نقلاً عن صحيفة "النهار"
الخميس 23 كانون الأول 2004 - السنة 72 - العدد 22176
اعتلان الرفق الالهي في شخص المسيح
سر الميلاد بين العقل الاغريقي والعقل الاسلامي
الاب مشير باسيل عون
يطرب المؤمن المسيحي وينتشي ببهجة الميلاد. وقد تسري هذه النشوة الى بيئات واوساط لا تشاطره ايمانه الميلادي. ولكه لا يلبث ان يحتار حيرة عظمى حين يسأله الاخرون عن معنى التجسد، اي عن قابلية هذه المسألة الايمانية للانسلاك في تعابير الخطاب البشري. وتتوزع الآراء اللاهوتية المسيحية بتوزع الانتماءات الفكرية وضروب التحسس الديني. فمن المسيحيين من يختارون سبيل الفلسفة الاغريقية القديمة فيصفون الالوهة بصفة الوجود الاسمى الواجب الوجود، ويصفون الكائنات المخلوقة بصفة الموجودات التي يرتبط وجودها بحقيقة الوجود الاسمى اما عن طريق التشارك الافلاطوني المتحدر من فوق، واما عن طريق الحيوية الارسطية المتصعدة من تحت. ومن المسيحيين من يختارون سبيل المقاربة الكتابية البحتة، فيستطلعون في الالوهة سمات الكائن الشخصي الذي يبادر الانسان في حدث التاريخ ويكسبه القدرة على النجاة بالاستنارة والاهتداء والاتحاد الشخصي الحاصل بنعمة الهية تفوق استحقاقات البشر واهليتهم. ومن المسيحيين من يختارون سبيل الصمت والامتناع عن البناء اللاهوتي، فيعاينون في التجسد حدثا خارقا يتعالى على التاريخ فيضعونه في موضع الفرادة المطلقة التي يستحيل على الانسان ان يجعلها موضوعا لتفكر عقلي رصين البناء متماسك الاطراف.
ومن المعلوم ان آباء الكنائس المسيحية وعلماءها اللاهوتيين الاقدمين تأثروا تأثرا
بينا بهذه السبل الثلاثة. فمنهم من نهج نهج افلاطون في تبرير شيء من التشارك بين
الصلاح الارفع والكائنات الارضية. ومنهم من سلك مسلك ارسطو في فهم الصلة الناشطة
بين الموجودات والوجود فأدركها ادراكا أميناً لحركة الموجودات في الارتقاء الى
الوجود بفعل قدرة الاغراء الخلاصي التي تنبعث من الوجود الاسمى فتجذب اليها اهل
البشر. ومنهم من آثر الفصل بين المسعى العقلي والمسعى الايماني فاكتفى بتأمل احداث
الوحي والخلاص المتجلية في شخص يسوع المسيح على حسب ما نقلته الى البشر روايات
الكتاب المقدس في وصف اختبار الانسان لاعتلانات الحب الالهي في مسرى الزمن. ومنهم
من حذا حذو الزاهدين في كل كلام قد يغلق على سر الالوهة ويجعلها في متناول الادراك
البشري على صورة مسعى التجاوز الذي يحمله الانسان في باطن كيانه.
واما اهل التفكر اللاهوتي في الكنائس المسيحية المنتمية الى نطاق الثقافة العربية
الوسيطية والحديثة والمعاصرة، فانهم اضطروا الى التعبير عن ايمانهم الميلادي في
مراعاة شديدة لاستدعاءات العقل الاسلامي الرافض في خصائص تنزيهه المطلق لكل اشكال
التشارك بين الوجود الاسمى والموجودات الارضية. ومن ثم، فان العقل الاسلامي كان
يترصد ترصداً دقيقاً كل المساعي اللاهوتية التي ذهب فيها هؤلاء اللاهوتيون العرب
مذاهب شتى تناسب المسالك اللاهوتية الثلاثة التي ورثوها عن آباء الكنيسة. فمن اعتمد
منهم منطق الاغريق فجاء لاهوته لاهوتا مسبوكاً بقوالب الفلسفة اليونانية، فاجأه
العقل الاسلامي بمساءلات كلامية منبثقة من صميم التفكر الاغريقي في قضايا الجوهر
والاعراض والطبيعة والشخص والوحدة والكثرة والتنزه عن العالم والانسلاك في التاريخ.
