاريخ المسيحية في الشرق، كما في الغرب، بعض العثرات التي تعود الى ضعف الانسان لا الى سمو الرسالة. ان ضعف الوجود المسيحي في الشرق وتضاؤل دوره لم يتأتيا من المضايقات والاضطهادات الخارجية فقط بل كانا ايضاً نتيجة انقسامات داخلية تداخلت في أسبابها عوامل اللاهوت والناسوت.

عانى المسيحيون في الشرق العديد من الاضطهادات، فتعالوا فوق الجراح مشدودين بسمو رسالتهم، وساهموا في صناعة تاريخ هذه المنطقة وفي تفاعل حضاراتها واثرائها، رغم انهم لم يشاركوا كثيراً في الحكم.

صحيح ان الوجود الديموغرافي المسيحي في البلدان العربية اصبح ضعيفاً، ولكن لو أمعنا النظر في تحليل المعطيات التاريخية لوجدنا ان هذا الامر ليس نهائياً، وان الفعالية لا تقوم على الكم فقط بل على النوع. شهادات المسيحيين الاوائل في اورشليم وانطاكية والاسكندرية لم تعتمد على وجودهم العددي، بل على سمو الرسالة التي أدوها حتى الاستشهاد احياناً، فكانوا كالخميرة في العجين.

مما لا شك فيه ان تاريخ المسيحية في الشرق  تفاعل مع تاريخ الاسلام، وتأثر سلبا بانتشاره الجغرافي والديموغرافي، لكنه تأثر ايضا سلبا بعدم امانة المسيحيين  لرسالة الخلاص التي ائتمنوا عليها. لو عدنا الى تاريخ الكنيسة، لوجدنا ان بين بعض المسيحيين والمسيح تفاوتاً  هائلاً تخجل منه الضمائر الحية وتضطرب له النفوس. لو قوبلت حياتهم بانجيله لظهر  الكثير منهم في حالة  نفاق. اول ما يعيرنا به الانجيل هو الانقسام. ارادنا المسيح كنيسة واحدة جامعة فاصبحنا طوائف متفرقة. نعترف بتجسده في الانسان، وتتضارب اراؤنا حول نوع هذا التجسد. نقول ان المحبة وحدها تحيي، وكنائسنا لم تعرف بعد المصالحة. السكوت عن هذا الواقع هو استسلام له، وكل استسلام هو خيانة لروح الانجيل تبعدنا عن سر الخلاص.

 

البروفسور جوزف ابو نهرا: استاذ في الجامعة اللبنانية وعميد سابق لكلية التربية

http://www.annaharonline.com/htd/ADIAN041010-1.HTM