Email: elie@kobayat.org back to Patriarch's Visit

يغرِزُ جذورَه كلُبنان

بقلم

يوسف كمال الحاج

ألقيت في دير مار ضومط للآباء الكرمليّين في القبيّات يوم الأحد 16 أيّار 2010

 بحضور غبطة ابينا البطريرك المارونيّ مار نصر الله بطرس صفير،

وذلك بمناسبة افتتاح فرع لشركة Soft Solutions  في رحاب هذا الدير ضمن مشروع "جذورنا".

  

(أبتِ البطريرك الكليّ الطوبى، أصحابَ المقامات المحترمين، أيّها الحفل الكريم)

تتعانق اليوم، في هذه المناسبة المباركة التي تجمعنا في حضرة أبينا بطريرك الكنيسة السريانيّة الأنطاكيّة المارونيّة مار نصر الله بطرس صفير، المجلّل بغبطة الرجاء ونيافة الحكمة، أحداث ثلاثة لا أبالغ إذا أعتبرتُها في باب الكَيْروس (καιρός)، أي هنيهة المقصد الإلهيّ عندما تفعل فعلها في مدى الزمن الهَروب: 

-       الحدث الأوّل هو افتتاح فرع لشركة Soft Solutions في دير الكرمليّين التاريخيّ على أرض القبيّات، مع كلّ ما يَحبَل به هذا الافتتاح من معان روحيّة ووطنيّة بعيدة؛

-       الحدث الثاني هو قيام هذا الاحتفال خلال أوّل سنة يوبيليّة في التاريخ يعلنها بطريرك للكنيسة المارونيّة، وفيها نستذكر المئوية السادسة عشرة لانتقال القديس مارون إلى الأخدار السماويّة؛

-       الحدث الثالث هو حضور البطريرك المارونيّ بشخصه المُنيف لمباركة الاحتفال، مع كلّ ما يمثّله هذا الحضور الاستثنائيّ من بشارة عظيمة للشعب والأرض.

*   *   *

الكَيْروس الأوّل هو وليد مبادرة سامية - وقد أقول سماويّة - زُرعت منذ سنين حبّةَ خردل في نفس مُطلِقها الأستاذ نعمه طوق، المتمنطق بـ "طوق" الحميّة الرسوليّة والمتزيّن بالـ "نعمة" إسمًا ودعوة. طموح هذه المبادرة هو مدّ طوق من مراكز البرمجيّات المتطوّرة على كامل مساحة الريف المسيحيّ، ولا سيّما في البلدات النائية، مع الانفتاح على كلّ طالب للبقاء في أرضه، مهما كان انتماؤه. المبادرة كوكبت حولها حُفنة من المتطوّعين - وأنا منهم – تهوُّسُهم هو تدوين حقيقة لبنان في كتاب الأرض. توقنا في هذه المجموعة، ضمن مشروع يحمل إسم "جذورنا"، هو، في المدى الأقرب، تلبية توصية من توصيات المجمع البطريركي الماروني مفادها، بالحرف، "إنشاء مصانع صغيرة ومحترفات مهنية من أجل توفير مجالات للعمل تحول دون إفراغ الريف من أهله".[1] أمّا في المدى الأبعد، والأعمق، فهدفنا هو تأصيل الإنسان اللبنانيّ في أرضه التاريخيّة ليربح تحرّره بالروح عبر تحرّره بالأرض، "ويَغرِزَ جُذورَه كلبنان"، كما يقول هوشع في الكتاب (هوشع 14: 5) وهو يصف التوبة إلى الربّ. فنحن مقتنعون، مع الأب ميشال الحايك، بأنّنا اليوم "نازحون مشرّدون عن لبنان الروحيّ"، وبأنّ هدفنا الأبعد هو "أن نتجنّس روحيًّا فيه لنستحقّ استيطانه من جديد". كما أنّنا متيقّنون، مع صاحب الأمثال في الكتاب المقدّس، من "أنّ المُستَقِيمِين يَسكُنون الأرضَ، والكامِلِين يَبقَوْن فِيها." ( أمثال 2: 21)

 

كلّ أسلافنا العظام الذين هجَسوا وحلَموا بلبنان الواجب أن يكون، بلبنان الصَمَد، بلبنان الروح، بلبنان الشهادة، بلبنان التاريخ، بلبنان الرسالة، انطلقوا من الأرض مطيّة للارتقاء إلى المعنى الأكبر. تذكّروا كلمات جبران الخالدة في الأرض: "أيّتها الأرض...أنت لسان الأبديّة وشفاهها...ذرّةٌ من الغبار تصاعدت من بين قدمَي الله عندما سار من مشارق الأكوان إلى مغاربها...أنت الجمال في عينيّ، والشوق في قلبي، والخلود في روحي." وتذكّروا، في مجال آخر، تحذير كمال الحاج المدوّي منذ ستّينيّات القرن الماضي: "بيع أرض لبنان يعني بيعَ سماء لبنان."