ومن وثق منهم باختبارات الكتاب المقدس فأتى لاهوته لاهوتاً كتابياً بحتاً، سارعه
العقل الاسلامي يتطلب منه في رصانة اللهجة المستيقنة مستندات الاخلاص والامانة
والدقة في التعبير البشري عن مضامين الالهام الالهي. ومن انكفأ منهم الى صومعة
الصامتين فظهر لاهوته لاهوتاً صوفياً ممسكاً عن النطق، عاجله العقل الاسلامي فرماه
بمبدأ استحالة البناء العقائدي على اساس الامتناع الكلامي ومبدأ استحالة الوجود
الانساني التاريخي النسبي في موازاة القول بشركة اللاهوت والناسوت في ما يشبه وحدة
الوجود.
ومن بعد ان يتحرى المؤمن المسيحي العربي عن جدارة هذه المسالك اللاهوتية يتبين له
امران جليلان. الامر الاول ان الايمان الميلادي عاد لا يمكنه ان يسلك مسلك التفكر
الاغريقي في استجلاء رباط الوجود الاسمى بالموجودات، اذ ان مقولة الوجود او
الكينونة لا تستنفد معاني الاختبار الانساني للاهوت الحب الميلادي، والامر الثاني
ان مثل هذا الايمان الميلادي لا يوائم مبدأ التنزيه الاسلامي المطلق للالوهة، ولو
ان بعض المسلمين من الشيعة يقولون بامكانات محدودة الاثر في تجلي شيء من الفكر
الالهي في عصمة الأئمة المصطفين. واذا كان الرفض الاسلامي لسر التجسد قد غدا واضح
الدلالة في نظر المسلمين بسبب من استحالة انغلال الألوهة في مطاوي الزمن الانساني
النسبي، فان عجز العقل الاغريقي عن اسعاف الايمان الميلادي في التعبير عن فرادة حدث
التجسد لم ينقلب بعد امراً واضحاً في اذهان اصحاب الفكر اللاهوتي المسيحي في العالم
العربي المعاصر. والحال ان كثيراً من اللاهوتيين المسيحيين العرب ما انفكوا يعتقدون
ان إخفاقهم في محاورة العقل الاسلامي المفرط في تنزيهه لا يمنعهم من الاستنجاد
بالعقل الاغريقي للتعبير عن فحوى ايمانهم الميلادي.
وإني احسب ان العقل اللاهوتي المسيحي العربي غدا اليوم في امسّ الحاجة الى صياغة
لاهوتية جديدة تحترم ارباكات العقل الاسلامي التنزيهي وتتجنب افخاخ العقل اليوناني
التشاركي. فما السبيل الى بناء لاهوتي مسيحي عربي الانتماء يتيح للمسيحيين العرب ان
يذيعوا لشركائهم في الاوطان والمجتمعات العربية خلاصة ما يختبرونه في اعتلان الحب
الالهي في سيرة السيد المسيح؟ في يقيني اننا اليوم عدنا لا نستطيع ان نبني الخطاب
اللاهوتي العربي في سر الميلاد على مسعى الاثبات القاطع للوجود الالهي، او على مسعى
الوصف الصائب لجوهر الطبيعة الاهلية، في حين ان هذين الصنفين من المسعى اللاهوتي
يفترضان صواب المبدأ القائل بقدرة الانسان على استحضار الغيب في صورة القوام البشري
المألوف.
غير ان المسيحيين العرب يؤمنون من غير برهان قاطع بأن يسوع المسيح هو في نظرهم
الانسان الكامل والصورة البهية لما يتوسمونه في الالوهة من رقيق الصفات ولطيف
السمات. ومن غير المسيح لا يقوم لهم دين او معتقد او عبادة او نهج في الحياة. وهم
يرومون ان يخبروا الجميع عن خلاصة اختبارهم الايماني. وحين يركبون هذا المركب
العسير لا يمكنهم الا ان يستعيرو طرائق التفكير التي يبتكرها اهل العصر في وصف مثل
هذه الاختبارات الانسانية حتى يكون للاهوتهم الميلادي معنى الانتماء ومعنى
المعقولية ومعنى الشهادة. ومن هذه الطرائق المذاهب الفلسفية الناشطة في القرن
الحادي والعشرين ومذاهب العلوم الانسانية وسائر الانظومات الدينية، وفي مقدمتها
الانظومة الدينية الاسلامية.
