المقدمة

Back

 

لماذا هذا الكتاب؟

لم أجد ما أعبر فيه عن دوافعي في كتابة ما أُقدمه للقارئ هنا غير أن أبدأ بتكرار ما سبق، وقاله منذ حوالي عشرين عاماً تقريباً، د. الياس القطار، وهو يضع مقدمة كتابه "مدخل إلى علم التاريخ"، حين قال مشكوراً على ملاحظته الجريئة والعلمية: "الدافع إلى هذا الكتاب هو هذه الحالة من التسيب الثقافي والفكري الحاصل حالياً والذي نتج عنه فقدان المعايير العلمية والمقاييس المنهجية التي تفصل بين الغث والسمين من المؤلفات التاريخية. أبعد من ذلك، نحن نعاني منذ سبع سنوات من هجمة بعض الأميين والفاشلين على ميدان التاريخ..."([1]).

لا شك، أن ملاحظة د. القطار رائعة، ونجدها معبرة عن لسان حالنا ونحن نطالع البعض مما كُتب في تاريخ عكار، وبشكل خاص ما تناول منه التأريخ للقبيات. وإذا كانت ملاحظتنا الأولية تلفت النظر إلى ما اعترى البعض من هذا التأريخ من تشويه سافر وتزوير فظ للمراجع والمصادر، فإن ما يسترعينا أساساً هو جانب التطفل([2]) على التاريخ، والجهل بطبيعة هذا المبحث، لجهة منهجه ووظيفته الاجتماعية.

 

 

فما هو التاريخ؟ وما هي وظيفته؟

بالطبع لسنا في وارد الإطناب النظري في الإجابة على مثل هذه الأسئلة. بيد أن الأمر يستلزم في حالتنا إلقاء الضوء، تعريفاً لماهية التاريخ وللحقيقة التاريخية (علمية التاريخ) ولوظيفة التاريخ، وذلك باستعراض سريع لمسار وتكون هذا المبحث الفكري الخطير. وإننا لنعتبر الطريقة التي ظهرت فيها الكتابة التاريخية خير وسيلة لفهم ماهية التاريخ وأغراضه. وهذا ما يسميه جوزف هورس "تاريخ التأريخ"، وهوينتهي بتعريف التاريخ "على أنه ما كان يفعله المؤرخون"([3]).

يرى ابن خلدون أن: "حقيقة التأريخ أنه خبر عن الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لذلك العمران..."([4]). بيد أن البشرية لم تعتمد عبر تطورها الطويل نظرة واحدة أو طريقة موحدة في عرض "خبرها " عن ماضيها. وهكذا: "من الميتولوجيا وأساطير الأولين، إلى التبحر المسرف في الروح العلمية، لم تكن النظرة إلى التاريخ واحدة ولم تكن صلة الانسان به وفهمه له على نفس الوتيرة. فالإنسانية لم تعرف خلال تاريخها الطويل تاريخاً واحداً موحداً منقوداً، فلكل حضارة ولكل جيل طريقته في التدوين"([5]).

ففي مصر القديمة كان تدوين التاريخ "عملاً مقدساً"([6])، وكذلك كانت الحال عند اليهود في "التأكيد على استمرارية قدرهم الالهي كشعب مختار"([7])، وبحيث كانت التوراة بمثابة "ايحاء يؤكد استمرار القدر الالهي في الشعب الذي اختاره"([8]). وعندما استعرض هَرنشو أقدم الكتب في التاريخ (تواريخ المصريين والبابليين والعبرانيين) خلص إلى نتيجة مفادها في قوله: "وغني عن البيان أن الغرض من هذه الكتب كان تعليمياً عملياً أي متصلاً بالشئون العامة..."([9]).

ولم يكن التأريخ اليوناني أقل اهتماماً بوظيفة التاريخ، فجعل منه بوليب: "نوعاً من العلم الذي يقرأ المستقبل بالإستناد إلى قوانين عامة تتحكم بحياة المجتمعات"([10]). وفي هذا يقول المؤرخ توسيديد: "إننا بسبب هذه الفائدة التي نجنيها من معرفة الماضي... نستطيع أن نستبق الحكم في أمر الأحداث المتماثلة أو المتعادلة التي ستتولد في مستقبل القيم المشتركة"([11]). وكذلك قل عن التأريخ الروماني الذي نسب إلى الرومان دعوتهم في قيادة العالم([12]). ومن المعروف أن كتابة التاريخ صارت مع الرومان "قياماً بوظيفة من وظائف الدولة"([13])، لا سيما مع تأسيسهم ل"مخازن الوثائق" و"الأكاديميات" وما نشرته باسم "رزنامة".

واستمر التأريخ في المسيحية دينياً – تبشيرياً، معتبراً حركة المجتمعات وتطورها (تاريخها) إنما هو حركة الصراع بين الخير والشر([14]).

وفي عصر النهضة ازداد الاهتمام بالتاريخ بفعل ازدياد أهمية وظيفته في تنشئة رجال الدولة، ومن ثم في ترسيخ الدول القائمة على أنقاض العالم المسيحي. وبمعنى أوضح، انخرط التاريخ في تنشيط عملية خلق الهويات الاجتماعية، وفي تنشيط الحركة السياسية للشعوب. ومع تقدم الشعوب استمرت الأبحاث التاريخية، كما كانت في جوهرها في الأصل عبارة عن ثالوث سياسي عبر عنه هَرنشو بقوله إنه:طريقة البحث السياسي، ومستودع السوابق السياسية، وأساس التقدم السياسي([15]).

 وفي هذا السياق طرح ابن خلدون وظيفة التاريخ عندما وصف وسمّى كتابه "كتاب العبر"، وأراده "أفصح بالذكرى والعبر"، وفيه "الحِكم المحجوبة القريبة"، وعندما أهدى كتابه إلى أمير المؤمنين ابن فارس عبد العزيز أهداه له قائلاً: "ليكون آية للعقلاء يهتدون بمناره"([16]).