 

لأجل كلّ ذلك نرى رمزيّة فائقة في افتتاح فرع شركة Soft Solutions للبرمجيّات المتطوّرة على أرض القبيّات المجبولة بالمآثر والتضحيات، وفي رحاب دير مار ضومط لرهبنة الكرمليّين الحفاة، رهبنة الأقمار الثلاثة "تريزا ده خيسوس" الأفيليّة، و"تيريز للطفل يسوع والوجه الأقدس"، و"يوحنّا للصليب". في هذا الدير العابق بالقداسة، الرابض منذ أربعينات القرن التاسع عشر كالأمّ الرؤوم بين الأبناء الأوفياء، يتواصل تاريخ مجيد قام على بحر من البطولات الصامتة روحيًّا وزمنيًّا، نذكر منها ما خطّه الأب "ستانسلاو للقلب الأقدس" بأبجديّة من غيرة وشهامة وجرأة، وما زيّنه الأب فرنسوا طنب بلُمَع من تضلّع وعلم وضياء. رجاؤنا هو أن يستمرّ هذا التاريخ المجيد من الشهادة الصافية بفضل عطاءات حُفنة من شابّاتنا وشبّاننا المتفوّقين، الذين يوّدون أن "يولدوا في الأكواخ ويموتوا في قصور العلم"، كما يقول جبران في أبناء لبنانه هو.

*   *   *

أصل إلى الكَيْروس الثاني. نحتفل اليوم بحدث تدشين فرع مؤسستنا العكّاريّ، الثاني في "طوق النعمة" بعد فرع زحلة، من قلب السنة اليوبيليّة التاريخيّة التي أعلنها غبطة أبينا البطريرك إكرامًا  لمضيّ ستّة عشر قرنًا على ارتحال القديس مارون إلى المراعي السماويّة: مارون "العظيم"، مارون "الأسمى"، مارون "الشهير"، مارون "الملهِم"، كما ينعته كاتب سيرته الأسقف ثيودوريطس في غير موضع، مضيفًا بتوقير أنّه كان "يزيّن جوقة القدّيسين الإلهيّين".

 

ما زال مارون، شفيعُ كنيستنا المارونيّة ومرشدُها الأصل، يلهمنا حتّى الساعة، وسيظلّ يلهمنا حتّى قيام الساعة. فهو الذي يختصر لنا، ببلاغة لا يعرفها إلاّ من تبتّل، على مثاله، للبطولة الروحية، كلّ الثوابت التي نستطيع أن نبني عليها حياتنا ووطننا: ثابتة الموازنة بين طلب النعمة بالتأمّل العابد وبين القيام بالأعمال الصالحة؛ ثابتة الانفتاح على الواقع والالتزام بمعاضل الدنيا مختبرًا لتظهير القداسة؛ والثابتة الأهمّ، ثابتة الأمانة للسيّد الكبير بحميّة مارون، السيّد الصغير.

 

أجل، مشروعنا في القبيّات هو، قبل كلّ شيء وأبعد من كلّ شيء، التبتّل للبطولة الروحيّة على مثال مارون، كلّ منّا على قدّه. مشروعنا هو التدرّج نحو التَشَرْبُل والتَرَفْقُن والتَحَرْدُن والتَمَسْبُك والتَيَعْـقُب وصولاً إلى التَمَرْيُم. هذا ما نسعى إليه معًا في جميع مراكز مؤسستنا، إن في لبنان المدينة، أو في لبنان الأرياف، أو في ديار الله الوسعة. منشآتنا تطمح، على مثال "المصنع المقدّس" الذي أطلقه ليون هارميل (Léon Harmel) في مدينة رينس الفرنسيّة خلال الربع الأوّل من القرن التاسع عشر، إلى أن تكون بُوتقةَ تنشئةٍ مسيحيّة عميقة ومتنوّرة في قلب دنيا العمل، وواحةَ سلام اجتماعيّ بين أطراف المؤسسة، ورفاهٍ مادّيّ وأخلاقيّ لجميع أعضائها. أمّا هدفنا الأحبّ، فهو أن نسمو بأنفسنا إلى ما كتبه لامرتين بإعجاب عن الموارنة، في معرض وصفه لوعورة جبالهم، قائلاً:

 

Nul n’en saurait trouver la route que les aigles.
Tout un peuple pourtant suit là de saintes règles,
Et, pour fuir l’esclavage et l’ombre du turban,
De trous comme une ruche a percé le Liban.
Là, suspendant son aire aux pans des précipices,
Il féconde du roc les moindres interstices :
Abeilles du Seigneur, dont la cire et le miel
Sont d’obscures vertus qui n’ont de prix qu’au ciel !
-
Quel est ce peuple saint ? - Ce sont les Maronites,
Tribu d’adorateurs, peuple de cénobites
.                                             

 (Lamartine, La chute d’un ange, Paris, L. Hachette & Furne, Eds., 1862, p. 21)