ولا شك ان معظم المذاهب الفلسفية المعاصرة ومعظم مدارس العلوم الانسانية عادت لا
تجرؤ لا على انكار الاختبار الايماني المسيحي ولا على اثباته اثبات الحجة والبرهان.
وفيما يشرع الفكر المعاصر الآفاق لاختبارات شتى في الحس الديني، يعتصم العقل
الاسلامي بمبدأ التنزيه المطلق للألوهة عن كل جسدية ارضية. ولا يستثنى من هذا
التنزيه سوى الكلام القرآني الذي يبلغ ابناء الارض مشيئة الله الثابتة. ولكن
التنزيل القرآني لا يدخل في دائرة التاريخ البشري سوى اطراف الفكر الالهي من غير ان
يضع العزة الالهية في مساكنة الضعة البشرية. وفي حين كان اللاهوت الميلادي العربي
النطق تتنازعه في القرون الوسطى مقولات العقل الاغريقي التشاركية وتحريمات التنزيه
الاسلامي القاطعة، اضحى اليوم يتنازعه إرجاء الحكم على الالهيات في الفكر المعاصر
واصرار العقل الاسلامي على المبدأ عينه في صون التعالي الالهي.
فاذا اردنا اليوم ان ننشئ في نطاق الثقافة العربية خطابا مسيحيا في سر الميلاد وجب
علينا ان نراعي خلاصات الفكر المعاصر المنادي باستحالة البت القاطع في مسألة
الالهيات، وان نراعي مقتضيات العقل الاسلامي في احترام الغيرية الالهية المطلقة.
فكيف يمكننا ان نعقل عقلا لاهوتيا ميلاد السيد المسيح من غير ان نحسم حسم الاكراه
البرهاني مسألة الالوهة، ومن غير ان نفرغ الالوهة من غيريتها المطلقة وسموّها
الفائق الوصف؟ هذا في متسوى التأصيل اللاهوتي المعرفي النظري. اما في مستوى
الاختبار الايماني الحياتي، فان الفكر المعاصر بات يرذل كل بناء نظري لا يترجع له
في فؤاد الانسان صدى الاختبار الوجودي الحي. ولذلك ينبغي للاهوت الميلادي ان تتجلى
فيه تعابير الاختبار الوجودي الذي يحيا في كنفه ابناء المسيحية في المجتمعات
العربية.
وطلبا للاختصار في اقتراح سبل جديدة من التعبير اللاهوتي العربي عن سر الميلاد،
يمكن التدليل على مقولتين اثنتين يحملهما الميلاد في تضاعيف معانيه، تنتسب الاولى
منهما الى مستوى التأصيل اللاهوتي المعرفي النظري، وتنتسب الثانية الى مستوى
الاختبار الوجودي الشخصي. عنوان المقولة اللاهوتية الاولى الخفر الالهي، وعنوان
الثانية الانسنة الصافية. وبينما تجمع مقولة الخفر الالهي في ذاتها مقتضيات اللاهوت
الميلادي ومستلزمات التنزيه القرآني، تستجيب مقولة الانسنة الصافية لاختبارات الألم
التي يعانيها الانسان العربي في توقه الى انقاذ انسانيته وتحريرها وصقلها وتهذيبها.
وخلافا لما انعقد عليه بعض اللاهوت المسيحي، يجدر اليوم في نطاق المساكنة العربية
بين العقلين المسيحي والاسلامي، يجدر الاصرار على ابعاد التواري الالهي في سر ميلاد
السيد المسيح. فالمسيح جاء ليحرر الانسان من سطوة الالهيات المقتدرة القاهرة
المهيمنة. وفي ميلاده يتبين المسيحيون ان الالوهة التي ينتسب اليها يسوع المسيح هي
في جوهرها فعل الاخلاء والانحجاب والجود. ولذلك يحلو للمسيحيين ان يعاينوا في
المسيح صورة الخفر الالهي الذي يخلي ذاته ليجعل الانسان القدرة على الحياة والحرية
والاكتمال. وما اعتلان الرفق الالهي في مولد المسيح سوى انحجاب للاقتدار الالهي
الذي اربك الانسانية وما فتئ يربكها في انظومات التدين المبنية على السطوة الالهية
والهيمنة الالهية والاكراه الالهي. وقد يبلغ الخطاب اللاهوتي الميلادي المتجدد الى
حد القول بان اعتلان الرفق الالهي في شخص يسوع المسيح يعطل كل الخطابات اللاهوتية
الماورائية الرامية الى اثبات الاقتدار الالهي على طريقة التفكر الاغريقي. فالميلاد
المسيحي ميلاد الهي على قدر ما يواكبه ميلاد لفكر لاهوتي يكتفي بمعاينة الرقة
الالهية وقد تجسدت في سيرة يسوع المسيح واقواله وافعاله وشهادته في الجود الذاتي.