وفي الحقيقة لكم أصاب فرانسوا شاتيليه François CHATELET  عندما عين جوهر التاريخ بقوله: "ليست المسألة الفعلية في التاريخ مسألة طابعه العلمي بقدر ما هي مسألة وظيفته الاجتماعية والسياسية"([17]). وفي هذا يقول هورس: "وإذا كان المؤرخ... يحدد الحوادث... يبحث عن أن يتبعها... فذلك لأنه يعول على أن يجعل منها عملاً نافعاً، لا يعيننا الماضي فيه، إلاً لكي يزيد في حسن فهمنا الحاضر ويعيننا على تهيئة المستقبل"([18]). للتاريخ على العموم وظيفة أساسية هي مساعدة الشعوب على رسم طريق تطورها، كما أوضح مفكرو عصر الأنوار، وفي طليعتهم الموسوعيون، الذين يعبر كوندورسيه عن رأيهم بقوله: "إذا كان ثمة من علم يسبق النظر في تقدم الجنس البشري في سائر مرافق حياته ليدير هذا التقدم ويزيد في نشاطه، فإن التاريخ يجب أن يكون القاعدة الأولى لهذه التقدمية..."([19]).

لا يعني ذلك أن التاريخ، بحكم وظيفته الاجتماعية والسياسية، هو مجرد أوهام أو دعوة أخلاقية وتبشير، مما يبرر لكل من تعاطاه اختراع الإختلاقات وصناعة الأوهام، لخدمة أغراض اجتماعية وسياسية. فثمة وقائع عاشتها الشعوب والجماعات في الماضي القريب أو البعيد، قد يقع الخلاف في فهمها وتفسيرها وتأويلها، إنما لا يجوز تزويرها. وثمة وثائق (نصوص أو نقوش أو آثار أو مرويات أو تقليد) قد يستفيد منها المؤرخ أو يغيبها، ولكنه لا يجوز في مطلق الأحوال تشويه ما فيها أو استنطاقها بما لا قبل لها على النطق به. ذلك أنه عندما اتضحت، مع الزمن ومع تطور "العلم" التاريخي، مسألة الوظيفة السياسية للتأريخ، بفعل اتساع وانتشار الكتابات التاريخية (الكتب، المجلات، الصحف اليومية، وخاصة تعميم تدريس مادة التاريخ في المدارس، وسائل الاعلام السمعي - البصري)([20])، استقرت جملة من المبادئ والأصول المنهجية التي تحمي "الحقيقة التاريخية" من التزوير.

 ولكن كل هذه الأصول المنهجية لا تحمي "الحقيقة التاريخية"، ولا يمكنها أن تحميها، من الموقف الايديولوجي الذي يحكم العلوم الانسانية، ومنها التاريخ. ويصح ذلك خاصة على التاريخ الذي تحول إلى "تاريخ قومي"، في مرحلة صراع القوميات – الدول في الغرب. إن التطور الذي أدى إلى نشوء الدولة – الأمة الواحدة التي لا تتجزأ (nation souveraine, une et indivise)، أدى أيضاً إلى تطور التاريخ والجغرافيا، ولا سيما الكتابة التاريخية. ومن هنا اهتمام الدولة (كل الدول) بالتاريخ ورعايته، بمعنى القبض عليه والتحكم به. ومن هنا أيضاً الأزمة التي شهدها لبنان في ما يخص تعديل مناهج مادة التاريخ في المدارس. وعلى العموم "بقي التاريخ في كل مكان، سياسياً أولاً يسيطر فيه، على الجهد المتتابع حتى في أكثر المناطق تقدماً في المعرفة، الاهتمام بإعداد أجيال متتابعة من التلاميذ"([21]). إن علمية التاريخ لن ترقى إلى مصاف علمية العلوم الصحيحة إلاّ متى كفّ الصراع بين الشعوب. وفي ذلك شرط لازم لإمكان حصول الموضوعية هنا. وفي هذا يقول ريمون آرون: "مهما كان التاريخ موضوعياً، فلا يمكنه أن يكون محايداً. وهو بالموضوع الذي يختاره، وبالمنهج الذي يعتمده، وبنوع المعلومات التي يطلبها، فإنه يتخذ موقفاً في الصراع الايديولوجي المندرج في الصراع الطبقي"([22]).

هل يعني ذلك أن نأخذ موقفاً يرفض التاريخ ويرذله؟ بالطبع لا. لأنه: "وإن كان لا يمكن اعتباره (أي اعتبار التاريخ) علماً يقينياً... إلاّ أنه من حيث طرائقه ونتائجه آخذ على أقل تقدير بشبه قوي جداً من العلوم... يمكن الانتفاع به في توسيع المدارك وتعويد الناس الإنصاف في الحكم ووضع الأشخاص والحوادث في وضعها الصحيح على مسرح الشؤون العامة"([23]). ولعل في ما قيل للتو الجواب على مسألة فائدة التاريخ، وعلى المسألة التي تدور حول ما نفعله بالأبحاث التاريخية.

ونختصر الكلام في القول أن: "وظيفة المؤرخ تقديم معارف أو معلومات (كما يُقال الآن) يؤكدها الإستدلال المتأني للإدراك؛ وللعقل السليم أن يستخلص الدروس الأخلاقية والسياسية"([24]). وبطبيعة الحال، يجب أن نُدرك أن الدروس التي يجب استخلاصها من التاريخ إنما تتعلق بالمستقبل. صحيح أن التاريخ هو استعادة للماضي، هوبحث في الحوادث التي ولّت، ولكن غرضه المستقبل بالذات. إن العودة إلى الماضي، انطلاقاً من الزمن الراهن، تتم وعين المؤرخ تُصوب نحو مستقبل مرغوب للإنتقال إليه من هذا الحاضر القلق. وكأن القلق الراهن هو الذي يدفع بالمؤرخ إلى العودة إلى الماضي لاستخلاص دروس وعبر تساعد على إزالة التوتر الذي يُحدثه هذا القلق. إنها لمفارقة لفظية شكلية أن يكون العمل على الماضي (التاريخ) هو بناء المستقبل. وعلى هذا يشدد جوزف هورس، بقوله أن على المؤرخ: "تقوية سلاح معاصريه لمعركة العمل، يعني لبناء المستقبل. ولذلك كان الضوء الذي ينير طريق المؤرخ، في أقصى ما يتناول من أبعاد الماضي، هو ضوء الاهتمام بالمستقبل"([25]).