*   *   *

الكَيْروس الثالث، والأبعد أثرًا فينا، هو حضور غبطة أبينا البطريرك مار نصر الله بطرس صفير شخصيًّا بين ظهرانينا ليبارك اليوم، بقامته المقدّسة، مشروع "جذورنا" ويدشّن فرع المؤسسة في القبيّات. بحضوره البعيد المعاني، النابض بالعبر، نستذكر هتاف النبيّ أشعيا، الذي رنّم لدى استعادة أورشليم مجدها بعد كبوة أدوم: "فلتفرحِ البرّيّةُ والقَفْر... ولتُزهرْ إزْهارًا، وتبتهجِ ابتهاجًا مع هُتاف... قد أُعطيَت مجدَ لبنان." (أشعيا 35: 2) أجل، هذا هو شعورنا الثمين اليوم في حضرة أبينا الهامة: فرح أشعيائيّ في قلوبنا، وإزهار رجائيّ في ضمائرنا، وابتهاج مع هتاف على ألسنتنا، ووعي كتابيّ عميق لمعنى الشعار الذي انحدر إلى شخص البطريرك من رحم التاريخ: "مجد لبنان أعطي له". لا غضب ولا عتب على من لم يستشفّ فحوى هذا الشعار المحتفَر في الوجدان المارونيّ، فتوقّف عند ضحالة القشور. نحن نعرف بحكمة الإيمان، خصوصًا هنا، في أرض البطريرك المارونيّ موسى سعاده العكّاري، المديد العهد والمبارَك الذِكر، حول أيّ مجد لاهوتيّ يرنّم النبيّ، وإلى أيّ بهاء أخيريّ يشير بلبنان، ولأيّ ربّ مرتجى يُعطى كلّ هذا المجد، ومن ثَمّ نعرف بأيّ استحقاق واتّضاع يتلبّس رأس الكنيسة البطرسيّة المارونيّة، إذ يخدم إرادة ربّ المجد ويجسّدها على الأرض، كلّ ما تكتنزه هذه الكلمات الكتابيّة من رجاء، وجلال، ووديعة سماويّة. "بكركي اليوم كبكركي الأمس"، كتب كمال الحاج، وأضاف بعين رؤيويّة: "ديمومة متواصلة. وأمانة واعية. وميثاق على الدهر لا يزول...إنّها الميزان العادل بين السماء والأرض. بين الدين والدنيا. بين الإيمان بالله والسياسة الحكيمة...عندما يُصاب المِحَزّ نخلُد إليها جميعًا بثقة. ولا نأنس إلاّ بناحيتها. هي بثُّنا وضميرنا... كلّنا أبناؤها. وهي أمّ الجميع...إنّها صخرة الخلاص لجميع اللبنانيّين."

 

فيا أبتِ البطريرك،

يا ميزانَ حقّنا وصخرةَ خلاصنا،

يا رافعَ وطننا إلى حافّة السماء،

اليوم تُفصِح بأسطَع بلاغة،

لنا وللأغيار،

في حضرة التاريخ الأكبر،

أنّ الأرض اللبنانيّة،

التي وصفها يوحنّا بولس الثاني وصفًا حارًّا،

في إرشاده الرسوليّ "رجاء جديد للبنان"،

بـ "الأرض الحبيبة" (عدد 8

و"الأرض المثاليّة" (عدد 119

ومرّتين بـ "الأرض المقدّسة" (عدد 1 و 122

هي مكفولة بعباءتك،

منصورة بعصاك،

محروسة بإسكيمك،

ظافرة بصليبك.

 

يا حارسَ مقدّساتنا،

وحافظَ عزّتنا،

وراعيَ أمانتها للعزّة الإلهيّة،

يا من بشخصك تتّحد السماء والأرض في أبدع تقويم،

"ألسماءُ للعُلوّ، والأرض للعمق"، كما يعلّم سفر الأمثال ( أمثال 25: 3

يا من لبنانُ من أقصاه إلى أقصاه كتابُ صلاة بين يديك،

شَرِّف، بعناية من فوق،

فَدَشِّن هذه الطَلْبة المتواضعة من كتاب صلاتك على أرض القبيّات الحافية!

ثمّ كُن يَعسوبنا لنبقى،

كما وصَـفَنا لامرتين،

"نحَلاتٌ للربّ"،

لا نَهمُد في مروج الحياة،

نَجرِس طَلْع الفضائل من زهور الإنجيل،

ونلقي عُسوله في قلوب الناس،

شرقًا وغربًا،

ونعمّر شَهْد الحقيقة شهادةً للنحّال الأكبر!

 

أمّا فخرنا الأحلى،

بوحي من أمانتك ومثالك الناصعين،

فهو أن يبقى "شمعُنا وعسلُنا فضائلَ محتجِبة

وألاّ نطلب مكافأة إلاّ في السماء.

*   *   *


[1] المجمع البطريركي الماروني: النصوص والتوصيات، بكركي، 2006، ص 851.

 

Email: elie@kobayat.org back to Patriarch's Visit