وعين الجرأة اللاهوتية في هذه المقولة ان ميلاد المسيح ينبغي له ان يبطل الكلام
الانساني في الله وان يطلقه وينشطه في الصورة التاريخية التي يستعذبها المسيحيون
للرفق الالهي، عنيتُ بها يسوع المسيح. واذا ما ابطل المسيح في ميلاده الكلام
الانساني في الالوهة، انتفت ضرورات الخطاب اللاهوتي الماورائي.
غير ان لهذا الخفر الالهي ابعادا اخرى تقترن بصون الغيرية الالهية. وفي هذا الصون
مراعاة للتنزيه القرآني. فالمسيح ما اتى ليتفقه في بسط مكانز الالوهة امام العقل
البشري، بل جاء يكشف للانسان ذخائر قوامه الانساني الحقيقي. واذا ما تصفح المرء
روايات الشهادات الانجيلية استوقفه اسهاب المسيح في الحديث عن الانسان واقتصاده
المفرط في الحديث عن الالوهة، ولكأن المسيح اتى يردع الانسان عن تجربة الامساك
العقلي بالالوهة. وفي هذا كله احترام شديد لمقام العزة الالهية. وعلى حسب هذا
التصور يمكن القول بان مقولة الخفر الالهي التي يحملها الميلاد في ثنايا معانيه
تراعي بعض المراعاة مستلزمات التنزيه القرآني من غير ان تقطع صلات الالفة بين الله
والانسان.
واما مقولة الانسنة الصافية فيستخرجها الانسان من تضاعيف السيرة الانجيلية حيث
يعاين السيد المسيح يربط حلول الملكوت السماوي بشفاء الانسان وتحرره وسعادته. فاذا
كان الميلاد في نظر المسيحيين هو التعبير الامثل عن اقتران الالهيات بمصير
الانسانيات، فان تطلب الانسنة الصافية لا يمكن ان ينشط الا باستلهام مضامين هذه
السيرة الانجيلية الفريدة. ولذلك لا يجوز على الاطلاق بناء اللاهوت الميلادي الا
على قاعدة هذه الانسنة الصافية، وهي تختزن ما تختزنه من قيم التشارك الكياني
والتضامن الوجودي والتآخي الصريح والتكامل المنعش والتجاوز المبهج. ومن ثم، يعود
الميلاد لا يرتبط بحدث الهي خارق منعزل عن نضالات الانسان، بل يصبح في حقيقته
التعبير الاسمى عن ميلاد الانسان الساعي الى تحقيق انسانيته على مثال انسانية السيد
المسيح.
وبفضل مقولتي الخفر الالهي والانسنة الصافية يتهيأ للاهوت المسيحي الميلادي ان
يتحرر من مقولات الاغريق العتيقة، وان يعتمد لغة اهل العصر الناشطة في تحريات الفكر
الانساني الحديث، وان يخاطب الانسان العربي في صميم معاناته الوجودية، وان يحترم
روحية شركائه المسلمين في اصرارهم المستمر على ضرورة التنزيه الالهي. هذه الغايات
الاربع تكفي وحدها لتبرير الاقدام الجريء على مثل هذا الفكر اللاهوتي. ولا يظنن احد
ان الاتيان بمثل هذا الخطاب الميلادي اللاهوتي يتهيأ للافراد وللجماعات بمثل هذا
اليسر في انشاء المقاربات وصياغة التصاميم. وحده التبحر في ابعاد هاتين المقولتين
والتعمق في استجلاء مدلولاتهما وانعكاساتهما وامتداداتهما يهيئ للمسيحيين العرب ان
يتدبروا مبلغ التبدل الخطير في فهم اختبارهم الايماني وبناء عمارتهم الفكرية
الدينية.
الاب مشير باسيل عون
نقلاً عن صحيفة "النهار"
الخميس 23 كانون الأول 2004 - السنة 72 - العدد 22176