بهذه العين التأريخية المُدركة لطبيعة عملها أعمد إلى مقاربة بعض تاريخ عكار وتاريخ القبيات، كما أعمد إلى القراءة النقدية للكتابات التاريخية المعنية.

وعليه، انطلاقاً مما يعتمل اللبنانيين عامة, و"الموارنة" من قلق مزمن وعميق، تفاقم في الربع الأخير من القرن العشرين، أحاول قراءة تاريخ القبيات ومراجعة محاولات تأريخها. تنتمي هذه المراجعة وهذه القراءة التاريخية إلى مشاركتي، بحكم القدر، لهذا القلق العربي واللبناني و"الماروني".

أما جوهر هذا القلق فإنه يكمن في التناقض القائم، عند "الموارنة"،  بين انتماء وواقع جغرافيين،من جهة، والبحث عن مصير (أو كيان أو سيادة) منفصل عن ذلك الانتماء والواقع، من جهة أخرى. وبينما ينتمي الموارنة عضوياً إلى واقع "عربي"، بكل ما في الانتماء من مضامين اجتماعية وجغرافية، فإن البحث عن المصير (أو الكيان أو السيادة) يجري توافقاً مع استيهام هوية تاريخية – راهنة تسعى لتبرير سياسات المعاداة للمحيط، كما تسعى لتبرير عملية إلغاء الانتماء الفعلي، وتُدخل "الموارنة" في دوامة القلق الدائم([26]).

إن اندراج موارنة عكار الحديث جداً في هذا القلق الماروني العام، وغلبة الوجهة العامة فيهم لجهة استيهام وتكريس هوية منفصلة، منذ "الأصل"، عما جاورها، يتم التعبير عنه بصياغة تاريخ لعلاقة مارونية – عكارية أصيلة وأصلية مع الجبل "الماروني". ينطلق مؤرخو القبيات من فرضية هي في جوهر "الصراع على تاريخ لبنان": أزلية لبنان، الأرض، والشعب والدولة، ضمن حدوده الراهنة. ومن مصادرة "الموارنة" لتاريخ هذا الجبل منذ تكون، مع ما في ذلك من استبعاد لشتى العناصر الأساسية المكونة لتراث الجبل ولبنان. ومن تناقض لبنان الدائم مع محيطه.

وكان سبق لنا أن طرحنا نفس المسألة تقريباً منذ أكثر من عقدين بقولنا: "مع أن القبيات تشكل التجمع الماروني الأكبر في عكار...، فإنها حديثة العهد نسبياً من حيث صلتها ولحمتها، المنتظمة بدقة، بالطائفة المارونية كؤسسة دينية، وهي أحدث عهداً أيضاً من حيث اندراجها في الحركة السياسية التوحيدية لموارنة لبنان. ومع أن هذا الانتماء الديني استكمل تكوينه بحيث بات المجتمع القبياتي اليوم مشبعاً بما يمكن أن نسميه "التاريخ المختلق للموارنة"، هذا التاريخ الذي يصور كل ماروني راهن وكأنه سليل مار مارون ينساب، أباً عن جد، عبر سلسلة لا تنتهي...، فثمة معطيات تؤكد أن هذا "التاريخ"...، لم يتكون إلاّ عبر بناء هوية دينية تقوم على اشباع "العقل الماروني" وشحنه بتواصل ماروني مستمر بعد إفراغه أو محو ما فيه من عناصر أو ذكريات أو عوامل تشير إلى انتماء سابق لغير المذهب الماروني. تعرضت القبيات – ككثير من التجمعات المارونية – لعملية "غسل الدماغ" هذه، وخضعت ذاكرة أبنائها... لعملية محو الذاكرة وإعادة تركيبها – وهي عملية ما تزال متواصلة- بحيث تبدو فيها صورة موارنة القبيات اليوم – والبلدة اليوم كلها مارونية – كورثة أصيلين ومتواصلين مع موارنة الأمس ومن هم قبلهم وصولاً إلى الجد المؤسس للطائفة وهذا ما يتنافى بتقديرنا مع معطيات تاريخية محايدة يثبت البحث فيها الحداثة النسبية لمارونية الانتماء القبياتي أو على الأقل لانتماء القسم الأكبر من سكانها"([27]).

 

 

وظيفة التأريخ القبياتي

إن صنع هذه الهوية الموهومة، والملتبسة منذ الأصل، هو الوظيفة الأصلية للكتابة التاريخية في القبيات، وهي الكتابة التي سنخضعها للنقد والنقض.

كان هذا التأريخ شعبياً شفهياً، ويتم اعتماده في اللقاءات العفوية، حيث ينشط الحوار في الماضي (التاريخ) على ضوء القلق الذي صعّدته ظروف الحرب الأهلية، وصعود المنطق الطائفي في هذه الحرب. وكانت مادته المكوبة مستمدة في معظمها من مؤلفات الأب بطرس ضو، خاصة ما أشار فيها إلى "نقاء" التجمع الماروني في لبنان من الشوف إلى الدريب([28])، فضلاً عن عشرات النشرات الميليشيوية، من كل الأصناف، التي صدرت في مرحلة الحرب الأهلية. وعندما حذرنا في المقال الذي أثبتنا مقطعاً منه قبل قليل، انتقل هذا التأريخ من الحيز الشفهي إلى ميدان الكتابة، مركزاً على نفس المسألة: أصالة المارونية القبياتية – العكارية، وعظمتها، وإلغائها للذاكرة المحلية، ومصادرتها لكل ما هو غير ماروني في المنطقة.

فكان رد الصديق د. فؤاد سلوم علينا بمقال (عملت شخصياً على نشره له في نفس المجلة التي نشرت فيها مقالي، الشمال، تشجيعاً للحوار) بالغ التعبير في عنوانه، ويعكس نزعة الفكر المطلق: "القبيات مارونية أصلاً واستمراراً"([29]). وفي العام 1988، أكمل د. الأب عفيف (سيزار) موراني اطروحة دكتوراه، بعنوان: العمارة الدينية في القبيات في ظل الصليبيين([30]). وأخيراً جاء مواطني القبياتي السيد يواكيم الحاج، في العام 1999، بمجلدين ضخمين يتجاوزان 1300 صفحة بعنوان "عكار في التاريخ"([31]).

 

إن سمة هذا التأريخ الأساسية هي "تعظيم" القبيات بحيث يبدو مجتمعها الراهن "قزماً" بالقياس لما كانت عليه البلدة في الأزمنة الغابرة. وبالطبع ما كان لهذا الماضي المزعوم على هذه الدرجة من "العظمة" أن يتراجع لولا "اضطهاد" المحيط للقبيات، كما يزعم هذا التأريخ. ولكم تنطبق ملاحظة بول فاليري على الكتابات التاريخية القبياتية، لا سيما عندما قال: "إن التاريخ هو أخطر إنتاج أعدته كيمياء العقل، فهو يدفع الانسان إلى الاستغراق في الأحلام ويُسكر الشعوب. فيولد عندها ذكريات لا أساس لها... تنكأ جروحها القديمة، فتعذبها وتقلق راحتها، إذ أنها تقودها إلى هذيان العظمة ومهاوي الاضطهاد وتجعل الأمم مريرة، متغطرسة، مغرورة، مزعجة وعقيمة"([32]).

يترافق هذا "التعظيم" لماضي القبيات، باختراع تواصل قبياتي أصيل بموارنة "الجبل"، تواصل جغرافي من جهة (الحدود حتى بشري)، واتني وديني هو أصيل أيضاً، بحيث لا يمكن لأي فرد قبياتي أن يتصور للقبيات أو لأي من ساكنيها (في الماضي أو الحاضر) أصلاً غير ماروني. فالقبيات مهد المارونية في لبنان، مثلما هي أفاميا في سورية. وهذا ما يستدعي استمرار هذا التواصل على المستوى الراهن. ومن هنا مبررات الإنصياع والخضوع، عبر وحدة الطائفة، على المستوى السياسي. لا سيما وأن هذا الماضي الذي تقدمه هذه الكتابات التاريخية يجعل موارنة القبيات مشاركين منذ أقدم العهود بمعارك الموارنة ضد الاضطهاد، في القرن السابع "مقاتلو" القبيات ينتصرون على البدع والهرطقة (الملكيين)، وفي العصور الوسطى يستقبلون الصليبيين ويعيشون مرحلة العز المنشود!؟

وليست "عظمة" القبيات فقط في أنها مهد المارونية في لبنان، ودرعها وسيفها الماضي، بل لأنها كانت منطقة مترامية الأطراف شاسعة الأراضي، وفق حدودها "التاريخية"، الممتدة من النهر (العاصي) إلى النهر (الكبير)! وصولاً إلى مشاعات بشري!

هكذا تكمن وظيفة الكتابة التاريخية للقبيات، عبر اختراع هذه "العظمة" و"الأصالة"، في إدراج القبيات في المشاريع السياسية التي اعتمدتها قيادة "الموارنة"، منذ أواسط الستينات من القرن المنصرم. وما أوهام "العظمة" غير وسيلة لتشحن النفوس بالآلام ليتولد عنها الحماس اللازم لاستعادة مقومات هذه "العظمة" المسلوبة، وحيث الطريق إليها تمر بالعودة إلى "الأصالة".

ورب معترض قد يقول: ولكن ما شأن قيادة "الطائفة المارونية" بكتابة تاريخ محلي (تاريخ القبيات، وموارنة عكار)؟ وعليه نرد: ما كان لنا أن نُقحم مقام القيادة المارونية في هذا البحث لولا أن قام بعض رموزها برعاية وتزكية هذا الإختلاق التأريخي الذي سنتعرض له في كتابنا. فليس من الصدف ولا من العبث أن ينبري سيادة المطران فرنسيس البيسري، النائب البطريركي العام، لوضع المقدمة الأولى (تصدير) لكتاب السيد يواكيم الحاج، وفيها يقول: "وها بين أيدينا جزءان من دراسة هذا التاريخ (تاريخ عكار): "عكار في التاريخ" للصديق الأستاذ يواكيم الحاج... يعالج في الجزء الثاني "الانتشار المسيحي في لبنان وسورية"، وأن "القبيات مهد المارونية". ولا غرو، فالأستاذ يواكيم قد تهيأ لهذا الدور (؟!) منذ زمن الدراسة وأعد له العدة... إنه لا ينقل الخبر التاريخي إليك على ما هو عليه فقط، بل يضعه بين يديك بعد أن يكون عمل جاهداً ليميز الخاطئ من الصائب، والغث من السمين مسترسلاً أحياناً مع العاطفة المناطقية "والقبياتية". ولكنك أيها القرئ النبيه، وقد أغناك الباحث بمعلومات وافرة، لا يمكنك إلاّ أن تغض الطرف عن بعض الهنات".

هكذا، برأي النائب البطريركي يكون السيد يواكيم الحاج "قد تهيأ" لدور المؤرخ، منذ سنوات الدراسة؟ أين؟ في أي جامعات؟ وعلى أي أساتذة؟ وبرأيه السيد يواكيم يعمل جاهداً ليميز الخطأ من الصواب، في الأخبار، كيف، بتزوير نصوص الوثائق والمراجع؟ وهل يوافقه سيادة المطران بيسري على أن القبيات "مهد المارونية"؟

كما أن الأباتي بولس نعمان وضع المقدمة الثانية للكتاب ولم يجد في الكتاب غير ما يستحق المدح، باستثناء بعض الاسترسال مع العاطفة. ولكن الأباتي نعمان يميل إلى تأييد ما أتى به السيد يواكيم، ف"الأطروحة... أقرب إلى المنطق التاريخي من المقاربات السابقة...". أما كل ما في الكتاب من تزوير للوثائق والمراجع، وكل التطفل على العلوم: الأنتروبولوجيا الطبيعية، الأركيولوجيا، اللغات القديمة من مسمارية وغيرها، فهذا استرسال مع العاطفة...

وليس من الصدف أن يستضيف (Télé Lumière)، على الهواء مباشرة، لمدة 22 دقيقة، السيد يواكيم الحاج، لمرة ثانية، في حلقة من حلقات "كتاب وكاتب"، إعداد الأب أنطوان الجميل الذي يظهر على الشاشة وهو يقول (ملوحاً بكتاب السيد يواكيم الحاج الجالس أمامه): "سبق وبلقاء آخر تحدثنا عن تاريخ القبيات... حجم الكتاب، ج 2، يدلنا على الجهد والتعب والوقت الطويل الذي يستلزم كتابة من هذا النوع لا سيما عندما تكون الكتابة تاريخية. نعود إلى التاريخ لنفهم الماضي، كما أن الماضي هو الخط الذي أوصلنا إلى الحاضر، والحاضر يضيء لنا المستقبل. كتابة التاريخ تعتمد على الوثائق وعلى المراجع التاريخية، بدها جلد، بدها رؤية، بدها واقعية. وهيدا الكتاب تحلى بالصفات الثلاثة". وبارك يا سيد! شهادة من أكبر وسيلة اعلامية روحية كاثوليكية، بعلمية الكتاب، بجلد كاتبه، ورؤيته، وواقعيته! وفي الختام يقول الأب أنطوان الجميل: "عمل مثل هذا يستحق كل تقدير واحترام. وبارك يا سيد!

كما أن تلفزيون (Lbc) بدوره استضاف في حلقة بعنوان: "القبيات، تلال العز"، بتاريخ 19/3/2000، د. سلوم والسيد يواكيم الحاج، للحديث عن "العظمة" التاريخية في القبيات، وعن الكتابات المسمارية التي صحح كلماتها مؤرخو البلدة. وحيث يشبه د. سلوم وادي القبيات ب"وادي النيل" و"وادي الغانج" و"ما بين النهرين". الذين استحوا ماتوا!

بعض الدوافع لوضع كتابنا هذا نابعة من تساؤل: لماذا كل هذا الاهتمام بمثل هذه الهلوسة التاريخية؟ لماذا تهتم وزارة الثقافة والتعليم العالي في لبنان (وبلدية القبيات...) بكتاب يقوم على الهلوسة التاريخية، وعلى تسفيه مجمل تاريخ بلادنا، ويصف المماليك بالمرتزقة([33])، بينما يمجد الحملات الصليبية قائلاً: "وقد اعتبر هذا التدخل الأجنبي (الحملات الصليبية) غزواً عند بعض الغرباء وعند القبائل المرتزقة، التي أوقفت عند حدها، والتي جاءت إلى لبنان، للقضاء على حريات أبنائه"([34]). أو قوله: "وقد شاءت الارادات الخيرة، أن تقوم بهذه المهمة الانسانية، وقد رأت أن الوقت حان لتنفيذها، فجهزت الحملات الصليبية، وجاء الصليبيون إلى الشرق..."([35]). بل كيف تقبل هذه المراجع الروحية والرسمية رعاية مؤلف يجعل من قادة الثورة السورية على الاستعمار الفرنسي مجرد لصوص وخارجين على القانون: "ولما جاء سعيد العاص، الفار من وجه العدالة السورية الحاكمة، فانضم إلى عصابات اللصوص الأشقياء في جرود عكار – القبيات، والتي يتزعمها المدعو زين مرعي جعفر، وحسن طعان دندش..."([36])؟.

 

ولعل الجواب على هذا السؤال متعدد العناصر بلا ريب. ولكن يبقى في طليعتها ما بدأت به مقدمتي بكلام للدكتور الياس القطار: التسيب الثقافي والفكري... فقدان المعايير العلمية والمقاييس... هجمة بعض الأميين... لقد هزلت الثقافة وهزل التأريخ. والعلة الأساسية هي غياب الحس النقدي، عند الخاصة والعامة، عموماً. وفي ظل هذا الغياب للحس النقدي، وهزال العمل الفكري، تنشط القوى الظلامية تغزي الخرافات، والأوهام على شتى أشكالها. وليس من العبث العودة في كثير من المناطق إلى اعتماد الرقي والشعوذة حتى في المجال الطبي...

ولا يقتصر "تعظيم" القبيات وتزوير أحوالها على الماضي فحسب، بل هو بتناول الحاضر أيضاً.  من ذلك ما لا مجال للخطأ فيه، لمن أراد القيام بعمل علمي، نقصد عدد سكان القبيات، على سبيل المثال. فالأب المحترم موراني يجعل عدد سكان القبيات حوالي ثلاثين ألفاً([37])، في العام 1988، بينما يرفع السيد يواكيم الحاج العدد إلى أربعين ألفاً في العام 1999، ويوضح السيد يواكيم في لقائه مع Télé Lumièreأن العدد يشمل المقيمين والمغتربين. وعندما سأله الأب أنطوان الجميل كم هو عدد المقيمين إلى المغتربين أجاب من 35 ألفاً إلى اربيعين. هكذا مجرد مسألة إحصائية، ويمكن التحقق منها بأبسط الأساليب (دوائر النفوس، لوائح الشطب الانتخابية، عدد أعضاء المجالس البلدية...)، جاءت عرضة لمبالغة غير معقولة على الاطلاق، حيث تتم مضاعفة عدد سكان بلدة القبيات أكثر من ثلاث مرات. لماذا؟ هلوسة مرض العظمة! ولو شئنا مناقشة كل ما جاء به الثلاثي، سلوم وموراني والحاج، من اختلاقات في التاريخ لكان علينا كتابة آلاف الصفحات، فخلف كل صفحة من كتابة هذا الثلاثي مشروع تزوير واختلاق وتعظيم.

وبطبيعة الحال محاولتنا هذه محفوفة بالمخاطرة. شأننا في ذلك شأن كل مؤرخ، لأن درب الكتابة التاريخية محفوفة بالمخاطر. وليس من العبث أن يشبِّه غليوم الصوري عمل المؤرخ بالمغامر في اسطورة اجتياز مضيق مسينا([38]). ولو أن المؤرخ قال الحقيقة فإنه سيثير بوجهه كره الكثيرين، ولو شاء تجنب هذا السخط بإخفاء مسار الأمور، لارتكب جريمة فظيعة([39]). لقد سبق لشيشرون وأشار إلى أنه على المؤرخ اعتماد "الحقيقة" وهي جارحة ومزعجة لأنها مثيرة للغضب والسخط. وإلاّ فإن اعتماد التزلف يكون عيباً وخيانة للضمير([40]).

نحن لا نتوقع من "جمهور" الثلاثي المذكور ترحيباً بكتابنا. وهو جمهور واسع من خيرة أبنائنا، وقد بلغ بهم الوهم والأساطير مبلغاً بعيداً، بما زرعه الأب موراني ود. سلوم من استيهاماتهم (fantasmes)، في رؤوس الناشئة، بحكم دورهم المؤسس والفاعل في حركة شبيبة المنطقة. وندرك أن الحقيقة المؤسفة ستزعجه بلا ريب. لقد عاش قسم كبير من شبيبة المنطقة على "أحلام" عظمة فارغة، ليس من شأن كتابتنا غير أن تنغص على أصحابها غيبوبتهم التاريخية. ولكننا ندعو الجميع إلى نقاش لا هوادة فيه. يكون رصيناً رصانة الحقيقة، وجارحاً جرحها.

وليست الرغبة في "الحقيقة" فحسب هي التي تدفعنا إلى ارتياد هذه المغامرة، ومواجهة سخط منتجي ومروجي التأريخ "التعظيمي" و"التأصيلي" للقبيات وللموارنة. ولكن أيضاً رغبتنا في المساهمة في تجنيب أبناء "الموارنة" ثمن القلق الذي يساهم هذا التأريخ في تنميته واستمراره. نكتب لنحمي أطفالنا ومستقبلنا ووطننا من مهالك أوهام العظمة. نكتب حرصاً على الماروني بقدر حرصنا على كل مسيحي، وبقدر حرصنا على السني والشيعي والعلوي. وبدون هذا الحرص المتكامل، والمتساوي، والمتعادل، لا يكون هناك حرص على أحد. نكتب ولا نجامل الطائفي، من أي طائفة كان. نكتب محاولين الدعوة لبناء وطن لمواطنين متساوين تماماً في الحقوق والواجبات.

نكتب لنبني وطناً لا يكون "بيتاً بمنازل كثيرة"، بل لتتحول تلك المنازل إلى بيت بمنزل واحد.

 

 

الزمن القديم والوسيط

واضح من سياق ما تقدم أن مؤلفنا سيركز على كتابات ثلاثة : د. سلوم، د. الأب موراني، السيد يواكيم الحاج. ولكن ذلك لا يمنع من التعرض في بعض موضوعات بحثنا الراهن إلى مؤلفات غيرهم من المشتغلين في تاريخ عكار. ذلك أن مؤلفنا هذا يركز على تاريخ عكار، منذ أقدم الأزمنة حتى استقرار الأمبراطورية العثمانية. وهذه المرحلة (بل قل المراحل) قلما غامر فيها من العكاريين واللبنانيين، باستثناء ما عالجه الثلاثي القبياتي المذكور.

وعليه يجد المطالع لكتابنا تعرضنا أحياناً، تبعاً للموضوعات التي نعالجها، لمؤلفات معظم المؤرخين لعكار. هذا مع العلم أننا نعد بحثاً هو "تحقيقات" في تاريخ عكار، من بداية الامبراطورية العثمانية ختى الزمن المعاصر.

 

 

صعوبات

           كثيرة هي الصعوبات التي تعترض هذا النوع من البحث. فتحقيق الكتب عمل مضن وشاق. لا سيما متى كانت تلك الكتب غير مضبوطة في تعيين مراجعها وضبط هوامشها، كما هي حال كتاب السيد يواكيم الحاج، وكذلك اطروحة الأب موراني، التي كان مفروضاً أن تتوفر فيها الشروط الأكاديمية الشكلية على الأقل. وهذا ما لم يكن متوفراً فيها مع الأسف.

            ومن أبرز العقبات في التحقيق، أن يصادفك نص منسوب إلى كاتب ما، ثم تعمل جاهداً فلا تعثر عليه في المرجع المعين، فتحاول مرات حتى تتأكد من صحة الاستشهاد أو عدمه. أو أن يصادفك نص تستشم فيه التعيدل على الأصل، فتعمل على متابعته بالصبر المطلوب لتكتشف منطق التعديل فيه.

          وليس من العقبات الصغيرة أن المراجع التاريخية محدودة الانتشار، مما يضطرك إلى السعي من مكتبة عامة لأخرى عـلّـك تفوز بمرجع ما.

          يبقى أن الجهل باللغات القديمة، وهذه حالتي، كالسريانية واليونانية واللاتينية، يشكل ثغرة كبيرة في عمل الباحث المحقق، هذا إذا لم يكن يرغب في ادعاء "فك" الحروف المسمارية.

 

 

 قلق

إن العقبة الأكبر لدى الباحث في تاريخ وواقع مجتمعه، وفي التحقيق للكتابة فيه، هي على العموم علاقة الباحث بموضوع بحثه.ولما كان موضوع بحثي هو المجتمع العكاري عموماً، والقبياتي خصوصاً، والباحثون في تاريخهما، جاءت علاقتي بموضوع البحث على درجة مضاعفة من التعقيد. بالطبع تربطني بمجتمع البحث (عكار والقبيات) علاقة انتماء ووجود واستمرار. فأنا من عكار فرد فيها، تشدني إليها صلة بالأرض: علاقة بنبتة وتربة وصخرة، هنيهة راحة أو عشرة ألم، ساعات تأمل بين شوحها، لحظات كم شدني فيها النظر من على ربى القموعة وعروبة، شمالاً صوب حمص وما خلفها وحولها، وغرباً صوب ميناء طرابلس، وما بينهما تدرج في الهبوط يميع فيه النظر حتى بحر تضيع معالمه، وجنوباً صوب البقاع والسلسلة الشرقية... وفي كل الأحوال روعة غيمة في العشيات، تزحف وكأنها لاهثة تعباً وهي تصعد المنحدرات لتفاجئك عند أقدامك وتلفك كأنها تغمرك مسلمة مودعة.

          تشدني إلى عكار صلة بطبيعتها: ولكم خربتها وقطعت من شجرها أفضله، بقسوة ووحشية، وهي تسامح؛ ولكم اصطدت من طيورها وحيوانها بكل حيوانية بني البشر، تحقيقاً لمتعة، "قوّس وصيب"! ولكم... ولكم...

          وتشدني إلى عكار طفولة في القبيات، ورفقة ل"عجان" الحي والضيعة، تشدني إليها ذكريات آلام عظام، خوفاً من "الآخر": من المسلم، من العربي، من الغريب... تشدني إليها دهشتي باكتشاف هذا الآخر... وأحلام، واوهام الاصلاح والتغيير، تتكسر على صخور التقليد والعصبية العائلية والطائفية والجهل ومقاومة الرأسمال وأذنابه وخدمه وضحاياه. ولكم دغدغتني أحلام "العروبة" والعدالة (الاشتراكية) - وما تزال. تشدني إلى عكار المئات من الشهداء – الضحايا، من كل الأصناف والبلدات والقرى، ذهبوا بمعظمهم في مواسم الموت، "فللموت في بلادنا موسم". تشدني إلى عكار تجارب وتجارب في التغيير والعيش المشترك، تجارب فشل وخيبة مريرة، وتجارب نجاح وأمل... يشدني إليها أنني باق منها وأنني فان فيها...

          وتربطني بمن أحقق كتاباتهم أكثر من علاقة. فمع د. سلوم علاقة قرابة وصداقة ومودة وبعض العشرة، وعلاقة اختلاف في الرأي والممارسة والسياسة، وهنا علاقة اختلاف النقيض بالنقيض. وبالأب د. موراني تربطني علاقة إرث الأباء الكرمليين في القبيات، فلكم تفيأت "جوزات الدير"، ولكم "عفرتها" في تشارين. فهناك تربيت مسيحياً محباً للآخرين، والآخرون فهمتهم بني البشر. تربطني بالآباء الكرمليين علاقة عرفان بجميلهم، في إسهامهم في تكويني الروحي، ولهذا التكوين قسط وافر لما أنا عليه. وتربطني به أيضاً وبنفس الآن علاقة اختلاف، لما هو عليه في رؤيته لتاريخـ"نا"، ومصير"نا"، وفي تحديده هذه "نا" التي نحن عليها. وبالسيد يواكيم الحاج لي صلة ابن الضيعة عامة، فمن بين أهله أعز الأصدقاء، عشران الطفولة والصبا. ومعه اختلاف في الرأي!  ولا أنسى مع الأب نايف اسطفان عشرة الزمالة، واستمرارها مودة مستمرة، وبعض اللقاء وبعض الخلاف في العقلية. كما أشعر مع د. فاروق حبلص، بدون معرفته الشخصية، بعلاقة تقدير لجهده التأريخي الرصين عامة.  وللدكتور محمد خالد الزعبي تقدير كبير لا سيما بكشفه لنا اسم عكار. ولا أنسى الصديق الطيب د. الياس جريج، صاحب الفضل على كل من أرخ لعكار، في الزمن المعاصر، فهو، باشراف د. مسعود ضاهر، واضع المخطط الأول لكل من سار على درب التأريخ لعكار، لا سيما التاريخ الاجتماعي في المرحلة الحديثة. وهذا أمر سيتم عرضه في الجزء القادم من نفس كتابنا، حيث نبين فيه كيف تم الاقتداء بهذا العمل في معظم الدراسات في التاريخ العكاري([41]).

          تشكل كل هذه الصلات مع الأرض العكارية وناسها، انطلاقاً من القبيات – عندقت إلى أقصى وادي خالد إلى السهل المبلل بمياه النهر الكبير وأمواج المتوسط، إلى أعالي الجرود، من أكروم وبيت جعفر وعكار العتيقة مروراً بفنيدق، وصولاً إلى ببنين...، من معازها أو فلاحها المستور (هذا إن أبقت له الرأسمالية وطائفيوها ستراً يستتر به) إلى مدرسها،... وبكواتها (القدامى والجدد)...، وأحزابها...، ورجال الدين فيها...، بحلاوة العلاقة ومرها، بنجاح بعضها وفشل معظمه...، وبشكل خاص علاقتي بالشهداء – الضحايا... يشكل كل ذلك العقبة الأكبر أو العامل الأهم في حسابات المؤرخ والباحث في المجتمع: إنه قلق الباحث. وفي ذلك عودة إلى اسطورة مضيق مسينا.

 

          تبقى هذه المحاولة في جورها دعوة إلى المزيد من الحوار. الحوار في التاريخ، في الماضي، لأنه حوار الرهان على المستقبل. الحوار الجدي، لا حوار المجاملات الفارغة التي نشاهد فصولها الهزيلة في أكثر من مجال ومجال.

 


 

[1] -  القطار، د.الياس: مدخل إلى علم التاريخ ( تطوره – منهجه )، الدار اللبنانية للنشر الجامعي، بيروت، 1982، ص 8.

[2] -  من نماذج التطفل طبيعة التركيبة التي شاركت في "المؤتمر الأول لتاريخ عكار"، المنعقد في "ثانوية راهبات القديس يوسف – منيارة – عكار"، في 14/11/1993. صدرت أعمال هذ المؤتمر، عن دار الانشاء، بعنوان: "المؤتمر الأول لتاريخ عكار، في التاريخ العثماني، 1516 – 1918"، 1995. كان أبرز من عمل على عقد هذا المؤتمر د. فاروق حبلص (أمين السر)، وشارك في أعماله إثنان من كبار المؤرخين في لبنان، د. عمر عبد السلام تدمري ود. مسعود ضاهر، بالاضافة إلى مجموعة من المؤرخين "الناشئين" والبعض ممن لا علاقة له لا بالكتابة التاريخية ولا بأي نوع من الكتابة، وكان اشتراك الصنف الأخير في المؤتمر تعبيراً عن "هزالة" النظر إلى التاريخ، وشكلاً من التطفل على هذا العلم. ومن التطفل قيام البعض في وضع "التواريخ" بمؤلفات ضخمة، دون مرورهم بتجربة إعدادية للتأريخ، أو تمكنهم من الأصول التي رسى عليها التأريخ. وبعض هؤلاء من حملة دكتوراه الحرب الأهلية، على قاعدة "إجازات" جامعات هذه الحرب، وعليهم ينطبق الوصف الذي وصف فيه جاك بيرك بعض حملة الدكتورا العرب في فرنسا، عندما سماهم ساخراً بالفرنسية: "Les daketras".

[3] -  هورس، جوزف: قيمة التاريخ، ترجمة نسيم نصر، منشورات عويدات، بيروت – باريس، ط 3، 1986، ص 18 – 19.

[4] -  ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، مكتبة المثنى، بغداد،(ب. ت.)، ص 35.

[5] -  القطار، د.الياس: مدخل إلى علم التاريخ، مرجع سابق، ص 11.

[6] -  المرجع السابق، ص 15. راجع أيضاً جوزف هورس، مرجع سابق، ص 22.

[7] -  المرجع السابق، ص 16.

[8] -  هورس، جوزف: قيمة التاريخ، مرجع سابق، ص 22 – 23.

[9] -  هَرنشو، ( ج ): علم التاريخ، ترجمه وعلّق حواشيه...، عبد الحميد العبادي، دار الحداثة، بيروت، ط 2، 1982، ص 16.

[10] -  القطار، مدخل إلى علم التاريخ، مرجع سابق، ص 21.

[11] -  عن: جوزف هورس، مرجع سابق، ص 26.

[12] -  المرجع السابق، ص 27، حيث يأخذ القطار على هذا التأريخ "الميول الايديولوجية" فيه.

[13] -  هورس، جوزف: مرجع سابق، ص 31.

[14] -"في نظر المسيحية، التاريخ هو عبارة عن صراع بين مملكة الشيطان ومملكة السموات"، المرجع السابق، ص 28. ويرى هَرنشو أن "المنهج الذي انتهجه آباء الكنيسة في التأريخ... كان المنشئ لفلسفة التاريخ..." هَرنشو، مرجع سابق، ص 27.

[15] -  هَرنشو، مرجع سابق: "التاريخ من حيث هو مدرسة لتعليم البحث السياسي: من الصحيح نسبياً قولهم إن التاريخ عبارة عن سياسة الماضي، وإن السياسة تاريخ الحاضر، فموضوع التاريخ والسياسة واحد..." (ص 109)؛ "التاريخ من حيث هو مستودع السوابق السياسية" (ص 111)؛ "التاريخ من حيث هو أساس للتقدم السياسي" (ص 114).

[16] -  ابن خلدون، المقدمة، مرجع سابق، ص 7 – 8.

[17] -  CHATELET, François: La Philosophie des Sciences Sociales, de 1860 à nos jours, Librairie Hachette, Paris, 1973, p.210.

[18] -  هورس، جوزف: مرجع سابق، ص 49.

[19] -  المرجع السابق، ص 52 – 53.

[20] - . CHATELET, François: op. cit. p. 224

[21] -  هورس، جوزف: مرجع سابق، ص 61 – 62.

[22] -  . CHATELET, François: op. cit. p. 224

[23] -  هَرشنو، مرجع سابق، ص 103.

[24] -  .CHATELET, François: op. cit. p. 224

 

[25] - هورس، جوزف، مرجع سابق، ص 125.

[26] -  بالطبع لا يتحمل "الموارنة"، لوحدهم، مسؤولية هذا القلق. بل هو في جانب أساسي منه وليد عجز "المشروع" العربي عن التحقق. وإذا كنا لن ندخل في نقاش هذا العجز هنا فليس ذلك للتقليل من أهميته، بل لضيق مجال البحث فيه في هذا المقام. لذا نكتفي بتسليط الضوء على المسؤولية الذاتية "للموارنة" في ضرورة الإسهام في السعي إلى تجاوز هذا العجز وخلق الشروط الفاعلة لتحقيق الانصهار الاجتماعي.

[27] -  عبدالله، جوزف: "بلدة القبيات" ملف العدد، مجلة الشمال، العدد65، 29/9/1986.

[28] -  ضو، الأب بطرس: تاريخ الموارنة، 5 أجزاء.

[29] -  سلوم، د. فؤاد: "القبيات مارونية أصلاً واستمراراً"، مجلة الشمال، مرجع سابق، العدد 86، 17/8/1987.

[30] -  MOURANI, Afif (p): L`Architecture Religieuse de Cobiath sous les Croisés,Thèse de Doctorat en l`Histoire de l`Art,  sous la direction de Yves BRUAND, Toulouse 1988.

[31] -  الحاج، يواكيم: عكار في التاريخ، ج 1: أضواء على الماضي وج 2: تاريخ القبيات، مجد، بيروت، 1999.

[32] -  ورد هذا النص في: بولس، جواد: التحولات الكبيرة في تاريخ الشرق الأدنى منذ الاسلام، دار عواد للطباعة والنشر، ص 38.

[33] -  الحاج، يواكيم: عكار في التاريخ، مرجع سابق، ج 1، ص 269 – 392.

[34] -  المرجع السابق، ص 544.

[35] -  المرجع السابق، ص 545.

[36] -  المرجع السابق، ج 2، ص 187 – 191.

[37] -  MOURANI, op. cit., p. 2.

[38] -  تروي اسطورة مضيق مسينا حكايات الخطر العظيم في اجتياز هذا المضيق الذي كان يتربص بالعابرين فيه مخلوقان اسطوريان: كاريبد  Charybde الغول الذي يبتلع مياه المضيق بما فيه من مراكب، وكولا   Sculla  الذي كان يقضي على من ينجو من كاريبد.

[39] -  Guillaume de Tyr: Chronique, dans Croisades et Pèlerinages, Robert Laffont, Paris, 1997, p. 508.

[40] -  المرجع السابق، ص 508 – 509.

[41] -  لم أتقاطع مع ما كتبه الصديق د. فرج زخور في تاريخ عكار، ولذلك ضربت صفحاً عن ذكره، مع ماله في وجداني من كامل المودة والتقدير.

 

 

the Chapters of the book, click on the title to read it: 

Detailed Contents

Part2-Chap1

Part3-Chap1

Part4-Chap1

Introduction

Part2-Chap2

Part3-chap2

(Kobayatian Families)

Part4-Chap2

Part1-Chap1

Part2-Chap3

أحياء القبيات

Part4-Chap3

Part1-Chap2

 

References

 

2000 STAREAST, Inc. All Rights Reserved.

Webmaster Eng.Elie ABBOUD

Back